عام كامل مضى على تفجير 4 آب، عام بطعم العلقم، بارقة الأمل الوحيدة التي برزت خلاله هو توحّد الفئات الأكثر تضرّراً على هدف واحد وهو “القصاص” من المسؤولين عن التفجير. عام لم يجد فيه أهالي الضحايا أو الجرحى أو السكّان المتضرّرون مادياً في السلطة من يواسيهم لا بالكلام ولا بالأفعال، فوقفوا وحدهم يطالبون بالعدالة والحقيقة والقصاص، ووحدهم انتزعوا فتات حقوقهم.
جميع هذه الفئات عوملت من قبل “دولتهم التي فعلت بهم ذلك” بإهمالٍ تام وعدم إنصاف، فأمضت عوائل الشهداء الذين بلغ عددهم 218 ضحية، وتمّ إحصاؤهم بجهود المجتمع المدني والصحافة، تفترش الشوارع للحصول على أبسط الحقوق، وأمضاه الجرحى البالغ عددهم حوالي 7000 جريح يستجدون وزير الصحة من جهة ومدير الضمان الاجتماعي من جهةٍ ثانية لتغطية نفقات استكمال علاجاتهم. ومرّت الساعات ثقيلةً على الأشخاص الذين أصيبوا بإعاقاتٍ جسديةٍ، وهم قرابة 300 شخص، بانتظار مساعدةٍ من هنا وقانونٍ عادلٍ من هناك لكن دون جدوى. وانتظر خلاله السكان المتضرّرون الذين هجّر قسم منهم من منازلهم المهدّمة وتكسّرت سياراتهم تعويضات لم توازِ نسبة من خساراتهم الفادحة، هذه الفئات كافّة وغيرهم من اللبنانيين انتظروا وما زالوا ينتظرون اعتذاراً لن يأتي وحقيقة أغرقها نترات الأمونيوم في سابع بحر.
قبل التفجير كانوا جميعاً فرادى، سال الدم ووقع الدمار فلم يجدوا من يسندهم، لم يجدوا سوى بعضهم البعض تجمعهم مصيبة واحدة. في بادئ الأمر انشغلوا جميعهم بصدمة مصابهم ودفن موتاهم وتدبير معيشتهم إلى أن حلّ الغضب، غضب من نهج الإهمال بحقهم ومن مسار ملف التحقيق، غضب من كيفية التعاطي مع كامل ملف التعويضات وملف المساعدات غير المنصف بحقهم. مخاض عسير مرّ به الأهالي والفئات المتضرّرة كافّة حتى تمكّنوا اليوم من “التشكّل” في هيئاتٍ ولجانٍ ومنهم من تقدّم بطلبات إلى وزارة الداخلية اللبنانية لتأسيس جمعيات رسمية ما زالت تنتظر “العلم والخبر”. ولكلّ واحد من هذه التجمّعات أهداف وخصوصية عمل، ولكنّها تجتمع على تشكيل قوّة ضغط للمطالبة بمعرفة الحقيقة ومحاسبة المسؤولين والحصول على تعويضاتٍ عادلة.
تنقسم “التجمّعات” التي انخرط الأهالي ضمنها إلى ثلاث فئات: تجمّعات تضمّ أهالي الضحايا، تجمّع الأهالي الذين تضرّروا مادياً في منازلهم وسياراتهم ومراكز عملهم تحت مسمّى “تجمّع سكان الأحياء المتضرّرة في انفجار 4 آب”، والفئة الثالثة تشمل الجرحى ومن أصيبوا بإعاقاتٍ الذين لم يتقدّموا بعد بطلبات العلم والخبر إلى وزارة الداخلية إلّا أنّهم وضعوا خطّة عمل وحددوا أهدافهم.
في هذا التحقيق سوف نلقي الضوء على حراك الضحايا، كيف تشكّلوا وتنظّموا في جمعيات ولجان؟ ما أهدافهم، وأساليب الضغط التي يتّبعوها، وخطة عملهم والصعوبات التي يواجهونها وما حقّقوه حتى اليوم وما الذي ينتظرونه؟
أهالي ضحايا تفجير المرفأ في ثلاثة تجمّعات
انتظم معظم أهالي ضحايا تفجير المرفأ في تجمّعاتٍ ثلاث وهي: “لجنة أهالي ضحايا تفجير مرفأ بيروت” قدّمت في كانون الأوّل 2020 طلباً إلى وزارة الداخلية لإنشاء “جمعية أهالي ضحايا تفجير بيروت” وحصلت على “العلم والخبر” من وزارة الداخلية في حزيران 2021 و”جمعية أهالي شهداء فوج إطفاء بيروت” التي تقدّمت بطلب التأسيس في كانون الثاني 2021 وما زالت بانتظار العلم والخبر وجمعية ثالثة يقوم كلّ من بول وترايسي نجّار والديّ الطفلة الضحية ألكسندرا نجّار بتأسيسها.
تعدّد تجمّعات الأهالي تحكمه اعتبارات عدّة منها: كون الضحية “عنصراً في فوج الإطفاء” أو “مدنياً”، حيث تختلف القوانين التي تنضوي تحتها حقوق كلّ فئة، فتختلف بالتالي نوعية المطالب، قيمة التعويض، والجهات المعنية. من جهةٍ ثانية يرفض عدد من الأهالي المطالبة بـ”تعويض مالي” لأنّ ذلك بالنسبة لهم رهان على دماء ضحاياهم كذلك هناك اختلاف في وجهات النظر حول التحقيق في القضيّة، فمنهم من يريد بقاء التحقيق ضمن القضاء اللبناني وفي حال فشله يتمّ التوجّه للقضاء الدولي، ومنهم من يريد تحقيقاً دولياً فيما آخرون يطالبون بلجنة تقصّي حقائق دولية.
هذه التجمّعات على اختلاف مقاربتها تجتمع على مطالب أساسية ومشتركة أوّلها الوصول إلى الحقيقة والعدالة، وتشكّل ثلاث جبهاتٍ في مواجهة السلطة بدلاً من جبهةٍ واحدةٍ، مستعدّة لفتح معارك على أصغر التفاصيل، متّحدة في جميع المناسبات والمواقف المفصلية. وتعتبر كلّ واحدة من جهتها أنّها تمارس أساليب ضغطها الخاصّة المختلفة التي تصبّ في مصلحة الجميع.
البدايات: نسوة أهالي الضحايا حكن خيط البداية
“أول 10 أيام من التفجير كنّا ننطر على بوابة المرفأ، كل ما انتشلوا جثة جديدة نخبّر بعض، فعملنا غروب صغير على واتساب وصرنا نحكي”. هكذا منذ الساعات الأولى التي تلت التفجير بدأ أهالي الضحايا يتضافرون. وكان ذوو العمّال والموظفين في المرفأ الذين لم يعثر على جثثهم بعد، يتواجدون أمام بوابة المرفأ التي تحمل رقم 3 ليلاً نهاراً بانتظار خبرٍ عن أبنائهم. هناك تحديداً نسجت النسوة الثكالى أولى خيوط شبكة التواصل. تقول حنان زوجة شقيق الضحية ثروت حطيط التي كانت تقصد البوابة يومياً مع عوائل الضحايا ومنهم والدة الضحية رامي الأمين وزوجة الضحية علي مشيك وعائلة الضحيّة عماد زهر الدين وغيرهم، أنهنّ كنّ ينتظرن خروج سيارات الإسعاف المحمّلة بالجثث من الداخل، يقبلن عليها ويسألن المسعفين عن هوية الجثة، ويبدأن بإرسال المعلومات لبقية العائلات المنتظرة أو التي تجول على المستشفيات، وهكذا إلى أن تمّ انتشال جثث ضحاياهم، عدن إلى منازلهن وبقيت المجموعة على واتساب رابطاً بينهنّ.
بعد مرور حوالي الشهر، دعا أقارب أحد الضحايا هذه المجموعة الصغيرة المؤلّفة من حوالي 10 عائلات لتناول الغداء في مطعم “الساحة”. يقول إبراهيم حطيط شقيق الضحية ثروة حطيط إنّهم عمدوا خلال هذا اللقاء إلى تشكيل نواة هيئة تأسيسية واتفقوا على تحييد قضيّتهم واستبعاد كلّ متسلّق يحاول الاستفادة من دماء ضحاياهم بعدما حاول بعض “الصحافيين” المحسوبين على الأحزاب التدخّل في شؤونهم، بحسب قوله. “اتّفقنا من الأوّل إنّه حتى نكسب قضيتنا ونحافظ على مصداقيتنا ممنوع يكون في تدخّل للأحزاب، وطردنا أي حدا من غير العائلات من المجموعة اللّي بلشت تكبر”.
أهالي ضحايا التفجير دفعوا الدم ويدفعون من لحمهم الحي لنيل حقوقهم
اتّشح أهالي الضحايا بعد مرور أربعين يوماً على التفجير بالغضب بدلاً من الحزن، انطلقوا يبحثون عن معلومة، عن قانون، عن نقطة بداية، ارتجلوا الأفكار وخطوات التصعيد، وضعوا نصب أعينهم هدفين الأوّل: “مساواة شهدائهم بشهداء الجيش”، والثاني “الوصول للحقيقة”.
وتحت شعار “هالمرّة مش مثل كل مرة” ساروا في خطةٍ مطلبيةٍ تصاعديةٍ. البداية كانت في الذكرى الشهرية الثانية حين نفّذوا وقفةً أمام بوّابة المرفأ حيث ألقى حطيط بياناً شرح فيه مطالبهم وأهدافهم، بعدها نفّذوا وقفةً أمام مبنى جريدة “النهار” عمدوا فيها إلى قطع الطريق على وقع النشيد الوطني كلّ دقيقتين وقاموا بتوزيع مناشير تذكّر بالقضية. انتظر الأهالي اتصالاً من الوزراء أو أحد المسؤولين لكنّ أحداً لم يلتفت لأمرهم. فتداعوا إلى تنفيذ وقفةٍ احتجاجيةٍ أمام تمثال المغترب، هدّدوا خلالها بقطع الطريق في حال لم يردهم اتصال من أحد الزعماء، لكنّ أحداً لم يكترث بهم.
دفعهم إهمال قضيّتهم إلى التصعيد فتوالت الاعتصامات وكانت وقفاتهم الشهرية في الرابع من كلّ شهر بمثابة محطّة أساسية يطرحون خلالها مطالبهم على الهواء مباشرةً ويوجّهون رسائل واضحة أحياناً ومبطّنة في كثير من الأحيان. وككرة ثلجٍ صغيرةٍ راحت المجموعة تكبر لتضم المزيد من الأهالي فتمّ حلّ اللجنة التأسيسية القديمة للمجموعة وتشكّلت لجنة تأسيسية جديدة للجنة أهالي ضحايا مرفأ بيروت ضمّت أهالي ضحايا من طوائف وفئات مختلفة، لجنة راحت مهامها تكبر وتتشعب حتى قامت في كثير من الأحيان مهام مؤسسات الدولة.
وواجه الأهالي صعوباتٍ عدّة وكانت طريقهم للوصول إلى أبسط الأهداف حافلة بالذل والقهر والبكاء، فكان أبسط تفصيل يتطلّب منهم اعتصامات لأيامٍ، ومن أبرز الأمور التي عانى فيها الأهالي الكثير لتحصيلها هي: مساعدة الهيئة العليا للإغاثة، ومساواة شهدائهم وجرحاهم بشهداء وجرحى الجيش اللبناني.
مساعدات الهيئة العليا للإغاثة لم تأت على طبق من فضّة
يمكن الجزم بأنّ أهالي الضحايا لم يتمكّنوا من تحصيل أدنى حق ّمن حقوقهم سوى بجهد ومشقّة، فبعد وقوع التفجير بأشهرٍ عدّة قامت الهيئة العليا للإغاثة بصرف مساعداتٍ لأهالي الضحايا اللبنانيين والأجانب تبلغ قيمتها 30 مليون ليرة ليرة لمن هم فوق العشر سنوات و15 مليوناً لمن هم دون العشر سنوات. لكنّ الأهالي لم يتمكّنوا من تحصيلها بسهولةٍ، فقد عانى عدد كبير من الأهالي ولا يزالون من كثرة الأوراق والمستندات المطلوبة، وكثرة الجهات الواجب تقديمها إليهم للحصول على المساعدة.
فتبدأ رحلة تقديم الأوراق المطلوبة من دوائر النفوس والمحاكم والوزارات والسفارات مروراً بالهيئة العليا للإغاثة ومنها إلى المصارف حيث تقوم الهيئة بصرف المساعدة عبر شيكات مصرفية، وكلّ هذه الجهات تطلب صوراً طبق الأصل عن الأوراق ولا تكتفي بنسخٍ مصوّرة عن الأصلية، ما كلّف الأهالي مبالغ مالية طائلة، ومن تمكّن منهم من تخطّي عقبة تأمين تجهيز الأوراق وحصل على الشيك اصطدم بعقبةٍ ثانيةٍ ألا وهي عدم قبول أي مصرف فتح حساباتٍ جديدة بسبب القيود الاعتباطية التي تفرضها المصارف منذ بداية الأزمة المالية. وهذا ما دفع لجنة الأهالي إلى إجراء اتصالاتٍ عدّة بالمعنيين وعلى مدى أسابيع حتى تمكّنوا في نهاية المطاف من حلّ هذه العقبة بعدما وافق البنك السويسري الكندي على فتح حساباتٍ مصرفيةٍ جديدةٍ وبالليرة اللبنانية.
صعوبة تحصيل المساعدة المالية من الهيئة العليا للإغاثة يعاني منها بشكلٍ أساسي أهالي الضحايا الأجانب وبخاصّة السوريين الذين لا يستطيعون تحصيل الأوراق المطلوبة نظراً لظروف الحرب في بلادهم، وبعضهم تكلّف مبالغ مالية طائلة للحصول على هذه الأوراق فوجد نفسه قد دفع ما يعادل قيمة المساعدة وأكثر. وقد بلغ عدد الذين استفادوا من المساعدة لغاية حزيران 2021، 113 عائلة من أصل 207 حوّلت أسماءهم القوى الأمنية إلى الهيئة العليا للإغاثة، علماً أنّ عدد الضحايا هو 218 ضحية لغاية تموز 2021.
أهالي الضحايا ينتزعون القانون 196/2020
يقول حطيط لـ”المفكرة” إنّه كان لا بدّ في البداية من تأمين دخلٍ ثابتٍ للعائلات التي فقدت معيلها كي يتمكّنوا من خوض معركة الوصول “للحقيقة”، “كيف هالأهالي بدها تقاتل للوصول للحقيقة والعدالة إذا ملبّكة بتأمين لقمة عيشها”، يضيف. فبدأوابإجراء اتصالات بالرؤساء الثلاثة لتوقيع مرسوم لمشروع قانون يهدف إلى مساواة شهدائهم بشهداء الجيش، إلّا أنّهم لم يتمكّنوا من الحصول عليها إلّا “بطلوع الروح”، وفي حين وقّع دياب مباشرةً كذلك الحال بالنسبة لرئيس الجمهورية، تطّلب الأمر مراسلات ودعوات عبر برامج تلفزيونية لرئيس المجلس النيابي نبيه برّي كي يمّن عليهم بمقابلتهم وبتوقيعه، حتى فعلها أخيراً بعدما أثار حطيط المسألة وعلى الهواء مباشرةً.
بعدها راح الأهالي ينتظرون انعقاد جلسة نيابية لإقرار القانون، إلى أن دعا برّي إلى عقد جلسةٍ للجان النيابية المشتركة فاستغلّ الأهالي المناسبة ونفّذوا اعتصاماً أمام مدخل البرلمان دام ساعات، ووضعت قوى مكافحة الشغب في ذلك النهار في مواجهة الأهالي العزّل الذين هدّدوا باقتحام المجلس في حال عدم تنفيذ مطالبهم، وأوّلها توقيع أحد النواب على المشروع لضمان إحالته إلى المجلس النيابي للتصويت عليه.
صمد الأهالي في ساحة النجمة لمدّة 4 ساعات تحت المطر، ولم يغادروا إلّا بعدما حملوا بين أياديهم اقتراح القانون موقّعاً من النائب في كتلة التحرير والتنمية الوزير السابق علي حسن خليل، وتأكّدوا من تحويله إلى المجلس النيابي، ليقرّ بعدها القانون بتاريخ 27 تشرين الثاني 2000 بمادّة وحيدة تنصّ على اعتبار: “الأشخاص المدنيّين الذين استشهدوا في انفجار مرفأ بيروت هم شهداء في الجيش اللبناني، يستفيد أصحاب الحقوق من تعويضات ومعاشات تقاعد جندي استشهد أثناء تأدية الواجب، كذلك يعتبر الأشخاص الذين أصيبوا بإعاقةٍ كاملةٍ أو جزئيةٍ من جرّاء الانفجار المذكورون، مشمولين مدى الحياة بالتقديمات الصحية للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، كما من المعونات والحقوق والإعفاءات التي يستفيد منها أصحاب الاحتياجات الإضافية التي أقرّت بموجب القانون رقم 220 المتعلّق بحقوق الأشخاص ذوي الاحتياجات الإضافية”،
حسم من مستحقّات الأهالي ووزيرة الدفاع تمسك العصا القانونية
لم تنته معركة الأهالي بمجرّد إقرار القانون رقم 196/2020 بل عادوا لمواجهة عقبات وعراقيل لتنفيذه من شأنها تخفيض قيمة مستحقّاتهم، فبعدما تقدّم الأهالي بملفّاتهم إلى قيادة الجيش اللبناني لإثبات حقّهم في الحصول على راتب تقاعدي كشهداء في الجيش اللبناني، ردّ الجيش الطلبات التي لم يحدّد فيها ساعة ودقيقة الوفاة، وهو خطأ ارتكبه عدد من المخاتير ودفع ثمنه الأهالي وقتاً وجهداً إضافيين، رفض الجميع إصلاح الخطأ (مخاتير ومأمورو نفوس) لا بل طلب المخاتير المعنيّون من الأهالي اللجوء إلى المحاكم المدنية لرفع دعاوى لتصحيح الأخطاء، ولم تقبل أي من الجهات المعنية التغاضي عن هذا التفصيل إلّا بعد أن قام الأهالي بتوجيه رسائل وتهديداتٍ عدّة عبر وسائل الإعلام مخاطبين وزيرة الدفاع زينة عكر بالتدخّل لحلّ هذه الطلبات “المذلّة”.
كذلك حاولت الاقتطاع من مستحقات المفعول الرجعي عبر احتسابه من تاريخ إقرار القانون وليس من تاريخ الاستشهاد، وكانت هناك نقاشات داخل وزارة الدفاع حول أحقيّة حصولهم على بدل طبابة وتعليم أسوةً بأهالي وأولاد شهداء الجيش اللبناني. كل هذه العقبات عرضها الأهالي في صولاتهم وجولاتهم وأنشطتهم ووقفاتهم الاحتجاجية، حتى استجابت وزيرة الدفاع زينة عكر لنداءاتهم وعقدت معهم سلسلة لقاءات ذللّت خلالها العقبات.
تقول ماريانا فودوليان التي عيّنها الأهالي كرئيسة “جمعية أهالي ضحايا تفجير المرفأ” وشقيقة الشهيدة غايا فودوليان، إنّ الوزيرة يرافقها أحد ضباط الجيش كانا يستمعان إلى مطالب الأهالي ويعودان إلى مراجعة القوانين والأنظمة الداخلية للإجابة على الأسئلة والطلبات، ومن أبرز النقاط التي نوقشت هي: إلغاء تحديد ساعة الوفاة، إعطاء تصنيف لشهداء التفجير بهدف تحديد المستحقات والحقوق المنوطة بالتصنيف، حيث تم اعتبارهم “شهداء الواجب” وهذا التصنيف له نسبته الخاصة من الرواتب والمستحقات، كذلك تم تحديد تاريخ المفعول الرجعي لنيل المستحقات من لحظة الاستشهاد وليس من تاريخ إقرار القانون الذي جاء بعد حوالي ثلاثة أشهرٍ من التفجير، كذلك تمّ تذليل عقبة فتح حسابات مصرفية لتوطين الرواتب الأهالي الجديدة حيث تواصلت وزيرة الدفاع مع عدد من المصارف وجاء الحلّ على شكل تقسيم طلبات الأهالي إلى مجموعات توزّع على المصارف كافة، فيما لا تزال نسبة مستحقاتهم من الطبابة والتعليم قيد المباحثات. وتقول فودوليان إنّ النقاش الدائر حالياً هو حول اختيار الجهة الضامنة لعائلات الضحايا، هل سيبقون على عاتق مؤسسة الجيش اللبناني أو سيحالون على مؤسسة الضمان الصحي.
أهالي شهداء فوج الإطفاء المصير واحد
عند الساعة الخامسة من بعد ظهر يوم التفجير ورد اتّصال إلى مركز فوج إطفاء بيروت فرع الكرنتينا، هرع معظم عناصر الفوج للذهاب في المهمة كما هي عادتهم، يتشاجرون فيما بينهم كأبناء البيت الواحد، يزاحمون بعضهم البعض على الذهاب في المهمّات. عشرة عناصر استدرجهم الموت وغدرت بهم دولتهم وهم: سحر فارس، ورامي كعكي، وشربل كرم، والياس خزامي، ونجيب حتّي، وشربل حتّي، ورالف ملاحي، وجو نون، ومثال حوّا، وجو بوصعب. وإذا كان أهالي الضحايا جمعتهم صدفة الموت، فإنّ أهالي شهداء فوج الإطفاء تجمعهم زمالة أولادهم وهم أصدقاء ومنهم أقارب في الأصل.
بعد التفجير بحوالي الشهر بدأوا يجتمعون ويلتقون لمناقشة خطّة تحرّكاتهم وقرّروا تأسيس جمعية خاصّة بهم. يعتبر ويليام نون شقيق الشهيد جو نون أنّ هناك ضرورة لاستقلاليّتهم عن أهالي الضحايا “المدنيين” كما يسمّيهم نظراً إلى أنّ عناصر فوج الإطفاء محسوبون على “العسكر”، لأنّ مسبّبات قتلهم مختلفة. فعناصر فوج الإطفاء على عكس الضحايا المدنيين أرسلوا إلى الموت بعد أن تمّ استدعاؤهم إليه بدلاً من تحذيرهم، “دقّولهم عالمركز قالولهم نزلوا موتوا، إنتو بتعرفوا بوجود النيترات وما حذّرتوهم”. ويشرح أنّ المدّة الزمنية الفاصلة بين الحريق ووصول العناصر كانت كافية لتنظيم عملية إخلاء للمرفأ وإنذار بقية السكان ربما بالابتعاد عن الزجاج، وبالتالي كان يمكن تدارك زهق أرواح عدّة. وهذا ليس بتفصيل بالنسبة إلى نون بل يحتّم مواجهة أعنف وأشرس مع السلطة، مواجهة لها قواعدها وتكتيكاتها الخاصّة. من جهةٍ ثانية يعتبر نون أنّ معركتهم المطلبية مختلفة لأنّ مستحقّات ورواتب التقاعد لعناصر فوج الإطفاء تخضع لقانون خاص لا يخضع له أهالي الضحايا “المدنيين”. من جهةٍ ثالثة فإنّ عناصر فوج الإطفاء في بيروت مرتبطون تلقائياً بأفواج الإطفاء العالمي التي يقدّم بعضها العون لهم في مسائل عدّة، من هنا فإنّ استقلالية الجمعيات تصبّ في مصلحة الجميع، بحسب نون.
حراك جمعية أهالي شهداء فوج الإطفاء
تختلف مطالب أهالي شهداء فوج الإطفاء عن مطالب أهالي الضحايا المدنيين، فهم عبارة عن جسم أمني مستقلّ له تنظيمه الخاص ومرجعيته التابعة لبلدية بيروت ومحافظها، وفي حين كان أهالي الضحايا “المدنيين” يسعوون لتسوية شهدائهم بشهداء الجيش كان أهالي شهداء فوج الإطفاء يخوضون معركتهم حول قيمة تعويضات ومخصّصات شهدائهم التي لم يبتّ بها سريعاً.
فقد نشب خلاف بين محافظ بيروت ورئيس البلدية جمال عيتاني حول قيمة التعويض النهائي، ففي حين أصرّ محافظ بيروت مروان عبود على 100 مليون ليرة، رفض عيتاني في البداية ليوافق في الأخير. نقطة الخلاف الثانية كانت تتعلّق بتثبيت عناصر فوج الإطفاء الذين التحقوا في العام 2017 واستشهد منهم ثلاثة عناصر، ففي حين أراد عبّود تثبيت كامل عناصر الدفعة بعد عرقلة المحافظ زياد شبيب لها، أصرّ عيتاني على تثبيت الشهداء الثلاثة فقط، ما دفع بعناصر الفوج إلى الاعتصام أمام مقرّ البلدية. اليوم حصل أهالي عناصر فوج الإطفاء على تعويض 100 مليون بالإضافة إلى معاشات شهرية تتراوح بين مليون ومليون وثلاثمئة ألف بحسب أقدمية الخدمة.
ويلخّص نون أهداف جمعية أهالي شهداء فوج الإطفاء التي لا تزال تنتظر العلم والخبر من وزارة الداخلية بالآتي: متابعة سير التحقيق والقضاء وهم يطالبون بالإجابة على أسئلة عدّة منها: “مين فوّت الباخرة وموّلها، مين حماها من الأجهزة، ومين افتعل الحريق لتفجّروا النيترات؟”. ثانياً: السعي لإنشاء لجنة تقصّي حقائق دولية، ثالثاً: العمل على تقديم المساعدة لمراكز فوج الإطفاء ودعمها بمعداتٍ حديثة والعمل على إيجاد خريطة توضح أماكن وجود المواد الخطرة المشتعلة في العاصمة.
وغالباً ما ينظّم أهالي فوج الإطفاء وقفات احتجاجية ونشاطات خاصّة بهم من دون بقية أهالي الضحايا أبرزها نشاط “شاحنة الموت”، جمعوا فيه حوالي 5000 رسالة من متضرّرين ورفعوها إلى مندوبة الأمم المتحدة في لبنان يطلبون فيها مساعدتها في الضغط لتعيين لجنة تقصّي حقائق دولية. ومن أساليب الضغط التي اتّبعها أهالي فوج الإطفاء هي مقابلة المسؤولين وتوجيه أسئلة هي محط استفسارٍ لدى الرأي العام، وفي حين قام رئيس حكومة تصريف الأعمال حسّان دياب بمقابلتهم، رفض رئيس الجمهورية ذلك بعدما طلب الاطّلاع على مضمون الأسئلة المنوي توجيهها له، وبعد الاطّلاع عليها رفض طلبهم وتمّت مخاطبتهم من قبل ضبّاط الحرس بلهجةٍ وصفوها بالـ”فوقية”، “صار يقلّنا مين إنتو حتى تحكوا هيك مع الرئيس؟ وكيف بتسمحوا لحالكم تحاسبوا الرئيس؟” وبعد استنكار الحادثة عبر وسائل الإعلام، سارع مكتب الإعلامي لرئاسة الجمهورية إلى إصدار بيان تمّ خلاله نفي المسألة مبرّراً بأنّ المقابلة تأجّلت ولم تلغ، لكن لم يضرب لهم موعد جديد.
أهالي الضحايا ضدّ الأحزاب “كلّن يعني كلّن”
حرص جميع أهالي ضحايا تفجير المرفأ على تحييد قضيتهم عن التدخّلات الحزبية والاستغلال السياسي، بحسب ما جاء على لسان فودوليان التي اعتبرت أنّ هذا الخيار لم يكن سهلاً على الكثير من العائلات في ظلّ الضغط المعيشي والذي كان يمكن للأحزاب أن تخفف منه، إلاّ أنّهم لم يقبلوا بأيّ مساعدة لا مادية ولا معنوية لأنّ “جميع الأطراف والمجموعات لديها أهدافها الخاصّة التي تؤثر سلباً في مصلحة القضية”. ويحرص الأهالي بحسب حطيط، على استقطاب الثوّار والمستقلّين وحتى المحزّبين المستائين من الوضع لتوحيدهم في جبهة واحدة. كذلك هو الحال بالنسبة لأهالي فوج الإطفاء الذين بحسب نون أوقفوا بمعظمهم نشاطاتهم الحزبية كافة وتفرغوا لمتابعة سير التحقيق، والتحرّك اليتيم مع أحد الأحزاب كان عندما قاموا بتوقيع عريضة تقدّمت بها كتلة “الجمهورية القوية” النيابية لرفعها إلى مكتب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش للمطالبة رسمياً بلجنة تقصي حقائق دوليّة (يختلف عن نشاط الأوّل الذي تضمّن زيارةً الأهالي لمندوبة الأمم المتحدة وإن كان المطلب واحداً وهو “الضغط باتجاه تعيين لجنة تقصي حقائق دولية”). ويوضح نون أنّ التحرك جاء تماشياً مع قناعات أهالي فوج الإطفاء بغض النظر عن سياسة الكتلة وانتمائها الحزبي (حزب القوّات اللبنانية) التي تقدّمت بالاقتراح.
طار صوان غط بيطار والأهالي لهم كالصقور
دعم أهالي الضحايا والشهداء المحقق العدلي الأوّل فادي صوان، واعتبر حطيط أنّه “كان لا بدّ من منح القاضي الذي يحاربه جميع السياسيين بعض من الثقة والراحة، لذا كنّا نطالبه بالمضي قدماً ونقول له نحن بضهرك وحدك”. ويوضح حطيط قائلاً “إذا السياسيين عم يعرقلوا شغلو ونحن كمان جينا ضدّه، كيف بدّه يشتغل”، كان الهدف هو تشجيع صوان على العمل وإعطائه الفرصة اللازمة، إلّا أنّه وبعد أن اعتكف لفترةٍ طويلة على الرغم من مطالب الأهالي المتكرّرة له بمزاولة عمله، وبعد أن ارتكب هفواتٍ عدّة “لا يرتكبها قاضٍ مخضرم” منها الاتهامات العشوائية والاستنسابية، ضاق به الأهالي ذرعاً بحسب حطيط. ولكن برأي ويليام نون القاضي صوّان هو من دفع باتّجاه تنحيته “ما بقى بدّه، قام عمل خطوة ناقصة ليتمّ تنحيته”، لكنهم على الرّغم من كلّ هذا بقيوا متمسّكين به كونهم يعلمون صعوبة تعيين قاض جديد.
ومع صدور قرار تنحيته قرّر أهالي الضحايا التحرّك كلّ على طريقتهم، وفي الليلة التي صدر فيها قرار التنحية دعت لجنة الأهالي إلى اعتصام أمام العدلية استمرّ حتى منتصف الليل ومنحوا المعنيين مدة 24 ساعة لتسمية قاضٍ جديد. من جهةٍ ثانية ٍكان أهالي فوج الإطفاء يعدّون الجرّافات والرافعات للتوجّه من جونية إلى قصر العدل في بيروت مهدّدين بتكسيره. وبحسب نون فقد عرقل الجيش طريقهم بإيقافهم لساعات، في هذه الأثناء صدر قرار تعيين القاضي فادي بيطار كمحققٍ عدلي جديد.
يشيد حطيط ونون باستراتيجية القاضي بيطار بالتعاطي مع ملف التحقيق المغايرة برأيهم لاستراتيجية سلفه، فهو بحسب قولهم يدرس خطواته جيّداً ويحضّر ملفاته، ومنذ استلامه كان شعار بيطار أنّه “لن يترك مرتكباً خارج السجن، ولن يُبقي بريئاً في السجن”، من هنا قام بإطلاق سراح عدد من الموقوفين. كذلك يحرص بيطار على الاجتماع بالأهالي بشكلٍ دائم كلّما دعت الحاجة لإطلاعهم على المجريات كافّة ما يبعث الطمأنينة في نفوسهم.
والملفت أنّ نون ورفاقه شكّلوا خلال هذا العام فريق عمل تحقيق مصغّر، يقومون بتجميع وأرشفة معلومات ومستندات متعلقة بالتحقيق، كذلك يسعون لإيجاد أجوبة عن الأسئلة التي تشغل بالهم فيسعون لإجراء مقابلات مع شخصيات معنيّة وموقوفين ومشتبه بهم، وقد قابل نون مدير عام الجمارك اللبنانية بدري ضاهر في سجنه وزوّده الأخير بالكثير من المعلومات والمستندات بحسب قوله.
حقوق الجرحى طابة يتقاذفها الجميع
على الرغم من المأساة الكبيرة التي مني بها الأشخاص الذين أصيبوا بإعاقات جسدية، إلاّ أنّ دولتهم لم تشملهم لغاية اللحظة بقانونٍ عادلٍ منصفٍ يحفظ لهم حقوقهم والعيش الكريم، فالدولة بهيئاتها المساعدة كافة وجدت أنّ لا أولوية في التعويض أو التقديمات لمن فقدوا أجزاء من أجسادهم أو إحدى حواسهم وبالتالي العمل وبالتالي أيضاً إعالة أبنائهم وذويهم، لا بل أصبحوا بحاجة إلى رعاية دائمة مع ما يتطلّبه الأمر من تكاليف مضاعفة.
وفي حين يظنّ الوزراء والنوّاب وجميع موظّفي الدولة في المرافق المعنيّة (وزارة صحة، ضمان اجتماعي، وزارة الشؤون الإجتماعية) أنّ الدولة أنصفت من أصيبوا بإعاقة من خلال القانون 196/2000 الذي اكتفى بضمان استفادة الجرحى أصحاب الإعاقات الجسدية من خدمات الضمان الاجتماعي ولم يساو بينهم وبين شهداء الجيش كما جرى مع الضحايا تعتبر سيلفانا اللقيس رئيسة الاتحاد اللبناني للأشخاص المعوّقين حركياً أنّ هذا القانون هو مجرد حبر على ورق ولا قيمة تنفيذية له، وهذا القانون بالتحديد الذي جاء أعجز من أن يقدّم أيّ مساعدة لأيّ معوّق، هو الذي أثار ثائرة هذه الفئة فتعامل الدولة “الكارثي” مع حقوق هذه الفئة حيث المزيد من التهميش والاستهتار هو ما دفع باتجاه التداعي للتجمع ومناقشة إمكانية تأسيس جمعية تعنى بحقوقهم.
ومن المفترض أن تستهدف الجمعية المنتظرة فئات ثلاث هم: أشخاص أصيبوا بإعاقاتٍ مؤقّتةٍ جرّاء التفجير، أشخاص أصيبوا بإعاقاتٍ دائمة، بالإضافة إلى معوّقين سابقين تضرّروا من التفجير جسدياً أو مادياً.
وتعتبر اللقيس أنّ أهمية الجمعية المنتظر تأسيسها تكمن في أنّها وسيلة وجسم ينتظم فيه الأشخاص المصابون بإعاقاتٍ يحدّدون فيه أولويّاتهم وخطواتهم ويدافعوا فيها عن حقّهم في مسارهم الطويل، ومفترض أن تتألّف هيئتها التأسيسية من حوالي 12 شخصاً تنقسم أهدافها إلى مطلبية بالتعويض مقابل الضرر المادي بالإضافة إلى الإعاقة الجسدية، من هنا يتمّ تجهيز طلب رسمي لتوقيعه من الرؤساء الثلاث يتضمّن المطالبة بتعويض عن الجريمة التي ارتكبت بحق هذه الفئة، والهدف الثاني يتعلّق بتدريب الأعضاء على المناصرة والعمل الحقوقي.
وقد تمّ وضع خطة مدتها سنة يتم خلالها العمل على الحصول على رخصة الجمعية بالإضافة إلى العمل على مراحل ثلاث: المرحلة الأولى تدريب وتمكين الأفراد لمساعدتهم على تخطي “النموذج الطبي” لحالتهم والعمل على “النموذج الاجتماعي”، المرحلة الثانية التدريب على المناصرة وتعميق المعرفة بالجوانب القانونية المتعلقة بالأشخاص ذوي الإعاقة الجسدية. ثالثاً حق الوصول إلى المعلومات ودمج قضيتهم بخطة إعادة إعمار مدينة بيروت، التي بحسب اللقيس يجب أن يكون دور هذه الفئة أساسي فيها لطرح البدائل والضغط باتجاه مراعاة معايير الدمج.
السكان المتضرّرون “لا للإخلاءات” وعينٌ على إعادة الإعمار
يشير المسح الميداني الذي أجراه الجيش للمناطق المتضررة إلى وجود حوالي 87,519 ألف وحدة سكنية متضرّرة منها 9000 وحدة غير قابلة للسكن، هؤلاء المتضرّرون الذين ما زال قسم كبير منهم خارج منازلهم، تمّ التعامل معهم بعبثيةٍ مطلقةٍ من قبل الجهات كافة (منظمات دولية، مؤسسات الدولة وحتى جمعيات المجتمع المدني). ففي اليوم الثاني للتفجير غصّت شوارع المدينة المهدمة بالجمعيات والمبادرات والمتطوّعين الذين حاولوا قدر المستطاع تقديم المساعدة للسكان المتضرّرين، فوضى كبيرة رافقت طريقة العمل فغابت معايير الواضحة للمساعدة، وجاءت تعويضات الجيش لتزيد الطين بلّة من عدم مراعاة مبادئ الأولوية، إلى الـتأخر في الدفع. كلّ هذه السياسات وطرق العمل زادت من نقمة المتضرّرين ما دفعهم باتجاه التفكير جدياً في ضرورة التجمّع لإنشاء جمعية تعنى بحقوقهم وهم اليوم في طور تأسيس ما يسمى “تجمع سكان الأحياء المتضررة من انفجار 4 آب” الذي حتى كتابة هذا التحقيق أي في تموز العام 2021 كانوا ما زالوا في طور تنظيم شأنهم الداخلي، ولم يتقدّموا بعد بطلب “العلم والخبر” إلى وزارة الداخلية لتأسيس جمعية لهم.
انطلقت فكرة التجمّع ممّا عاناه السكان من تهميش في المبادرات والقرارات من جميع الجهات التي اتّخت على صعيد المناطق المتضرّرة، وفي صميمها رفض التعامل مع السكان على أنّهم طالبي المعونة ومستفيدين ممّا قد يمنّ عليهم من الجهات المعنية وضرورة استعادة مكانتهم كأشخاص فاعلين ومعنيين بالدرجة الأولى. ويشمل نطاق عمل التجمّع المنتظر تأسيسه سكان ثمانية أحياء متضرّرة وهي: مار مخائيل، الكرنتينا، الجميزة، الصيفي، الأشرفية، الباشورة، برج حمود، الجعيتاوي.
يقول حمزة السعيد، متضرّر مقيم في محلّة الكرنتينا وعضو في الهيئة العامة لجمعية السكان المتضررين مادياً، إنّ نقمة الناس التي عوملت بطريقة معيبة ومجحفة، كبيرة على الدولة اللبنانية، ولديهم هواجس عدّة منها الخوف من تنفيذ قرارات إخلاءات للمنازل بهدف إعادة الإعمار، وتأتي أهمية وجود هذا التجمّع في توحيد جهود الأفراد وتركيزها من خلال لجان الأحياء، بحيث تهتم كل لجنة بمشاكل شارعها وخصوصياته، فتهتم وتراقب وتعمل وتضغط باتجاه تحقيقٍ عادلٍ.
وقد تمكّنت الهيئة التأسيسية للتجمّع من تحديد خطوط أولية لأهدافها وأهمها: متابعة التحقيق والوصول للحقيقة والعدالة في تفجير المرفأ، العمل على التعويضات لسكان المناطق وفقاً لمعايير شفافة تراعي مبادئ الإنصاف والعدالة، إعادة إحياء المناطق المتضررة والتصدي لأية سياسات لا تأخذ بعين الاعتبار السكان وحقهم في العودة إلى منازلهم
في حين لا تزال خطة عمل التجمع قيد التحضير، يتمّ متابعة القرارات المتعلقة بإعادة الإعمار كافة، حيث يحرص السكان على إعادة إحياء النسيج الاجتماعي وعدم الاكتفاء بإعمار الحجر، بخاصةً وأنّ عدداً كبيراً من العائلات ما زالت خارج منازلها بسبب أعمال الصيانة.
دعم قانوني أنار طريق التجمّعات
بعيد وقوع التفجير برزت حاجة أهالي الضحايا والمتضرّرين مادياً وجسدياً حاجات للدعم القانوني، الحاجة الأولى تمثلت بتشجيع المتضرّرين على تقديم الشكاوى، من هنا بادرت نقابة المحامين في بيروت بإنشاء خلية أزمة فنصبت الخيم في الأحياء المتضرّرة وتم إنشاء 7 مراكز لتلقّي الشكاوى من المتضررين التي وصل لغاية اليوم إلى حوالي 1500 شكوى، وتمّ فرز القضايا إلى فئاتٍ ثلاث “ضحايا، أضرار مادية، وأضرار جسدية”. كذلك تقوم منظمات حقوقية من بينها “المفكرة القانونية” و”روّاد الحقوق” و”استيديو اشغال عامّة” بتقديم الدعم القانوني وتكليف محامين للتوكّل عن المتضرّرين وأهالي الضحايا.
على صعيد لجنة أهالي الضحايا يقول حطيط إنّهم مع وقوع التفجير وبدء التحركات برزت الحاجة إلى معرفة كيفية توجيه الخطاب وأساليب الضغط وتحديد المطالب أوّل بأوّل، في البداية “بلّشنا نوعى إنّه نحن بدنا نعرف حقوقنا وموقعنا القانوني نظراً إلى إنّه بدنا نرفع دعاوى، كيف بدنا نتوجّه ولوين”. وقع الإرباك والحيرة بين التوجّه إلى القضاء الدولي أو التركيز على القضاء اللبناني، وكان تجربة المحكمة الدولية في قضية الشهيد رفيق الحريري غير مشجعة لعدد كبير من الأهالي بالإضافة إلى حاجتها لمصادقة من مجلس الوزراء والنواب. من هنا تمّ استبعاد اللجوء إلى القضاء الدولي لما فيها من هدر للوقت المال، وحصلوا على المشورة القانونية من “المفكرة القانونية” و”نقابة المحامين”. يقول حطيط إنّهم قرروا كأهالي وضع الثقة في القضاء اللبناني والتعويل على القضاة النزهاء فيه. وعلى الرغم من أن أهالي شهداء فوج الإطفاء كانوا في البداية مع محكمة دولية إلّا أنّهم وافقوا على استلام القضاء اللبناني ولكنّهم وذوي الشهيدة ألكسندرا مصرّين على ضرورة وجود لجنة تقصّي معلومات دولية للحصول على تقرير يتم استعماله والاستناد إليه من قبل العدالة اللبنانية أو غيرها.
بالإضافة إلى المسائل القانونية المتعلّقة بالمحكمة والدعاوى كان هناك حاجة لدى الأهالي إلى معرفة القوانين المتعلقة بتعويضاتهم وحقوقهم، وقد عملت “المفكرة القانونية” على إصدار دليل قانوني لضحايا تفجير الرابع من آب، ضمت أقسامه الخمسة المعلومات الأساسية التي قد يحتاج إليها الضحايا من معلومات وإرشادات متعلّقة بالقوانين والتعويضات وغيرها.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.