طرد الباعة اللاّنظاميين: واجهة أخرى لعودة الاستبداد


2024-04-19    |   

طرد الباعة اللاّنظاميين: واجهة أخرى لعودة الاستبداد
رسم عثمان سلمي

في مساء الثلاثاء 03 أفريل 2024، أضرمت إمرأة تبلغ 59 سنة النّار في جسدها احتجاجًا على طردها من الرصيف الذي كانت تَفتَرشُه في وسط مدينة صفاقس لبيع بعض الملابس للمارّة. لا يُمكن تجاوز أوجه التشابه بين هذه الحادثة المأساويّة واحتجاج البوعزيزي، شرارة الثورة ولهيبها بكلّ ما تحمله الكلمات من معاني. تعود السلطة إذًا لسياسة طرد الباعة اللاّنظاميّين مستعملة حدّة القبضة الأمنية وخطابًا ماضويّا يحنّ لأمجاد كاذبة.
مرّ شهر رمضان، على غير العادة، وشوارع العاصمة والمدن الكبرى خالية من الباعة اللاّنظاميّين. إذ تختنق الشوارع بالزحام، ولكن هذه المرّة بفعل حواجز البوليس وتمركز أجهزته بالشوارع التي طالما احتضنتْ في السابق الباعة اللاّنظاميين وحرفاءَهم، بهدف منع عودتهم لها. تتواصل بذلك الحملة التي شنّتها أجهزة الدولة ضدّهم منذ شهر أوت الماضي في العاصمة وعدّة ولايات أخرى لطردهم من الأرصفة ومنعهم من القيام بنشاطهم التجاريّ من دون تطبيق أيّ بدائل أو حلول تتلاءم مع حاجياتهم. وعليه، تترك هذه الأجهزة شريحة كبيرة من المواطنين الذين لم يجدُوا غير الاقتصاد اللانظامي ملاذا، لمصير مجهول من دون فهم خلفيّات هذه الظاهرة وجذورها، مغلّبةً بذلك ضرورة تنظيف الشارع واستعادة جماليّته من جهة وفرض هيبة الدّولة وسيطرتها على الملك العمومي من جهة أخرى.

حيف مضاعف تحت عنوان سلطة القانون

بدأت أجهزة الدولة حملتها ضدّ الباعة اللاّنظاميين بتاريخ 20 أوت 2023 عبر إعلان من قبل وزارة الداخلية. وقد وثّقت الوزارة تقدّم قوّاتها وجرّافاتها لإزالة ما أسمته نقاط “الانتصاب الفوضوي” بمحيط الأسواق البلدية في كلّ من أريانة ومنطقة سيدي البحري بالعاصمة. ليزور رئيس الجمهورية المكان بعد يومين ويواجه المواطنين المتردّدين بين مقاطعته والاحتجاج له حول عملية الطرد والإزالة. كعادته لم يستمع الرئيس لمن يُخاطبه ولم يُعر اهتماما لأسئلة المطرودين من الرصيف المختصرة في “ما العمل الآن؟”. بل أصرّ على فكرة لا قانونيّة البيع اللاّنظامي ومخالفته القواعد المؤسساتية في علاقة بالتراخيص وبتموقعه على قارعة الملك العمومي، مع التلميح لمخالفات أخرى أصرّ على إبقائها غامضة قائلا “لن أتحدّث أمام العموم عمّا كان يحصل هنا”. أمّا حين صارحه أحد المواطنين عن معاناته: “والله تعبنا سيدي الرئيس”، اكتفى بالاجابة “أنا كذلك متعب مثلكم”.

تواصلت الحملة فيما بعد لتشمل مراكز أساسية للباعة اللاّنظاميين في العاصمة، خصوصا نهج إسبانيا والشوارع المتصلة به وامتدّت أيضا لعدّة ولايات مثل سوسة وقفصة وبنزرت. أصرّت وزارة الداخلية في تصريحاتها على استحسان المواطنين لهذه السياسة مؤكّدة على تنظيفها لتلك الشوارع وتركيزها لعدة نقاط أمنية (مستمرّة إلى هذه اللحظة) لمنع عودة الباعة. لا يقدّم المسؤولون في الدولة أيّة حلول معقولة وملائمة لهذه الظاهرة بل يكتفون بالتشبّث بمخالفتها القانون الذي يقدّمونه كنصّ مقدّس ومعلّق، لا حاجة لأن يرتبط بمشاغل الناس ومشاكلهم، ولا أن يتأقلم مع الظواهر الاجتماعيّة. كما يقترحون، كالعادة، جمع الباعة بأعداد محدّدة في فضاءات مغلقة تابعة للدولة وخاضعة لتراخيصها، حسب محدوديّة طاقة استيعابها. وهو ما يقتضي إعداد قائمة محدّدة للباعة الذين سيُرخّص لهم النفاذ لتلك الفضاءات مع إخضاع البقية لمصير مجهول. حسب الباحث في علم الاجتماع سفيان جاب الله لا يكمن ضعف الحلول المقدّمة فقط في انعدام نجاعتها أو في عدم ارتكازها على فهم عميق للظاهرة، بل في تناقضها مع خطاب الدولة. فبينما تدافع الدولة عن سياستها المعادية للباعة اللاّنظاميين تحت عنوان مكافحة الاقتصاد الموازي والتهريب، تقترح مؤسّساتها توفير مساحات قانونية لهؤلاء الباعة لتقديم منتجاتهم المهرّبة شريطة دفع معلوم كراء مقدّر ب120 دينار شهريّا.

خلافا لما كان متوقّعًا، لم يُقدِم الباعة اللاّنظاميين على أيّ فعل جماعي احتجاجيّ على قرار طردهم باستثناء مسيرة احتجاجية قامت بها فئة خاصة من المتضررين في منطقة سيدي البحري صبيحة أوّل يوم في الحملة. فقد كان أغلب المشاركين في المسيرة من التجار أصحاب المحلاّت بتلك المنطقة الذين كانوا يعرضون منتجاتهم على الأرصفة لصغر مساحة محلاّتهم. انتهت المسيرة باجتماع مع الكاتب العام لولاية تونس وباتفاق أوّلي حول تخصيص فضاء مأوى في تلك المنطقة لعرض المنتجات مقابل معلوم محدّد. أمّا نقابة التجّار المستقلين التي قبلت بحلول الدولة فاكتفتْ ببعض الاجتماعات والتصريحات الإعلامية لممثّلها معزّ العلوي. أشار هذا الأخير إلى إجراءات تحديد قائمة المنتفعين من هذه الفضاءات وتدخّل مسؤولين لإضافة أشخاص لا علاقة لهم بالبيع اللاّنظامي تحت عنوان “الحالة الاجتماعية الهشة”. كما أكّد على عدم تهيئة هذه الفضاءات (تهيئة الأسطح والأرضية، إعداد دورات مياه ومنافذ متعدّدة) وهو ما يعني عمليّا استحالة استقبال الباعة.

ويفسّر سفيان جاب الله، في تصريح للمفكّرة، غياب ردود الفعل في صفوف الباعة اللاّنظاميين وصمتهم، بخصائص هذه الفئة الاجتماعية وتاريخها وبنية العلاقات فيما بينها وهي اعتبارات يبدو أنّها غائبة تماما عن سياسات الدولة ومؤسساتها.

ينتمي الباعة اللاّنظاميون إلى ما يسميه آصف بيات اللّاحركات الاجتماعيّة

ظاهرة غير مقروءة وأفراد غير مرئيين

لتفسير كيفية تفاعل الباعة اللاّنظاميين مع الدولة وسياساتها، من المفيد العودة لدراسة أصدرها المنتدى التونسي للحقوق الإقتصادية والإجتماعية، بإعداد فريق من الباحثين وتنسيق الباحث سفيان جاب الله تحت عنوان “سوق نهج اسبانيا أو منهاج الاقتصاد الشّارعي في تونس“. من خلال متابعتهم ودراستهم للباعة اللاّنظاميين في نهج إسبانيا والشوارع الممتدّة حوله، قدّم الباحثون فهما لهذه الظاهرة ومكوّناتها. ينتمي الباعة اللاّنظاميون في معظم الأحيان إلى المناطق الداخلية المهمّشة من قبل الدولة. أغلب المتواجدين منهم في نهج إسبانيا أصيلو منطقة سبيبة بولاية القصرين وهي ولاية حدودية مع الجانب الجزائري، وتتصدّر مؤشّرات تردّي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. ويعود نَسب أغلبهم لفرقة أولاد خلفة المتفرّعة عن قبيلة ماجر وهي قبيلة عُرفت بمعارضتها للسلطة قديما وانتفاضتها ضدّ قراراتها المركزية. يجمع بين الباعة اللانظاميين تضامن آليّ قبليّ يقوم على علاقات النسب لتجاوز الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية وتهميش الدولة وتمييزها. انتماؤهم للطبقات الفقيرة وحرمانهم من أيّ رأس مال اجتماعي وثقافي واستحالة الاستفادة من المصعد الاجتماعي لما مارسته الدولة طيلة عقود من تمييز وتوزيع غير عادل للثروات والاستثمارات العموميّة يدفعهم للبحث جماعيّا عن حلول أخرى من أجل البقاء. فيستفيدون من تموقعهم الجغرافي على الحدود وصلات القرابة التي تجمع بينهم وما تحمله من تضامن قبليّ لم تنجح سياسة التحديث المشوّهة بالاستبداد والحيف الاجتماعي في تجاوزه، ليتغلّبوا على ما فرضته عليهم الدولة من تهميش. إذ يستثمرون قوّة العرش (النسب) وأمواله لتوريد السلع عن طريق الحدود وإيصالها للعاصمة ومن ثمة بيعها داخل نطاق المركز بعد صراع طويل على تلك المناطق وإحكام السيطرة عليها في تمثّل لغزو القبيلة وحوزها للأراضي فيما قبل. وهو ما ينتُج عنه اقتصاد شارعيّ يرفض هيمنة المركز ولا يخضع له بل يعوّل على البنية القبليّة وما تحمله من أشكال تضامن للبقاء ولمقاومة نموذج اقتصادي رسميّ إقصائيّ.

حسب الباحث جاب الله لا تعرف هذه الفئات الأشكال الاحتجاجية التي يعرفها سكّان المناطق الحضرية بالعاصمة لأسباب عدّة لعلّ أهمّها عدم انتمائهم للطبقات الوسطى. وبذلك لا يمارس هؤلاء الباعة طرق التنظّم في أحزاب أو جمعيات ولا ينتمون لحركات احتجاجية أو اجتماعية التي تعدّ خصائص الفعل الجماعي للطبقات الوسطى أو للفئات المهمّشة القاطنة بالمناطق الحضرية للعاصمة. أمّا الباعة اللاّنظاميون، فيرفضون الاستقرار بالعاصمة، يتزوّجون عادة بأقربائهم للحفاظ على هذه الوشائج ويعودون للعيش بمسقط رؤوسهم عند انتهاء عملهم ممّا يجعل مُكوثهم في العاصمة أمرًا مؤقّتا. وهم بذلك ينتمون إلى ما عرّفه آصف بيات باللاّحركات الاجتماعية وهي فئات تغيّر بالمجتمع على أمد طويل تحت تأثير التراكم والتكرار لفعلهم المقاوم الفردي من “دون دراية ودون تنظّم ودون أفق استراتيجي ودون رغبة أصلا”. كما يُرجع الباحث خاصيّة عدم الاحتجاج إلى التنشئة الاجتماعية لهؤلاء الباعة و”الهابيتوس” (habitus) المتعلّق بفئتهم، والذي لا يرتبط بالفعل الجماعي الاحتجاجي. فهم اعتادوا مقاومة ما فُرض عليهم من ظروف صعبة عبر الكفاح خارج الأطر الرّسمية من أجل البقاء في تجاهل تامّ ونفور من الدولة. وهو ما يجعلهم نتيجة لذلك يرفضون الحلول المقدّمة من قبل المؤسسات الرّسمية والمتعلّقة بحصرهم في فضاءات مغلقة ورسمية ويتمايزون بذلك عن الفئة التي قبلت بها. فهذه الأخيرة لم تستطع حوز مساحة للانتصاب لأنّها لا تنتمي للبنية القبلية التي تجمع بقيّة الباعة ممّا يجعلها تُعوّل على الزبونية والإجراءات الرّسمية لبيع منتوجاتها.

يعوّل الاقتصاد الشّارعي على الروابط القبليّة لمقاومة إقصائيّة الاقتصاد الرسمي

وجه آخر لصراع الثورة والثورة المضادّة

لا تعكس سياسة الدولة فقط تعنّتها على فهم الظاهرة، بل يُترجم خطابها أيضا احتقارا ضمنيّا للباعة اللاّنظاميين ورمزيّتهم فيما يخصّ الثورة التونسية. فرفاق البوعزيزي بصفته بائعا لانظاميّا في اقتصاد غير رسميّ يرفضون هيمنة المركز ومحاولات إخضاعهم له. من جهتها ترفض المنظومة الرّسمية وما تمثّله من ثورة مضادّة هذه الفئة فتضيّق عليهم الخناق وتطردهم من مراكز هيمنتها باستعمال خطاب تمييزيّ وتحقيريّ. فلا تتوانى المؤسسات الرّسمية وأذرعها عن استعمال عبارة “تنظيف الشارع” و”استعادة جماليّته وهدوئه” في وصم ضمنيّ للباعة بالوسخ والفوضوية، وفي تشابه مع العبارات التي استعملها وزير الداخلية كمال الفقيه لتبرير الحملة العنصرية ضدّ المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء وطردهم من وسط مدينة صفاقس إلى غابات الزيتون في ضواحيها. هذا التعلّل “بإرجاع الشارع لما كان عليه سابقا” و”استرجاع هيبة الدولة” عبر الأجهزة الأمنيّة يتماهى أيضا مع خطاب ضرورة العودة لما قبل الثورة وتجاوز ما أحدثته من “فوضى” على مستوى السلطة وبالتالي استعادة سيطرتها على المواطنين الثائرين والمنتمين للطبقات المهمّشة خصوصا. لا يبدو إذًا حرص الأجهزة على إنجاح هذا الطرد (خلافا للمحاولات السابقة) وتواصل هجومها لمدّة تسعة أشهر على الباعة اللاّنظاميين اعتباطيّا. وإنّما هو يمثّل وجها آخر للتأكيد على عودة السلطة لمنظومتها السابقة وسعيها لغلق قوس الثورة ومطالبها الاجتماعية والاقتصادية. فيبقى مصير الباعة اللاّنظاميين مبنيّا للمجهول تحت وطأة فرضيّات لا تقلّ مأساوية: فإمّا الحرقة أو اليأس وما يسبّبه من انجراف نحو الإدمان أو الانتحار وهو ما تمّ فعليّا رصده في صفوفهم أثناء توقّفهم عن العمل في فترة الكوفيد. أو في أحسن الحالات الحفاظ على هذا التّضامن القبليّ والبحث عن سبل أخرى للتجارة خارج الأسواق الرّسمية وبعيدا عن أنظار الدولة مقدّمين منتوجات بأثمان قليلة تنتفع منها الطبقات الوسطى لتجاوز الأزمة الاقتصادية وتنامي التضخّم الذي ينخر قدرتها الشرائية.

نشر هذا المقال في العدد 29 من مجلة المفكرة القانونية – تونس

لتحميل العدد بصيغة PDF

انشر المقال

متوفر من خلال:

تونس ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني