سعيّد يلغي امتيازات أعضاء المجلس الأعلى للقضاء: القضاء يعاقب بقانون


2022-01-20    |   

سعيّد يلغي امتيازات أعضاء المجلس الأعلى للقضاء: القضاء يعاقب بقانون

أعلن مساء يوم 19-01-2022 عن ختم رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيّد لمرسوم ينقّح القانون الأساسي للمجلس الأعلى للقضاء في فصوله المتعلقة بالمنح والامتيازات المسندة لأعضائه. وقد تمثل التعديل في إلغاء استحقاق هؤلاء لها من تاريخ ختمه من دون انتظار أجل النفاذ القانونيّ للتشريعات. وفي حين يبدو هذا التدخُّل الرّئاسي في البناء التشريعي للمؤسسة التي يعرّفها الدستور التونسي بكونها الضامنة لاستقلالية القضاء جزئيا، فهو يؤكد بالمقابل ما يتم تداوله من حديث عن المخاطر الجدية التي باتت تتهدد المؤسسة الدستورية.

مرسوم يرضي الرئيس ولا يضرّ المجلس: حديث الحدود الدنيا

يوم 25 جويلية ورغم ما كان يبدو من تأييد كبير للقرارات التي اتّخذها الرئيس سعيد ومكّنته من جمع كل السلطات وصلاحيات الحكم، لم يتأخّر مجلس القضاء ومن خلفه طيف هامّ من القضاة في مطالبة من بات الرجل القوي الذي يحكم تونس بالتراجع عن قراره بترؤس النيابة العمومية وفي تذكيره بكون تلك المؤسسة جزءًا من القضاء العدلي لا يجوز له أن يتدخل فيها احتراما لاستقلاليته. لاحقا، كشفت خطب الرئيس عن عدم رضاه عما يسميه عدم انخراط القضاة عموما والنيابة العمومية بمحاكم تونس خصوصا في اللحظة التاريخية التي تعيشها تونس تحت قيادته. ورغم ذلك، جوبه حديثه بافتخار في أغلب الوسط القضائي بتطور قيم الاستقلالية وتمسّك بها. لم يكن في هذا السياق وفي ظلّ ما هو مطلوب من محاكمات وقرارات من القضاء تسهم في نفوذ السلطة الجديدة من الممكن تجنّب صدام بين الرئيس والقضاء. كما لم يكنْ من المتوقّع ألا يكون مجلس القضاء ساحة المعركة الأولى طالما أن وجوده هو ما يمنع السلطة التنفيذية من التحكّم في المسارات المهنية للقضاة وبالتالي استعمال هذا الامتياز في صناعة تبعيتهم لها.

التعديل التوافقي لمجلس القضاء: عرض أول

في ظلّ ما بات محلّ تداول على نطاق دوليّ من حديث عن مخاطر تهدّد استمرار التجربة الديموقراطية، باتتْ استقلاليّة القضاء المؤسساتية من المسائل التي قد يؤدي المسّ بها لمواقف يتخذونها. فضلا عن ذلك، برز اهتمامٌ حقوقيّ محليّ بالدفاع عن استقلالية القضاء. وعليه، سعى سعيد في مرحلة أولى لتمرير تغييرات في  قانون المجلس الأعلى للقضاء تحقق ما يسعى له بموافقة القضاة بها.  

اعتبر الرئيس أن تركيبة مجلس القضاء هجينة وتدخل أشخاصا لا علاقة لهم بالمؤسسة في تركيبته وكلف وزيرته للعدل ليلى جفال بإدارة حوار مع هياكل القضاة في الموضوع. لكن لم تجد خطوته تلك النجاح المطلوب بعدما أكّد مجلس القضاء موقفه الرافض للمسّ بمكتسبات القضاء وأكد أن كل إصلاح لها لا يكون في فترة الاستثناء وهو الموقف الذي تمسك به الجانب الأكبر من هياكل القضاة. وكان من عناوين الإصرار عليه رفض مجلس القضاء في جلسته العامة بتاريخ 05-01-2022 إبداء الرأي الاستشاري في مشروع مرسوم الصلح الجزائي الذي عرض عليه، على خلفية أنه يمسّ بتركيبة المحاكم واختصاصاتها. كما أصدر الملس في ذات التاريخ بلاغا للرأي العام أكد فيه تمسّكه باستقلالية القضاء ورفض ما يظهر من محاولة ترذيل له. وقد خيّبت هذه المواقف ما كان يتوقعه القصر من تجاوب من المجلس مع مطالبه التغييرية، مما فرض مواجهة جديدة لم تكن في ظاهرها بمثل ما كان متوقعا من جرأة وصدامية فيها.

تعديل الامر الواقع: فرض للإرادة وتلويح بالأسوأ

تقارب مخصّصات المجلس الأعلى للقضاء من موازنة الدولة التونسية ستة ملايين دينار فيما يكون ما يصرف منها سنويا على منح وامتيازات أعضائه في حدود مليون ونصف مليون دينار تونسي أي ما يزيد قليلا عن خمسمائة ألف دولار. ويبدو بالتالي حرص الرئيس على حذف هذه الامتيازات من الأمور التي لا يمكن أن تفسر بسياسات التقشف ويجب البحث لها عن خلفيات أخرى خصوصا وأنّ كل الهيئات يتمتع من ينتسبون لها بمنح خصوصية وأن الفكرة المعتمدة في تحديد منح الهيئات القضائية عادة هو اعتماد معيار التأجير الجيد طلبا لتحصين العاملين بها عن الفساد. 

يبدو هنا إصرار الرئيس على حذف منح أعضاء المجلس الأعلى للقضاء وحديثه في أكثر من خطاب وجهه للشعب عنها مما ينسجم مع خطابه بترذيل القضاء وهو خطاب ينتهي بتصويره أنه جهاز فاسد ويعرقل مجهود سعيّد الإصلاحي بما يبرر سعيه للاستيلاء عليه. يُخشى بالتالي أن يكون ما يطلب من حذف المنح هو بمثابة فرض أمر واقع جديد يهدف إلى إسقاط لاءات مؤسسات القضاء في فترة الاستثناء.

مرسوم يسقط لاءات القضاة ويهدد حصنهم

تمسك القضاة برفض أيّ مسّ بمؤسسات القضاء بمقتضى مراسيم. وكان في هذا اعتراضهم مبدئيا بما يكون معه تنقيح القانون الأساسي للمجلس الأعلى للقضاء بمرسوم وترتيب أثر فوري وسريع على هذا التنقيح بمثابة فرض منه لإرادته عليهم وإسقاط للمقولات النظرية التي تمسكوا بها قبلا. وهنا يتوقع أن يكون مرسوم حذف الامتيازات تمهيدًا لمعاودة طرح فكرة تعديل كامل لقانون المجلس الأعلى للقضاء.

حذف الامتيازات: هل يهدف إلى صناعة الفراغ؟

يستغرق عمل مجلس القضاء خصوصا العدليّ منه وقتا مهمّا لأعضائه سواء عند النظر في التحركات السنوية أو في ملفات التأديب. ويكون تخصيصهم بمنح جراء مجهودهم هذا مؤسّسا علاوة على كونه ضروريا لمن يشتغلون في مهن حرة وينقص بالتالي دخلهم جراء عملهم به. ومن هذه الزاوية، قد يكون الهدف من حذف المنح هو دفع أعضاء المجلس إلى العزوف عن عمل بغير أجر. وعليه، أتى الموقف الذي صرّح به رئيس مجلس القضاء يوسف بو زاخر في ذات يوم إمضاء الرئيس لمرسومه والذي قال فيه أن المجلس وأعضاءه متمسّكون بمواصلة العمل بقطع النظر عن الامتيازات ودفاعا عن استقلالية القضاء، بمثابة رسالة إلى الرئيس بأن مرسومه لم يفلح في تحقيق أهدافه. 

مجلس القضاء: ماذا بعد الترذيل؟

حاول خطاب السلطة حول منح أعضاء مجلس القضاء رسم صورة لهم في الرأي العام تبرزهم بمظهر من يستغلون نفوذهم لنهب المال العام. لكن يبدو من خلال ما نلاحظ أن مدى هذا الطرح الشعبوي لم يتجاوز من يناصرون الرئيس وأنه أنتج أثرا عكسيا وسط النخبة التي باتتْ تعتبر معركة الدفاع عن مجلس القضاء من أهم أولوياته لما فيه من تمسّك بما بقي من مؤسسات الحكم الديموقراطي. في ذات السياق، لن يحقق مرسوم المنح ما يطمح له الرئيس حقيقة أي التحكم في التعيينات بالمناصب القضائية الكبرى وخصوصا منها النيابات العامة. وينتظر تبعا لذلك منه أن يحاول مستقبلا المضي قدما بما سيفرض حتما مواجهة بينه وبين القضاء قد يكون تجنبها في مرسومه الأول وأجلها لزمان يلائم حسابات السياسية وموازين قواها الداخلي منها والخارجي.

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، محاكم جزائية ، محاكم دستورية ، مرسوم ، استقلال القضاء ، مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني