شركة فسفاط قفصة: حكاية المؤسسة التي صنعت مُدنًا ثمّ أهمَلتها


2022-05-04    |   

شركة فسفاط قفصة: حكاية المؤسسة التي صنعت مُدنًا ثمّ أهمَلتها

“لم أتذكّر أن الدولة موجودة. أنا درّستني شركة فسفاط قفصة. وكانت تدفع لنا نفقات الكهرباء والماء والنقل أيضا. شركة فسفاط قفصة موجودة في تفاصيل تلك المدن منذ سنة 1897. المستشفى تابع للكُبّانية[1] وطب الشغل يفحص الجميع دون استثناء”. هكذا وصف حسين الرحيلي، أصيل مدينة الرديف المنجمية والباحث في التنمية المستدامة، تاريخية العلاقة بين المدن المنجمية[2] والفسفاط، فهي بالنسبة إليه ليست مجرد علاقة شُغلية عادية وإنما حياة بأكملها.

شركة فسفاط قفصة التي تَستغلّ أكبر احتياطي فسفاط في البلد منذ بداية الحقبة الاستعماريّة أصبحت تسير نحو الانهيار الذي يهدّد المدن المنجمية الواقعة في الجنوب الغربي التونسي بالتحول إلى “مدن أشباح”. تسحب الشركة وراءها إرثا لا يخلو من التناقضات: لقد أنبتت مدنا من رحم البداوة وأعطتها حياة جديدة، ولكنها ظلت غريبة على فضائها الاجتماعي رغم وعود الإدماج والتنمية. وقد وَرِث سكان المناجم الذين ارتبطت حاجياتهم وحياتهم اليومية بشركة الفسفاط أمراض ضيق التنفس والسرطان والأمراض الجلدية واصفرار الأسنان، والتلوث واستنزاف المائدة المائية، والانقطاع المتكرر لمياه الشرب صيفا وشتاءً.

رغم ارتفاع أسعار الفسفاط التجاري في العالم في الفترة الفاصلة بين أفريل 2021 ومارس 2022 تزامنا مع الحرب الأوكرانية الروسية (ارتفاع من 88 دولار إلى 173 دولار للطن الواحد)، فإن السلطات التونسية ما زالت تُعلن وجود أزمة مالية في شركة فسفاط قفصة. وفي مدينة الرديف المنجمية توقّفت مغسلة الفسفاط عن الإنتاج منذ سنة 2021. بخصوص الخسارة المالية المباشرة للاقتصاد التونسي بسبب هذا التعطل، قال الباحث حسين الرحيلي للمفكرة: “إن توقف إقليم الرديف عن الإنتاج يساوي خسارة للاقتصاد قيمتها حوالي 01 مليار دينار. لأول مرة يتواصل الاحتجاج في الرديف لمدة سنة، ولكن لا مسؤول مُكلّف بالتفاوض مع المحتجين الذين يملكون كل الحجج. وفي الأثناء لجأت السلطات إلى الحل السهل وهو استيراد الفسفاط من المغرب والجزائر”.

عندما جُعِلَ الفسفاط هوية المنجميّ الوحيدة

توفيق عين، معلم متقاعد وناشط جمعياتي أصيل مدينة أم العرايس المنجمية. بالنسبة إليه كانت الخمسون سنة التي قضاها في مدينته كافية للوقوف على ارتباط الغضب الاجتماعي في منطقة المناجم باستقالة الدولة وغياب خدماتها العامة. يقول في هذا السياق للمفكرة: “ضعف الاستثمار ونسب البطالة المرتفعة وضعف نسب النجاح في البكالوريا ليس واقعا جديدا وإنما يمتدّ إلى الحقبة البورقيبية. لا توجد إرادة سياسية لتنمية المناطق المنجمية. لذلك تظل هذه المناطق بؤرة احتجاجات. لأن الناس يشعرون بالغبن والاحتقار. لا يوجد لديك مكان تلجأ إليه باستثناء المقهى. نحن نفتقد الآن لأبسط الخدمات مثل المستشفيات والمدارس، والاستثمار الخاص لن يأتيَ إلى بلاد الغبار. كان من المفروض أن تكون الدولة قاطرة الاستثمار في تلك المناطق، لكنّها تركتْنا أسيري شركة فسفاطة قفصة. وهذه الشركة العملاقة ذاهبة بدورها إلى الانهيار”.

وقعت تَونَسة شركة فسفاط قفصة التي كان اسمها شركة صفاقس-قفصة، سنة 1976. وفي تلك السنة صدر قانونها الأساسي وتم فصلها عن شركة سكك الحديد. انتظرت دولة الاستقلال 20 سنة لتبسط سيطرتها على قطاع الفسفاط الذي ظل طيلة عقود تحت السيطرة الفرنسية. بالنسبة لندى الخليفي، باحثة في التاريخ المعاصر وأصيلة منطقة قفصة، يعتبر اكتشاف الفسفاط نقطة تحول مفاجئة في المنطقة. وقد تساوق هذا الاكتشاف وفق الخليفي، مع ظهور أنماط عيش جديدة لم تكن معهودة في تلك البيئة القبَلية غير المستقرة. فقد جلب الوافدون معهم عاداتهم وأفكارهم وأشياء أخرى مثل الصحف والمدرسة والكحول. تقول الخليفي للمفكرة : “لم تكن هذه المنطقة قبل 1885 سوى مرتفعات جبلية وهضاب عاشت فيها بعض القبائل التي اعتمدت على تربية الماشية. هذا المشهد سيتغير بحلول 1885 تاريخ قدوم البعثة الاستكشافية التي كان من ضمنها العسكري فيليب توماس حيث أكد وجود طبقات فسفاط قابلة للاستخراج تمتدّ على 80 كلم. وقد وجدت الشركة نفسها أمام إشكالية نشاط مؤسسات رأسمالية في وسط ريفي وفي ظل واقع استعماري. يُضاف إلى ذلك واقع العزلة الجغرافية للجهة ونقص عدد السكان. وهو ما دفع الشركة إلى إرسال ممثّلين لجلب يد عاملة أجنبية (أوروبيون ومغاربيون) فتشكلت نتيجة لذلك وبسرعة فسيفساء من العمال. وشُيدت بالحوض المنجمي نواتات من المدن متفاوتة من حيث الأهمية المعمارية”.

اقتُلِع السكان الأصليون من باديتهم وأصبح بقاؤهم في ذلك المناخ شبه الجاف مرتبطا بشكل أساسي بالمنجم رغم حفاظهم على الكثير من رموزهم القديمة. وقد برز التفاوت منذ البداية داخل الفضاء المنجمي: أحياء أوروبية تظهر بأسقف فيلاتها القرميدية الحمراء وتحتوي على مختلف المرافق وتشكل قلب المدن المنجمية. وعلى تخومها تقع أحياء السكان الأصليين والعمال الوافدون، الذي يقطنون الخيام والأكواخ ومنازل القصدير. هذا الفصل يصفه حفيظ الطبابي، أستاذ التاريخ المعاصر، قائلا: “غير أن إعادة تشكيل صورة “الوطن الأم” لم يكن كافيا لطمأنة هؤلاء الأوروبيين في هذا المحيط الطبيعي والبشري “المعادي”. فهناك مسافة بين الحي الأوروبي والأحياء الأهلية، تكون التجهيزات الصناعية وخط السكك الحديدة والوديان ومنحدرات الجبال حدّها الفاصل”.[3]

هذا التفاوت الموروث عن الحقبة الاستعمارية ما زال يُهيكل علاقة سكان الحوض المنجمي بالدولة التي يتكثّف حضورها عن طريق شركة فسفاط قفصة. فاستغلال الفسفاط لم توازِه تحوّلات اجتماعية واقتصادية عميقة داخل الفضاء المنجمي. ويظهر هذا من خلال المؤشرات الاجتماعية في ولاية قفصة، حيث تبلغ نسب الفقر 22%، والبطالة 28%. وهذا الارتهان للنشاط الاستخراجي دون سواه سيتأثر منذ السبعينات “بسبب المنافسة العالمية الحادة وتراجع التصدير وغلق ونفاذ بعض المناجم العميقة”.[4]

شركات تشغيل وهمية لشراء الصمت الاجتماعي

في سنة 1985، كانت شركة فسفاط قفصة أولى الشركات العمومية المشمُولة ببرنامج التعديل الهيكلي، الذي نفذته الدولة التونسية برعاية صندوق النقد الدولي. ومنذ ذلك التاريخ، شهدت الشركة أوسع عملية تسريح عُمالية في تاريخها. وخلال خمس سنوات، تمّ تسريح 5 آلاف عامل ووقع تجميد الانتدابات. شَكّل تجفيف مصدر التشغيل الوحيد في المنطقة مصدرا للاحتجاج الاجتماعي، الذي بلغ ذروته في انتفاضة الحوض المنجمي سنة 2008، والتي أخمدها نظام بن علي عن طريق آلة القمع الأمني ومحاكمة قيادات الانتفاضة. بعد سنة 2011، شهدت الشركة اختلالا كبيرا تَميّز بتقلّص الإنتاج مقارنة بارتفاع كلفة الأجور. في هذا السياق، أشار حسين الرحيلي إلى أنه “في سنة 2010 كانت الشركة تُشغّل 4890 عامل وتنتج 8.5 مليون طن من الفسفاط. اليوم في سنة 2022 تنتج الشركة ما يقارب 3 مليون طن ولكنها تُشغل 21000 عامل. هناك الكثير من أعوان التنفيذ الذين تضاعفتْ أعدادهم بين 2010 و2013 (من 300 إلى 3700). بمعنى أن الكثير منهم يتقاضى أجورا من دون عمل. وهو ما أثَّر في كلفة الإنتاج والقدرة التنافسية للشركة. فقد بلغتْ كلفة الأجور في سنة 2020 حوالي 600 مليون دينار”.

وأضاف الرحيلي: “شركة فسفاط قفصة عاجزة ليس لأنها مؤسسة عمومية بل لأن هناك غياب للحوكمة والقوانين المنظمة لها. من المفارقات أن الشركة تقترض السيولة من البنوك لتسديد أجور عمالها. ولكنها في الوقت نفسه تملك مخزونا مُهملا من الفسفاط التجاري يبلغ حوالي مليون ونصف طن. لقد تمّ اتخاذ موقف مقصود وغير مقصود بتخريب هذه المؤسسة. والتخلّف التنموي مسؤولية الدولة لأنها غائبة. وليس من المعقول أن تقوم شركة ناشطة في قطاع تنافسي مثل الفسفاط بتوفير سلاّت النفايات ووسائل النقل. فقد أصبحت هذه الشركة دولة داخل الدولة”.

ارتبط حضور شركة فسفاط قفصة في المدن المنجمية بملف التشغيل، بوصفها المُشغّل الأكبر والوحيد تقريبا في المنطقة في ظل انحسار القطاعات الاقتصادية الأخرى. وأمام التوجه نحو خيار التقليص في اليد العاملة منذ أواسط الثمانينات والاعتماد أكثر على المكنَنة، تطوّرَ التململ الاجتماعي من تراجع الدور التشغيلي للشركة. وكان من ضمن الحلول التي لجأت إليها السلطات لإخماد انتفاضة 2008 الشروع في بعث شركات فرعية مُموّلة من شركة فسفاط قفصة عن طريق صندوق تنمية الحوض المنجمي، أطلِق عليها آنذاك “شركات البيئة والغراسة والبستنة”. يُحيل اسم هذه الشركات على ارتباط أنشطتها أساسا بالبيئة ومقاومة التلوث، ولكنها كانتْ أداة رسمية للحفاظ على الاستقرار الاجتماعي من خلال خلق وظائف جديدة من دون المساهمة في تحسين الوضع البيئي في المدن المنجمية أو خلق قطاعات منتجة جديدة موازية لنشاط انتاج الفسفاط. في هذا السياق لاحظ الباحث في علم الاجتماع، خالد الطبابي، أن “شركة فسفاط قفصة ومنذ دولة الاستقلال تدفع ضريبة للدولة تُسمّى بضريبة التلوّث البيئي، وتحت الضغط الاحتجاجي والنقابي سنة 2008، تتحَايل هذه الشركة بمعيّة بعض الوسطاء على المطالب الاجتماعية ومطالب المعطلين، لتحوّل حقوق الجهة لمقاومة التلوث إلى مؤسسة تشغيلية (تمّ بعث شركات للبيئة ولان عرف ضريبة التلوث البيئي أين صُرفت). ففي غياب الخيارات والإرادة التنموية والسياسية اتجهت السلطة لسياسة الحيل القانونية، لتصبح حقوق الجهة لمقاومة التلوث والحد من مخاطره مؤسسة تشغيلية وهمية”.[5]

ما-بعد الفسفاط: المستقبل المسكوت عنه

طيلة عقود طويلة، ظلّ سؤال ما بعد-الفسفاط ضمن دائرة المسكوت عنه. ماذا يعني نفاد هذا التراب الأسود الذي ارتبطت به مدن بأكملها؟ أيّ مصير لسكان المناجم بعد نضوب الفسفاط وأفول شركة فسفاط قفصة؟ جلّ المؤشرات تدلّ على أنّ العقود القادمة ستفصح بأكثر وضوح عن حجم الخراب الإنساني والبيئي والاجتماعي. الفسفاط ليستْ ثروة أزلية. وفي ظل عدم التفكير في تدارك مخاطره وتعويضه بأنشطة موازية ستُترَك المدن المنجمية إلى مصيرها المأساوي.

يُعدّ العطش والتلوث وغياب الخدمات العامة من المشاكل الأساسية في الحوض المنجمي. ساهم تركيز مغاسل الفسفاط في المنطقة منذ السبعينات في استنزاف الموارد المائية وتلويث البيئة، إذ “تستغلّ شركة فسفاط قفصة سنويا حوالي 72% من الموارد المائية الجوفية العميقة لمنطقة الحوض المنجمي المقدرة بـ25.1 مليون م3 في السنة، وحوالي 48% من الموارد المائية الجملية لمنطقة قفصة”.[6] كما تُساهم الشركة في تلويث المحيط والموائد المائية السطحية من خلال المياه الطينية التي يتم تصريفها إثر غسل الفسفاط. إضافة إلى هذا أشار حسين الرحيلي إلى أن “مدن الحوض المنجمي مازالت مهدّدة بأمراض خلنا أن البشرية قد طوتْ صفحتها مثل البوصفير[7] وأمراض اصفرار الأسنان وتساقطها، وذلك من جراء الماء الموزع للشراب بالمنطقة وتدني نسب الربط بشبكة التطهير، ذلك أن الولاية بكاملها لا تحتوي إلا على محطتي تطهير فقط”.[8]

تلوح الفلاحة كأحد القطاعات الموازية للفسفاط. لكنها لم تشهد تطورا كبيرا رغم الموارد الطبيعية المتوفرة في المنطقة. وما زالت بعض المشاريع الفلاحية تُعاني من قلة الإمكانيات والاستغلال العشوائي للموارد المائية وغياب سياسات فلاحية عمومية محفزة. إضافة إلى أن الانخراط في هذا النشاط كبديل استراتيجي للفسفاط، مازال يصطدم بالذهنية المنجمية التي لم تقطع الحبل الصّرّي مع شركة فسفاط قفصة، التي يمتدّ نفوذها إلى نسيج العلاقات الاجتماعية والثقافية. وحول شركة فسفاط قفصة تتمركز الصراعات القبلية والسياسية والنقابية، لأنها الحاضرة بمقراتها وآلاتها وأنشطتها وديناميتها اليومية، فقد أصبحت هذه الشركة “مُختزلة لتاريخ المنطقة وشاهدة عليه”.[9]

لقراءة المقال باللغة الانكليزية


[1] “الكُبانية” هو مصطلح يطلقه سكان الحوض المنجمي على شركة فسفاط قفصة.
[2]  المدن المنجمية هي كل من: الرديف، المتلوي، أم العرايس، المظيلة. تقع في ولاية قفصة بالجنوب الغربي التونسي. وتمثل المدن المنجمية 60 بالمائة من مساحة الولاية. وحسب الاحصائيات الأخيرة لسنة 2014 يبلغ عدد سكان الحوض المنجمي حوالي 107 آلاف ساكن.
[3] حفيظ طبابي. من البداوة إلى المنجم، ط1، تونس: الدار التونسية للكتاب، 2012، ص: 202.
[4] عائشة التايب. التحولات الحضرية بمناطق الاستغلال المنجمي بالمغرب العربي: المناطق المنجمية بالجنوب التونسي مثالا. مجلة إنسانيات، عدد 42، أكتوبر-ديسمبر 2008، ص: 47. 
[5] خالد الطبابي. الرهانات الاجتماعية والاقتصادية للتشغيل الهش: شركة البيئة والغراسة والبستنة بالحوض المنجمي نموذجا. المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، 2019، ص: 27.
[6] حسين الرحيلي. الماء والعدالة الاجتماعية بالحوض المنجمي. منشورات مؤسسة فريدريش إيبرت، 2018، ص: 91.
[7]  اليرقان (بالإنجليزية: Jaundice)‏، المعروف أيضًا بالصفار أو الاصفرار
[8]  المرجع نفسه.
[9] الحبيب المبروكي. ثقافة المؤسسة والتحولات الاجتماعية: شركة فسفاط قفصة مثالا. أطروحة دكتورا في علم الاجتماع (اشراف محمد نجيب بوطالب)، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس، 2005-2006، ص: 93.
انشر المقال

متوفر من خلال:

بيئة ومدينة ، مقالات ، تونس ، بيئة وتنظيم مدني وسكن ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني