تماما كما يحصل في الدول الاستبدادية، تم الحكم أمس على الصحافي آدم شمس الدين بالحبس ثلاثة أشهر، بسبب تصريح على صفحة الفايسبوك. وقد صدر الحكم غيابياً من قبل القاضي المنفرد العسكري في جبل لبنان العميد الركن أنطوان الحلبي، وذلك بناءً على إدعاء مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي بيتر جرمانوس عليه على أساس المادة 386 من قانون العقوبات، المتعلقة بتحقير موظف عام خلال ممارسته لوظيفته. وجاء في نص الحكم أن شمس الدين “أقدم على تحقير الإدارات العامة بنشر تعليقات مسيئة إلى المديرية العامة لأمن الدولة”.
وما يزيد هذا الأمر قابلية للانتقاد هو أن التصريح تناول مخالفات خطيرة باتت ثابتة بحق جهاز أمني هو أمن الدولة. ولهذه الغاية، نعمد هنا إلى إعادة نشر التصريح نفسه والذي ورد تحت عنوان “أمن الدولة وفضيحة الإيدز“، ومن أبرز ما جاء فيه الآتي:
“في كرة تلج عّم تكبر شوي شوي لتصير. “فضيحة” بلشها مبارح متعهد تلميع صورة الأجهزة الأمنية بالإعلام ما غيرو وبكرا بيلحقو المتعهدين الباقيين بكل المحطات ووسائل الاعلام. واليوم أعلن عنها رسميا بعد ما كشف جهاز أمن الدولة عن إلقاء القبض على شخص (وكشف اسمه طبعا) بدير صالون تزيين وبيعمل تاتو وهو مصاب بالإيدز. طبعا دعا جهاز أمن الدولة الحريص دايما على سلامة وأمن البلد، كل المواطنين يلي زارو هل محل أنه يعملو فحوصات حرصا على عدم إصابتهن بهل فيروس… وكشف الإعلامي المخضرم تفاصيل كل التحقيق معه قبل ما يصحله حتى يشوف محامي ومضى على محاضر التحقيق بدون ما يشوف محامي. وين سامعينها قبل وين وين؟ نفس الشي يلي صار مع زياد عيتاني بتهمة التعامل مع العدو عمّ بصير هلق مع شخص بموضوع بنقز الرأي العام بنفس الطريقة. طيب ومين حقق معه لهل شخص هل مرة؟ معقول يكون هني نفس الأشخاص المسؤولين عن فضيحة التحقيق مع زياد عيتاني…. في شخص هلق مكبوب بأمن الدولة من ١٢ يوم وما تحول ملفو عالنيابه العامه حتى اللحظه، ذنبه الوحيد أنه عّم يشتغل بمصلحة بيعرف فيها كان بيعتقد أنه مرضه مش تهمة، وفِي أمنيين عّم يتحضرو يركبو نجمة زيادة على كتافن بعد ما فشلو يحصلوها رغم المطالبة فيها بعد فضحية زياد”.
وكانت المفكرة في حينه نشرت عددا من المقالات التي ذهبت في الاتجاه نفسه، أي في اتجاه فضح تجاوزات أمن الدولة في القضيتين على حد سواء وهما قضيتا صانع التاتو وعيتاني.
هكذا إذا صدر الحكم على أساس تصريح على مواقع التواصل، عمد من خلاله شمس الدين إلى فضح تجاوزات خطيرة مرتكبة من أمن الدولة بتواطؤ مع الإعلام.
ما أن تم الإعلان عن القرار حتى انطلقت بيانات التضامن مع هذا الأخير. وقد تبين من التدقيق في القرار أن صحافيا آخر تم الحكم عليه بالتهمة نفسها وبالعقوبة نفسها، وأيضا غيابيا، وهو فداء عيتاني، وذلك على خلفية تعليقات أخرى نشرها هو أيضاً تتعلق بنفس الجهاز. يذكر أن فداء عيتاني كان هو أول من فضح تلفيق تهمة العمالة ضد زياد عيتاني.
هذا الجمع بين الملفين، في ظل عدم وجود أي تبرير قانوني له، إنّما هو تعبير عن إرادة مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية جرمانوس في الدفاع عن جهاز أمن الدولة. فكأنما الهدف من ادعائه ليس ملاحقة شخص لجرم معين، إنما حماية أمن الدولة ضد كل من يجرؤ على الإساءة إلى سمعته، حتى ولو حصلت هذه الإساءة في إطار فضح مخالفات خطيرة كتسريب التحقيقات أو التعذيب. وما يزيد من قابلية موقف القاضي جرمانوس للنقد هو أنه دأب على غض الطرف عن مجمل هذه المخالفات. وهذا ما نتبينه بوضوح كلي من إعراض جرمانوس عن أي تحقيق في الشكوى التي أقامها الممثل زياد عيتاني ضد أمن الدولة على خلفية ارتكابها مخالفات جنائية بحقه. وهذا ما أفصح عنه بوضوح كلي رئيس المحكمة الدائمة حسين عبدالله حين حضر عيتاني للشهادة أمامه في قضية تلفيق تهمة العمالة له.
بالعودة إلى قضية شمس الدين، وبعد سؤال وكيله المحامي أيمن رعد عن أسباب صدور الحكم غيابيا، أوضح هذا الأخير أن موكّله تلقى إتصالا للمثول أمام الحلبي خلال كانون الثاني 2019 وقد ردّ بأنه لن يحضر لأن صيغة التبليغ ليست قانونية. القاضي المنفرد العسكري الحلبي نفسه وافق عند مراجعته وفق المحامي رعد على عدم صحّة التبليغ، وأرجأ الجلسة الأولى التي لم يحضرها شمس الدين، على أن يبلغ بالطرق القانونية. والحال أنّ شمس الدين لم يتعامل بعدم إكتراث أو إهمال مع المسألة، إنّما فقط تمسّك بحقه أن تتبع معه إجراءات قانونية. إذن، ما حصل لاحقاً أن شخصا بدأ يتردد إلى مبنى تلفزيون الجديد بهدف تبليغ شمس الدين. يوضح رعد أنه ليس أكيداً من صفة هذا الشخص “إن كان مباشراً أما لا”. بكل الأحوال “هذا التبليغ لا يزال غير صحيح لأن الإدعاء على آدم لم يكن بصفته الصحفية إنّما بصفته الشخصية، بالتالي يجب أن يبلغ في محل إقامته، وهو لديه محل إقامة معروف”. في النهاية قرر “المباشر المفترض” أن يبلغ موظفة الإستعلامات أنه سيتم تبليغه لصقاً. يوضح رعد هنا أنه “كان من المفترض أن يبلّغ في محل سكنه، فإن تعذّر ذلك يبلغ لصقاً في مكان عمله”. إلا أن ما حصل أن التبليغ “ألصق على باب المحكمة بدل ذلك”. بكل الأحوال، الجلسة كانت محددة بتاريخ 7 آذار 2019، في نفس التاريخ توجّه المحامي إلى المحكمة للمراجعة أيضاً في الملف في قلم المحكمة، كون إجراءات التبليغ لا تسلك طريقها القانوني بعد، وعندها أبلغه الكاتب أن “القاضي قرر إعتبار آدم مبلغاً ومحاكمته غيابياً”.
المسألة بالنسبة إلى شمس الدين ليست مسألة تبليغ حصراً، إنما هو موقف من “محاكمة المدنيين أمام المحكمة العسكرية التي لا تؤمن معايير المحاكمة العادلة، وتكليل ذلك بهذا الإستسهال (مشيراً إلى عدم القيام بالحد الأدنى من العمل)، أي تبليغه وفقاً للأصول”. وموقف شمس الدين هذا مرتبط برفضه “الفصل بين صفتي كصحافي وصفتي كمواطن، لا يجب على أي مواطن أن يحاكم أمام قاضٍ عسكري”. ويظهر جلياً أن شمس الدين يعرف تمام المعرفة مدى تأثير موقفه، إنطلاقاً من كونه شخصية عامة، في قضية مثل محاكمة المدنيين أمام المحكمة العسكرية، فيسخّر وظيفته بهذا الإتجاه حصراً. وهو بهذا المعنى يرفض أن يستفيد منها كإمتياز يحميه من هذه المحاكمة.
يضيف شمس الدين أن الحكم الصادر بحقه، كذا الإدعاء عليه “معناه أن أي إنتقاد يوجه لجهاز أمني، تحديداً جهاز لديه سوابق، هو تكريس لنهج الجهاز نفسه، وهو بمثابة تحذير للمواطنين أن الإنتقاد أو حتى سرد الوقائع – وهذا ما فعلته – ممنوع تحت طائلة الملاحقة”.
أخيراً، بموجب الحكم الغيابي الصادر بحق آدم، يبقى معرضاً في أي لحظة لإلقاء القبض عليه وحبسه فعلاً لا سيما في حال اضطر إلى السفر، أو في حال دخول أي مخفر للدرك. بالمقابل، يتهيأ وكيله لتقديم إعتراض على الحكم الصادر بحقه، وهو ما يفترض أن يؤدي إلى إعادة فتح المحاكمة ومثول شمس الدين أمام المحكمة.
مقالات ذات صلة:
تطور جديد في قضية صانع الأوشام: اتهامية بيروت تضع حدا لاحتجاز الحرية من دون سبب
أمن الدولة يضرب من جديد بمؤازرة الاعلام: نموذج جديد عن الأمن الديماغوجي