شهادة الصحفية أروى بركات: عندما يكون خصمُكِ عون أمن


2021-10-22    |   

شهادة الصحفية أروى بركات: عندما يكون خصمُكِ عون أمن

ثلاثة أصدقاء عائدون من مطعم بالضاحية الشمالية نحو وسط المدينة: فتاتان ورجل. أوقفوا السّيّارة عند رؤيتهم دورية أمنية على الطريق، وذلك بعد حلول حظر الجولان بخمس دقائق. أصرّ عون الأمن على تحرير محضر في خرق حظر الجولان ضد سائق السيارة رغم أنه سُمِحَ لسيارات أخرى بالمرور. بعد تسلّم توصيل خلاص المخالفة والعودة لامتطاء السيّارة، قامت صديقة السائق بتصوير مرور السيارات لتوثيق ما لاحظته من تطبيق انتقائي لإجراءات حظر الجولان. وما إن أقفلت باب السيارة حتى فوجئت في نفس اللحظة بعون أمن يفتح باب السيارة ويجثم عليها بنصف جسده الأعلى. يَشُلّ حركتها ثم يركلها ويفتك هاتفها. وفي إثرها، تبدأ رحلة الصراع والانتظار والتجاهل وتزييف الوقائع. بين مركز الأمن والمحكمة والمستشفى والموقع الأول للأحداث، تُحاول الصحفيّة والناشطة الحقوقيّة أروى بركات استرجاع كل تفاصيل الحكاية[1] بعناية: حكاية الشاكية التي أصرت على مقاضاة عون الأمن فوجدتْ نفسها متّهمة بالاعتداء بالعنف الشديد على موظّف أثناء أداء عمله.

تبدأ أروى بركات شهادتها قائلة:

“عندما كنت أشارك في المظاهرات عادة ما أشعر باستعداد نفسي للعنف البوليسي. لأنه بإمكانكَ القول إن القمع جزء من كراس شروط التظاهر. ولكن هذه المرة كانت الأمور مختلفة جدا. شعرتُ بضيق نفسي كبير لأن هناك مجانية في العنف وكثير من العدوانية. عندما ضغطَ عون الأمن بكامل قوته على جسدي ثم ضربني شعرت بحالة اختناق، وراودتْني لوهلة صورة الاغتصاب. ومرّت أمامي ذكرى مريم التي اغتصبها أعوان الأمن منذ سنوات. وبعد النزول من السيارة ومحاولة استعادة هاتفي، شعرتُ أنه انزعج كثيرا من وجودي كامرأة في مكان يُمارس فيه سلطته المطلقة على الآخرين. وكان استفساري حول الإجراء العقابي الانتقائي غير متوقع بالنسبة إليه، لذلك قال لي: “يَلزمِكْ تِتربَّى وتِتعلّم تَحكي مع الرْجال”. أعرف أن آخرين مرّوا قبلي وطلبوا منه الاعتذار، ولكني أردت التقدم بشكوى ضده والمطالبة بحقوقي. وأعرف أيضا أن هناك الكثير من المجهولين الذين لم يطلبوا الاعتذار فوجدوا أنفسهم في السجن دون وجه حق”.

 

في مركز الأمن أرادت أروى التقدّم بشكاية:

“رغم أنني توجهت إلى أعوان أمن آخرين متواجدين في المكان لأعلمهم بتعرّضي للعنف، إلاّ أنهم تجاهلوني. طالبتُ باسترجاع هاتفي وتمسّكت بحقّي في التقدّم بشكاية. وبعد أكثر من ساعة ونصف من الأخذ والردّ، جاء رئيس مركز الاستمرار بمنطقة حي الخضراء، وطلب مني مرافقتهم إلى المركز للإفادة بأقوالي. في هذه الأثناء اتصلت صديقتي بمحام، التحق بنا في إثر وصولنا إلى مركز الأمن. في البداية كُنت أتوقع أنني سأكون الشاكية، ولكن أعلموني أن عون الأمن قد تقدّم بشكاية ضدّي موضوعها العنف الشديد. وشرعوا مباشرة في استجوابي. هل قمتِ بعضّه وشتمه؟ هل كنت مخمورة؟ دوّنوا في المحضر: “لقد فاحت من المتهمة رائحة الكحول”. ولكنني رفضت ذلك وطالبتهم بإجراء فحص اختبار كحول، فتجاهلوني. ثم سجّلوا في المحضر أنني تعرضت لسوء المعاملة رغم أنني طالبت بتسجيل تعرّضي للعنف. ورغم أن عون الأمن الشاكي لم يكن هو نفسه الذي قام بتحرير خطية حظر الجولان، إلا أنه أسندَت إليه تلك المهمة أثناء كتابة المحضر للإيهام بأنني قمت بالاعتداء عليه أثناء أداء عمله. في المحصّلة تمّت إعادة كتابة محضر البحث ثلاث مرات. وطيلة أكثر من ثلاث ساعات، حاوَلَوا الضغط علينا، رغم تمسكنا بحقنا في مقاضاة عون الأمن”.

 

الطريق إلى المحكمة في سيارة الشرطة:  

“بعد إنهاء محضر البحث مع ساعات الفجر، تمّ إعلامي أنّه ستتمّ إحالتي على وكيل الجمهورية. طلبوا مني الصعود في سيارة الشرطة. رفضتُ في البداية ولكنهم واجهُوني بتهمة “عدم الامتثال”. في النهاية لم أرافقْهم بمفردي بل كانت صديقتي إلى جانبي. وصَلَت سيّارة الشرطة إلى المحكمة في حدود الساعة الخامسة صباحا. في المحكمة لم تكن المعاملة أفضل، لم يسمحْ لي وكيل الجمهورية بشرح التفاصيل، واكتفى بسؤال وحيد: هل قُمتِ بعضّ عون الأمن؟ شعرت حينها أنني أعيش لحظات تشبه الوضعية الكافكاوية، فابتسمت، لأنني أحسست أن كل شيء صار عبثيا: أنا من تعرضت للعنف ومكثت ساعات عدة في مركز الأمن صحبة صديقيّ، تعرضنا خلالها للضغوط والتحقير، وفي النهاية أجد نفسي في وضعية المتهمة. وقبل مغادرة المحكمة علمتُ من محاميّ أن وكيل الجمهورية يطلب مني الاعتذار من أعوان الأمن مقابل غلق الملف نهائيا، ولكنني رفضت ذلك”.

 

في المستشفى للحصول على شهادة طبية:

“بعد الخروج من المحكمة، ذهبت إلى المستشفى للحصول على شهادة طبية في العنف، لأنني تحصلت على تسخير أمني طالبت به في مركز الأمن. في المستشفى، رأيتُ الكثير من الموقوفين المقيّدين يتعرّضون إلى العنف من قبل أعوان الأمن. طلب منّي الطبيب الاستلقاء على سرير طبي لم يكن نظيفا وكانت تغطّية بقع بنيّة اللون كأنها آثار صدأ أو دماء جفّت، فرفضت. ثم شرع في توجيه الأسئلة أثناء معاينتي واقفة: من قام بالاعتداء عليك؟ وما هو السبب؟ وهو ما أزعجني وبدا لي غير منطقي، لأنني كنت أنتظر من الطبيب أن لا يشرع في استجوابي مجددا. بعد إجراء الفحوصات، عدتُ في اليوم الموالي للحصول على شهادة طبية. كان الزمن صباح السبت وكنت في حاجة إلى شهادة طبية من أجل التقدّم بشكاية يوم الاثنين. ولكن الإدارة أعلمتْني أنني جئت متأخرة رغم أن صباح ذلك اليوم لم ينتهِ بعد. حينها تمسّكت بحقي في الحصول على شهادة طبية، فقاموا بفحصي مجددا أمام طبيب آخر، وتحصلت على شهادة طبية. وبعد يومين تمّتْ إحالتي على وكيل جمهورية آخر، ولكن هذه المرة شعرت أن المعاملة أفضل لأنه سمح لي بشرح التفاصيل، وقام بإحالة الملف على فرقة الحرس بوصفه جهازا أمنيا محايدا على حد تعبيره”.

 

لحظة “المكافحة” مع عون الأمن

“في صباح اليوم الذي كنت أستعدّ فيه للذهاب إلى مركز الحرس بباردو لإجراء مكافحة مع عون الأمن  تلقّيت اتصالا من تفقدية الأمن بوزارة الداخلية، أعلموني بضرورة الحضور للإدلاء بشهادتي. ذهبت وسردت عليهم الوقائع. ذهبت رغم أنه لم تكن لدي ثقة كبيرة في جدية التحقيقات لأنه سبق وتقدّمتُ بشكاية للتفقدية ضدّ أعوان أمن في سنة 2015، قاموا بالاعتداء عليّ صحبة زميلي أثناء تغطية مسيرة شبابية مناهضة لمشروع قانون الصالحة. ورغم أن الاعتداء في تلك السنة كان موثّقا بالفيديو إلا أنهم تجاهلوا الشكاية وردموها في الرفوف كغيرها من الشكايات. بعد جلسة الإنصات المرهقة في مقرّ التفقدية، كان علي الذهاب إلى جلسة المكافحة لمواجهة عون الأمن. عندما جلستُ قبالته أشار إليَّ بإصبعه باحتقار شديد، وشرع في سرد وقائع أخرى مغايرة لما حدث. اتّهمني بالاعتداء اللفظي والمادي عليه. ونسبَ إلى نفسه مهمة القيام بتحرير محضر في خرق حظر الجولان ضدي، رغم أن من قام بذلك كان عون أمن آخر. عموما جاء بسيناريو آخر جاهز. ورغم تمسّكي بضرورة إثبات العنف المزعوم الذي اتهمتُ به إلا أنهم تجاهلوني. ولم يكن خافيا أن عون الأمن الذي يشرف على الأبحاث كان متضامنا مع زميله. ولم يأخذ بعين الاعتبار روايتي لتفاصيل الوقائع. وكان في كل مرة يتدخّل ليقول لي: تفاصيل العنف غير مهمة. وطلب مني الكفّ عن المطالبة بذكر الصيغ البذيئة التي تلفّظ بها عون الأمن، لأنها في نظره تسيء إليّ كامرأة. كنت أحاول تدوين تلك الصيغ على ورقة، ولكن “البحّاث” رفضها، رغم أنها كانت تلك هي الحقيقة. بعد انتهاء جلسة المكافحة شعرت بالاختناق لأنني كنت مضطرة للإمضاء على المحضر، رغم أنني لم أكن مقتنعة بالكثير من الأشياء. وقد أعلمتْني محاميتي بعدها أن وكيل الجمهورية نظر مجددا في شكايتي وأحالها على مركز الأمن بالمنزه، بما يعني أنني سأذهب مجدّدا للاشتكاء عند جهاز من المفترض أنه خصمي. أما بالنسبة للشكاية التي تقدّم بها عون الأمن، فقد تم استدعائي للمثول أمام المحكمة كمتّهمة في حالة سراح، وتهمتي “الاعتداء بالعنف الشديد على موظف أثناء أداء عمله”، وهي أخطر من التهمة المعتادة؛ “هضم جانب موظف عمومي أثناء أداء عمله”.

 

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، أجهزة أمنية ، محاكمة عادلة وتعذيب ، مقالات ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، جائحة كورونا



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني