شبَاب الجُدران وراء القضبان


2024-01-24    |   

شبَاب الجُدران وراء القضبان

“الحيوط تَسمع” (للجدران آذان). هكَذَا كان الكثير من التونسيين، قبل ثورة 2011، يُردّدون عندما يشرَع أحد الجالسين في المقهى أو أي فضاء عام في الحديث عن السياسة ونقد المسؤولين، حتى وإن تعلَّق الأمر بموظف صغير في سلطة محلية. كان الخوف من الوشاية والمُخبرين يَكتِم أصوات السواد الأعظم من التونسيين، ويَجعلهم يرتابون من كل شيء، حتى من الجدران.

في جانفي 2011 كُتِبَت للجدران حياة جديدة، فطوفان الحرية فاضَ من منابر ومنصّات التعبير التقليدية، ليكتَسح الشوارع بإسفلتها وجدرانها. خلال السنوات الأولى بعد ثورة 2011، ازدهرت فنون وتعبيرات الشارع، حتى صارت لها مجموعات مُنظّمة. لكن يبدو أن القائمين على “الجمهورية الجديدة”، التي وُلدَت بعد 25 جويلية 2021، لا يستسيغون هذه “الانفلاتات” الجدارية، بخاصة عندما تُعبّر عن انتقادها المباشر للسلطة بمختلف مؤسساتها ورموزها. إذ تواترت في السنتين الأخيرتين التضييقات على الأفراد والمجموعات التي مازالت تتجرّأ على خط رسائل سياسية على الجدران.

قضية الغرافيتي المناهض لعُنصرية النظام ضد المهاجرين


“سنتين سجن: هذا هو الحكم الذي صدَر في حق أخي رشاد المسجون ظلما منذ ستة أشهر. وهي نفس مدة الحكم التي صدرت في حق المتهمين في قضية مقتل عمر العبيدي. أخي لم يَقتُل على وجه الخطأ ولم يسرق. كل ما فعله هو رسم غرافيتي لإبداء رأيه في وضع سياسي قائم. أين حرية التعبير؟ أخي يعيش اليوم ظروفا صعبة جدا في السجن”. هذا بعض ما ورد في فيديو نشرته شقيقة السجين رشاد طنبورة مطلع شهر جانفي الجاري، داعية إلى التضامن مع شقيقها وإنهاء المظلمة التي يعيشها.

رشاد طنبورة، شاب يبلغ من العمر 27 سنة، ويُعرَف في مدينة المُنستير بشغفه بالفنون البصرية وتشجيع فريق الاتحاد الرياضي المنستيري، ونشاطه في فعاليات وتظاهرات المجتمع المدني المحلي. في جويلية 2023 قرّرَ رشاد التعبير عن رفضه للخطابات والسياسات الرسمية المتعلقة بالهجرة غير النظامية والتنسيق الأمني مع الاتحاد الأوروبي والممارسات اللاإنسانية ضد المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء، والتي بلغت حدود التنكيل في صيف 2023. لذلك اختارَ رسم غرافيتي على أحد جدران معتمدية المنستير؛ غرافيتي يَظهر فيه وجه رئيس الجمهورية قيس سعيد وعلى يمينه خارطة أفريقيا، وعلى يساره نعوت بالإنجليزية مثل “racist” و”fascist” (عنصري وفاشي). ويبدو أن حدة النعوت كانت أكبر من أن تستسيغها السلطة. صبيحة 17 جويلية 2023 تمّ إيقاف رشاد وهو على متن سيارة تاكسي في طريقه إلى عمله، وتمّ اقتياده إلى مركز الإيقاف، ولم تعرف عائلته مكانه إلا بعد أربعة أيام. كما توجّهت قوات الأمن إلى بيته وصادرت المعدّات التي استعملها في رسم الغرافيتي. أودِِعَ في السجن يوم 19 جويلية ومكث هناك لأكثر من أربعة أشهر ونصف دون محاكمة. في 4 ديسمبر 2023 أصدرت المحكمة الابتدائية بالمنستير حكما يقضي بسجن رشاد طنبورة لمدة سنتين بتهمة “ارتكاب أمر موحش ضد رئيس الدولة”.

الحكم القاسي وغير المتوقّع تسبّبَ في تردّي الحالة النفسية والجسدية لرشاد طنبورة. وخلال مداخلة إذاعية بتاريخ 8 جانفي، نقلت مي العبيدي من “جمعية تقاطع من أجل الحقوق والحريات” عن عائلة السجين أنه خاض إضراب جوع وحشي، وقام بخياطة شفتيه احتجاجا على الوضع الذي يعيشه. وبعد قرار رشاد استئناف الحكم الصادر في حقه حدّدَت المحكمة تاريخ 31 جانفي 2024 موعدا لانعقاد الجلسة الاستئنافية. ويُذكر أن رشاد طنبورة سبق أن تم إيقافه في مارس 2022 لبضعة أيام، وتعرّض للعنف البوليسي على خلفية مشادة كلامية مع أحد أعوان الأمن، أثناء حضوره مقابلة كرة سلة للاتحاد المنستيري.

قضية التراس “فاردي فيكينغ” في قابس

في 15 ماي 2022 قامَت قوات الأمن في ولاية قابس بإلقاء القبض على ثلاثة شبان (وجيه بوريشة وعبد الباسط الزيدي والمعتصم بالله دريهمي) واحتُجِزوا لمدة يومين، قبل أن يُطلق سراحهم ويتم إحالتهم على المحكمة الابتدائية يوم 18 ماي 2022. التهمة كانت الاعتداء على المُمتلكات الخاصة والعامة. استعمِل هذا التكييف القانوني لمعاقبة الشبّان الثلاثة على جدارية الغرافيتي التي أنجزُوها في إحدى شوارع المدينة. ينتمي المتهمون إلى مجموعة الالتراس “verde vikings” المُشجعة لفريق كرة الملعب القابسي، وقد أرادوا من خلالها تخليد ذكرى عمر العبيدي، مُشجع النادي الإفريقي وعضو الالتراس الذي مات غرقا أثناء هربه خوفا من العنف البوليسي، والتنديد أيضا بتراخي الدولة في معاقبة الأمنيين الذين كانوا شهودا على غَرقِه ولم يقوموا بإنقاذه.

في الجدارية يظهر وجه عمر العبيدي وإلى جانبه اقتباس بالإيطالية:

Dietro ogni articolo della Carta Costituzionale stanno centinaia di giovani morti nella Resistenza :

“خلف كل فصل في الدستور هناك مئات الشباب الذين ماتوا وهم يقاومون”.

تعود هذه المقولة إلى الرئيس الإيطالي الأسبق ساندرو بيتريني (1978 – 1985) المناضل الاشتراكي الإيطالي، وأحد أبطال مقاومة الفاشية في عهد موسوليني. وليس من الواضح ما الذي جعل قوات الأمن تتحرك بسرعة: هل هو الحرص على إنفاذ القانون أم “شبح” الضحية عمر العبيدي أم الكلام عن الشباب والدستور؟ ويبدو أن تضامن منظمات حقوقية ومشجعي كرة القدم في الجهة مع الشبان الموقوفين وغياب نية التخريب كانت عوامل مساعدة في صدور حكم بعدم سماع الدعوى يوم 18 ماي 2022.

قضية نشطاء الحزب الجمهوري

في سياق آخر، اعتُقِلَ وسام الصغير وبثينة الخليفي وأسامة غلام، نشطاء في الحزب الجمهوري المعارض، مساء 27 فيفري 2023. وتم اقتيادهم إلى مركز الشرطة بحي النصر 1 (ولاية أريانة) من أجل الاستنطاق. ليتقرّرَ فيما بعد الاحتفاظ بهم 48 ساعة على ذمة التحقيق. وُوجّهَت إليهم تهمة “الإضرار عمدا بملك الغير العمومي وهضم جانب موظف عمومي والسّكر والتشويش وإحداث الهرج في الطريق العام”، بسبب كتابتهم على أحد الجدران شعار ورد فيه: “الحرية لعصَام الشابي، المعتقل السياسي”، وذلك تضامنا مع الأمين العام للحزب الجمهوري المعتقل منذ 22 فيفري 2023 على ذمة ما يُعرف بقضية التآمر على أمن الدولة.
وكان محامي الموقوفين قد أكّد أن الشرطة تحرّكت إثر وشاية من سائق سيارة تاكسي. وظلّ النشطاء الثلاثة محتجزين إلى أن أذنَت النيابة العمومية بالمحكمة الابتدائية بأريانة يوم 01 مارس 2023 بإحالتهم بحالة سراح على أنظار المجلس الجناحي لمحاكمتهم يوم 26 أفريل 2023. كما قامت الشرطة الفنية باحتجاز هواتف الموقوفين عدة أيام، من أجل إخضاعها للاختبار الفني.

ملاحقات أمنية في سياق حملات التضامن مع غزة

منذ انطلاق العدوان الصهيوني الأخير على قطاع غزة، تَعدّدت في تونس أشكال التعبير على التضامن مع الشعب الفلسطيني، والاحتجاج على تواطؤ قوى الهيمنة الدولية. كما تعالت الدعوات إلى مقاطعة قائمة كبيرة من المؤسسات الاقتصادية العابرة للقارات، بسبب دعمها متعدد الأشكال للكيان الصهيوني. وكان “الغرافيتي” و”التاغ” وتلطيخ الجدران بالطلاء الأحمر الرامز لدعم الفلسطينيين أحد أبرز أشكال التضامن والدعم.
لكن وعلى الرّغم من هذا السياق والموقف الرسمي الذي يُكرّر مُساندته للفلسطينيين في وجه آلة الإبادة الصهيونية، فإن قوات الأمن التونسية لاَحقَت العديد من النشطاء بسبب الكتابة على الجدران. في 16 أكتوبر 2023 ألقت الشرطة القبض على الناشطين السياسيين وائل نوار وسيف العيادي وأيمن الشمنقي، على خلفية كتابتهم شعارات سياسية، على الواجهة الأمامية للمعهد الفرنسي بتونس، تُشيد بالمقاومة الفلسطينية وتُندّد بالموقف الفرنسي المُتماهي تماما مع السيّاسات الإسرائيلية. اقتِيد النشطاء الثلاثة إلى مركز الأمن في شارل ديغول وسط العاصمة، حيث تمّ احتجازهم والتحقيق معهم لبضع ساعات قبل أن يتمّ إطلاق سراحهم. بعدها بأربعة أيام (20 أكتوبر)، أوقفتْ قوات الأمن في ولاية باجة الناشط السياسي غسان البوغديري بسبب كتابته شعارات على واجهة الفضاء التجاري للعلامة الفرنسية “كارفور” التي اعتبرها “راعية للكيان الصهيوني” ودعا إلى مقاطعتها. وتمّ إطلاق سراح البوغديري بعد ساعات من دون توجيه تهم. وفي 12 جانفي 2024، تمّ إيقاف الناشط أسامة الظاهري وثلاثة أعضاء آخرين من “منظمة الموفما”، إثر تنظيمهم حملة كتابة شعارات على جدران الفضاء التجاري “كارفور”. احتُجِز النشطاء الأربعة بمركز الاستمرار العدلي بمدينة أريانة، بضع ساعات، قبل أن يُطلق سراحَهم مع تسليمهم استدعاءات للحضور لدى المحكمة الابتدائية بأريانة يوم 15 جانفي 2024. في المحكمة، وبعد الاستماع إلى الممثل القانوني لشركة “كارفور” والتحقيق مجددًا مع الناشطين بتهمة الإضرار العمد بممتلكات الغير تمّ إخلاء سبيلهم في انتظار استكمال الأبحاث.

السلطة والهيمنة على الجدران

هذه بعض القضايا التي حظيتْ بصدى في وسائل الإعلام أو رصدتها منظمات حقوقية. وقد تكون هناك قضايا أخرى لم تُرصد، وموقوفون آخرون لا نعلم عنهم شيئا. والملاحظ من خلال التفحص السريع للقضايا التي تحدثنا عنها أن السلطة تراجعت أو تعرضت للإحراج في القضايا ذات العلاقة بمناصرة فلسطين، وحاوَلت لملمتها بسرعة. لكنها لم تُبد نفس التوجّه عندما يتعلق الأمر بقضايا تمس السياسة الداخلية وحرية التعبير عن الشأن العام. وكلما كان المقصود برسائل الجدران أرفع شأنا في هرم السلطة كلّما تشددت النيابة العمومية، ولعل قضية رشاد طنبورة أوضح مثال على هذا التدرّج، فعندما تعلق الأمر برئيس الجمهورية حضرت العقوبة السالبة للحرية؛ سنتين سجن مع النفاذ العاجل لشاب عبَّر عن رأيه برسمة على جدار.

ومن المفارقة أن الرئيس قيس سعيّد قد صدح يوما قائلا: “الدستور الحقيقي هو الذي خطه الشباب على الجدران”. هذا التصريح أدلى به الرئيس في 9 جانفي 2020، أثناء زيارته معتمدية تالة التي نالها النصيب الأكبر من القمع الدموي خلال الثورة التونسية. يومَها كان رئيسا بصلاحيات محدودة “نسبيا”، وفي نظام سياسي سينهيه في 25 جويلية 2021، ويَختزله في تسمية “العشرية السوداء”، دون أي تنسيب للأمور وفي تناسٍ لحقيقة أن هذا النظام هو الذي أوصله إلى سدّة الحكم. على الرغم من كل سلبيات السنوات الفارطة التي تلت الثورة، فإنّها أتاحت هامشا من حرية التعبير وحرية التنظم والتنقل، وأرست آليات للتناوب السلمي على السلطة مكّنَت المُرشح سعيّد من خوض حملته الانتخابية “غير التقليدية” وتسلّم مفاتيح قصر قرطاج. هذا الهامش يتقلّص كل يوم بشكل مُخيف وفظ، والأصوات “النشاز” التي لم تنضم إلى جوقة “الجمهورية الجديدة” تُحاصرها كواتم الصوت التي تحتويها “علبة الأدوات” القانونية الزجرية. نتحدث هنا عن حزمة القوانين والفصول التي يُمكن تأويلها وتطويعها لتخويف وخنق الناشطين السياسيين والمدنيين والصحفيين والمدوّنين، وغيرهم. بعضها موروث من عهد البايات والاحتلال الفرنسي، وبعضها سنّته الدولة المستقلة لإرساء النظام الديكتاتوري وتدعيم أسسه، وأخرى وليدة “الجمهورية الجديدة”. بعضها تستعمله قوات الأمن، وبعضها يلجأ إليه كبار الإداريين والمسؤولين السياسيين، وأخرى تعدّ امتيازا لأعلى هرم السلطة: الفصول 67 (ارتكاب أمر مُوحش ضدّ رئيس الدولة) و125 (هضم جانب موظف عمومي) و304 (الإضرار بما يملكه الغير) من المجلة الجزائية، والفصل 86 من مجلة الاتصالات (الإساءة إلى الغير عبر الشبكات العمومية للاتصالات)، والمرسوم عدد 54 لسنة 2022 (مكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال). وكل هذه الفصول والتشريعات تُضَاف إليها تشريعات أكثر جذرية متعلقة بمكافحة الإرهاب والتآمر على أمن الدولة والجريمة المنظمة.

“جدار أبيض يساوي شعب أخرس”، هكذا يقول أحد الشعارات التي خطّهَا شباب “ماي 68 ” على جدران باريس. في السياق التونسي الحالي، تَضيق كل يوم أكثر مجالات التعبير الحر، مع إمعان السلطة السياسية في استعمال “علبة أدوات” قانونية زجرية طيّعة. فبعد استهداف الأحزاب والناشطين السياسيين والجمعياتيين ووسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي والفضاءات العامة، يبدو أنه حان وقت للسيطرة على الجدران حفاظا على أمن الدولة، من وجهة نظر السلطة.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني