سردية “المضاربة سبب الأزمة” في 2020 و2023


2023-02-18    |   

سردية “المضاربة سبب الأزمة” في 2020 و2023

في أواخر الشهر الماضي، وجّه مدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات كتابًا الى النائب العام المالي القاضي علي ابراهيم، وطالبه بتسطير استنابات قضائية فورية إلى أفراد الضابطة العدلية لبدء العمل على توقيف الصرافين والمضاربين على العملة الوطنية. بدأت المداهمات في 1 شباط ووصل عدد الصرافين الموقوفين والمدعى عليهم بالتلاعب بسعر الصرف إلى 25 صرافاً في 13 شباط. حصل ذلك بالتوازي وتسارع الانهيار والسقوط الحر ل”الليرة”. فقد كان سعر الصرف حوالي 42 ألف ليرة للدولار بداية العام وتعدّى عتبة ال80 ألف ليرة في 16 شباط، ما أشار إلى فقدان حاكم المركزي رياض سلامة وسائله المعتمدة في ضبط (تدهور) سعر الصرف. وأتى قرار عويدات بعد خمسة أيام من قراره إفلات الموقوفين في ملف “مرفأ بيروت”، وما رافق ذلك من اتهامات للنيابة العامة التمييزية بتعطيل التحقيقات وتكريس نظام الإفلات من العقاب. وأتى القرار أيضاً في ظل تحقيقات محلية ودولية ضد المصارف التجارية وحاكم مصرف لبنان.

وقد أعادت هذه الأحداث إلى الذهن حملة مماثلة لعويدات وإبراهيم على الصرّافين بدأت في الفترة بين آذار – أيار 2020، ترافقت مع حملة إعلاميّة على “الصرافين” المتهمين بتسبّبهم بالأزمة. وأتتْ حملة التوقيفات والحملة الإعلامية بالتوازي حينذاك مع رمزيّة وصول سعر الصرف في نيسان 2020 إلى ضعف ما كان مثبّتا عليه منذ عام 1997، وبالتالي تزامنت مع تحطّم أسطورة ثبات النقد الوطني.

حملة ربيع 2020 على الصرافين: إنتاج السردية   

منذ بداية تدهور سعر الصرف في آب 2019، اعتبر سلامة أن أزمة “نقص الدولار” ناتجة عن التهريب والمضاربات لا العكس، وأنّ “البنك المركزي لا يزال اللاعب الحاسم في السوق وأن باستطاعته تكبيد المضاربين الخسائر في حال خرجوا عن قواعد اللعبة التي يرسمها”. وكان قرار سلامة عدم التدخّل في سوق القطع حينها بمثابة إقرار بسعريْ صرف (وصل سعر الصرف في 23 آب إلى 1558 ليرة للدولار). لكن خلال فترة آذار-أيار 2020، تطوّر تبرير سلامة لشحّ الدولار (بالمضاربة). وفي خطاب شهير له أواخر نيسان استعفى عن مسؤوليته في تمويل الدولة ومراقبة التمويل، وقال أن ذلك حصل وسط وعود بالإصلاح لم تترجم لأسباب سياسية. كما نكر سلامة واقع انهيار النظام الذي بقي واقفاً برأيه رغم الصدامات وقال أنّ مصرف لبنان رغم الصعوبات استطاع الحفاظ على سعر الصرف ثابتاً في القطاع المصرفي. موجهاً الاتهام إلى “الحملات المستمرة ضد سعر الصرف (والتي) أوصلتنا إلى هنا”[1]. وقد تجسّدت هذه السرديّة أكثر في الحملة التي قادها ثلاثي سلامة -عويدات- ابراهيم، مصحوبة بسلسلة تقارير إعلامية، تروّج لها ومفادها أنّ المضاربين “هم المسؤولون عن تدهور سعر الصرف، وبالتالي التضخّم”.

وفي استرجاع لسياق نيسان 2020، كنت لتسمع مثلاً خبر “بلشو يلقطو الصرافين” وكأنه أمر منتظر ضاق منه الناس ذرعاً. فجزء من السرديّة حينها أن “هؤلاء يتسببون بانهيار سعر الصرف”. وقد تكثّفت التقارير التلفزيونية في أواخر نيسان حول عمل الصرّافين غير المرخّصين. أحد التقارير على قناة “ام تي في” أورد أنّ القوى الأمنيّة والقضائيّة تدرك أسماء وعناوين الصرّافين غير المرخّصين، وأضاف: “لمن لا يعرف: بلبنان 61 مؤسّسة صيرفة غير مرخّص لها تتوزّع على كل مناطق لبنان”. وأوضح التقرير أن للصرّافين غير المرخّصين تطبيقات هاتفيّة معروفة ترسل تسعيرات عشوائيّة تضرب السوق. وأنه لا يصعب على مكتب مكافحة الجرائم المعلوماتيّة كشفها. ثمّ في 27 نيسان، نشر تقرير آخر على محطة “ام تي في” يقول أن المدعي العام المالي تحرّك على إثر المعلومات الواردة في التقرير السابق الذكر وأن الشرطة القضائيّة بدأت بإشارة من إبراهيم “بعمليّات تحقيق ومداهمات منسّقة تمّت بالوقت ذاته وأدّت إلى توقيف 19 صرّاف معظمهم غير مرخّصين و8 قيد التحقيق للتلاعب بالسعر”. وللمزيد من التشويق رافقت “كاميرا” المحطة عمليّات المداهمة في بيروت والحمرا والكولا والأشرفيّة…

استمرت الملاحقات، الأسبوع الأوّل من أيار تم توقيف نقيب الصرافين محمود مراد[2]، وصرافين آخرين بتهمة التلاعب بسعر الصرف.[3]  ويومي 10 و11 أيار، بلغ عدد الصرّافين الموقوفين 14 صرّافاً، كما جرى التحقيق مع رامز وميشال مكتّف، والأخير هو صاحب إحدى شركات الصيرفة وشحن العملات والذهب. ووصل مجمل عدد الصرافين الموقوفين خلال فترة أسبوعيْن بين أواخر نيسان وأواسط أيّار إلى نحو 50 صرافاً.

لكن حسابات البيدر اختلفت عن حسابات سلامة وابراهيم، فالتحقيقات أدت إلى توقيف مدير العمليات النقدية في مصرف لبنان مازن حمدان وأقرّ الأخير أنّه كان يطلب من الصرّافين سحب الدولار لصالح “المركزي”[4] عبر شرائه بسعر مرتفع. وأشار مقال في “الأخبار” إلى طبع المصرف كمية كبيرة من النقود اللبنانية لتغطية شراء الصرّافين للدولارات. وكانت القضيّة أواسط أيار محور اجتماع هيئة التحقيق في مصرف لبنان والتي ضمّت سلامة (وهو رئيس الهيئة) وإبراهيم (وهو عضو في الهيئة). فكان ّسلامة في هذا السياق “المحقق” لا “المتهم”. وأعلنت الهيئة في بيان (شارك إبراهيم في صياغته) “أنّ المبالغ المذكورة هي لفترة شهر وليست بأحجام التقلبات التي شهدتها أسعار القطع خلال هذه االفترة “.

لم يطل الأمر: ففي 20 أيار، جرى إخلاء سبيل حمدان من قبل قاضي التحقيق شربل أبو سمرا لقاء كفالة مالية. بالتالي، فحتى طريقة الإخراج في الحملة على الصرافين لم تكن موفقة تماماُ بل أنتجت سرديّة فرعيّة تقول أن “رياض سلامة، هو المسؤول الأول عن تدهور الليرة”، وهي حرفيّة ما ورد في أحد مقالات “جريدة الأخبار” في 13 أيار[5]. وتحدّث مقال آخر لرضوان مرتضى عن تحويل حمدان “إلى كبش فداء عن حاكم مصرف لبنان لكونه الحلقة الأضعف”[6].

لكن، أيا كانت حقيقة الأحداث والمسؤوليّات، بقيت السرديّة بتحميل المضاربة في سوق النقد مسؤولية الانهيار الاقتصادي سائدة. وقد تم تفعيلها بقوة في تاريخ 12 حزيران من خلال إنشاء “خليّة أزمة” حكوميّة لمتابعة تطورات الوضعين المالي والنقدي وتطبيق القرارات مع مطالبة الأجهزة الأمنية بالتشدّد في قمع جميع المخالفات المتعلقة بالجرائم المالية. وبعد أن تجاوز سعر الصرف أواسط حزيران ثلاثة أضعاف ما كان مثبّتاً عليه (أي تجاوز عتبة 4500 ليرة)، اجتمع مدير الأمن العام اللواء عباس ابراهيم برئيس مجلس النوّاب نبيه برّي في تاريخ 15-6-2020 وتحدّث عقب اللقاء عن إنشاء لجنة لتثبيت سعر صرف الدولار معلنًا أنّ الأمن العامّ معنيّ بمراقبة “السوق السوداء” وأنه أنشأ غرفة عمليات تتلقّى اتّصالات المواطنين على أساس أن كل مواطن خفير. وتتابع الغرفة وفقاً للواء ابراهيم كل المتاجرين ب”الدولار” بصورة غير شرعية. وقد حصل ذلك بعد 3 أيام من الزيارة المكوكية التي قام بها رئيس مجلس النواب نبيه برّي إلى قصر بعبدا حيث أعلن أن قيمة الدولار ستنخفض إلى 3200 ليرة لبنانية، وذلك في موازاة إعلام رئيسي الجمهورية والحكومة رفضه التام لتنحية رياض سلامة عن حاكمية مصرف لبنان.

وأعقب ذلك، أواخر حزيران اجتماع لوزير الاقتصاد راوول نعمه بخليّة الأزمة وتقرر على إثره “أن يضخ مصرف لبنان سيولة بالعملة الأجنبية في المصارف” ستضاف على الكمية التي يضخها للصرافين (حوالى 4 ملايين دولار يومياً). وهو الإجراء الذي بدأ العمل به في تموز، والذي صرّح سلامة بشأنه أنّه إجراء مهم سيؤدّي إلى تراجع سعر صرف الدولار مقابل الليرة، وسيفصل تقلبات سعر الصرف عن نسب التضخم ويحفظ القدرة الشرائية للبنانيين.

 عودة الحملة اليوم وتطوّر السرديّة  

اليوم، بعد عامين و8 أشهر عادت الحملة على الصرافين، وعادت معها سرديّة مفادها أنّ المضاربة هي سبب أزمة التضخّم وأزمة “شحّ الدولار”، وذلك بالتوازي مع الارتفاع الكبير في سعر الصرف. (خلال كانون الثاني فقط ارتفع سعر الصرف أكثر من 20 ألف ليرة، فكان عند 42 ألف ليرة بداية العام وواصل ارتفاعه إلى عتبة 64 ألف ليرة للدولار في 27 كانون الثاني ليقفز فوق 80 ألف في منتصف شهر شباط).

هنا أيضا تترجمت السردية بمباشرة الملاحقة ضدّ الصرافين. ففي تاريخ 30 كانون الثاني، وجّه مدّعي عام التمييز القاضي غسان عويدات كتابًا إلى النائب العام المالي القاضي علي ابراهيم، طالبا منه تسطير استنابات قضائية فورية إلى أفراد الضابطة العدلية كافة لإجراء التعقبات والتحقيقات الأولية والعمل على توقيف الصرافين والمضاربين على العملة الوطنية والتسبب بانهيارها واقتيادهم مخفورين إلى دائرة النيابة العامة المالية. أي أنّ مضمون البيان نفسه أفتى أن مجموعة صرافين هم المتسسبّبون في انهيار العملة.

أتى قرار عويدات بعد مضي خمسة أيام فقط على قراره تخلية سبيل الموقوفين في ملف المرفأ، وأتى بعد مضيّ بضعة أيام فقط على التطورات القضائية في ملف اختلاس الأموال المتعلّق بحاكم مصرف لبنان وشقيقه وهو الملف الذي ما يزال يبحث عمّن يباشر الدعوى العامة فيه ضدّ هذين الأخيرين. وعليه، لم تؤدّ هذه الملاحقة فقط إلى توجيه المسؤولية عن ارتفاع الدولار في اتجاه الصرافين تماما كما حصل في ربيع 2020، بل أيضا إلى تصوير عويدات على أنه ملتزم بحقوق الناس ضدّ “عدو الشعب” (الصرافين)، في مسعى منه لتبييض صورته التي تضررت بنتيجة مواقفه السلبية في قضيتي المرفأ والشقيقين سلامة.

عليه، وفي الأوّل من شباط بدأت حملة لمداهمة الصرافين غير الشرعيين بتوقيف إثنين منهم في مدينة بعلبك، وكان مستغرباً تصريح نقيب الصرافين السابق محمود مراد أنّ حملة الملاحقات “ليست بالقدر المرجوّ”، مطالباً بتشديد الإجراءات. في اليوم التالي، أشارت معلومات عن توقيف مجموعة من الصرافين ومن بينهم أكثرهم شهرة، وهو علي نمر الخليل الملقب ب”علي الله” وقريبه عيسى كنج. وخليل اشتهر العام الماضي بعد انتشار تسجيلات صوتيّة وحوارات على مجموعات “واتساب”، كشفها برنامج “يسقط حكم الفاسد” على الرأي العام منذ أكثر من عام. وقد ترك هؤلاء يستمرون بأعمال المضاربة رغم كل ما وثّق بهذا الصدد. أمّا إيقافهم اليوم فقد يعود وفق ما أشارت له “جريدة الأخبار” بقولها أن “الحركة أعلنت رفع الغطاء عنه”، وأن الضابط حسين دمشق تولّى عملية تسليمه إلى فرع المعلومات.

كما أوقف عدد من الصرافين في مفرزة حلبا القضائية. وأوقف أكثر من 10 صرافين في منطقتي صيدا والزهراني. وفي عراضة إعلامية أعلن المدعي العام المالي علي ابراهيم أن المداهمات مستمرة والعقوبة قد تصل إلى 3 سنوات. والغريب أن الناس باتت تألف أسماء هؤلاء الصرافين، أحدهم في الصرفند ملقب ب”حسيسون، وآخر في شتورة  في شتورة ملقب ب”الحوت”، الخ..

وكانت ملفتة في الأشهر المنصرمة ظاهرة الملوحين بالأموال على جوانب الطرقات، لكن المضاربات الأكثر ربحيّة  فعلياً جرت عبر المصارف التجارية. وهذا ما عبرت عنه فيفيان عقيقي التي نقلت عن أحد المصادر المصرفيّة أن الأموال المحققة من عمليات “صيرفة” في المصارف “تصل إلى نحو 360 مليون دولار في العام 2021، وأكثر من ضعف هذا المبلغ في العام 2022”. وجود صرافي الطرقات، وإصدار المركزي التعميم 161 (قيل أنه يتيح للناس المضاربة) عدّل على سرديّة 2020 فأضاف مقولة أنّ “كل الناس أصبحوا مضاربين”، وهذا ما يردّده مثلاً الوزير السابق وئام وهاب، فيقول في إحدى مقابلته “الناس ايديها بجياب بعضها، هلق كيف عايشي الناس؟”.

ومع استعادة هذه السرديّة بربط ارتفاع الدولار بالمضاربات، برزت هنا أيضا آراء تحمّل سلامة المسؤولية الكبرى عنها تماما كما حصل أيضا في ربيع 2020. وكأنما ثمة اتفاقا واسعا على أن سبب انهيار العملة الوطنية هي المضاربات وإن اختلفت الآراء بشأن المسؤوليّة عنها. وهذا ما نستشفّه مثلاً من ملفّ جريدة الأخبار المعنون “سعدنات المضارب الأول“. وعليه، وفيما كان الوزير السابق وئام وهاب يغرّد أنّ حاكم مصرف لبنان أبلغ نجيب ميقاتي أن ثلاثة صرافين يقودون لعبة الدولار ولم يتم التحقيق معهم بعد، كان فريق آخر من هؤلاء يؤكّد أن المصرف المركزي هو أساس كل عمليّات المضاربة وأنّ الصرافين يعملون لحساب المصرف، لا ل”جهات خفيّة” يعجز التحقيق عن الوصول إليها.

أمّا حول تبرير حملة عويدات -سلامة -ابراهيم  على المضاربين الصغار، ” بعدما تمّ غضّ الطرف عنهم من قبل”، ينقل الكاتب عماد مرمل (المقرب من حزب الله) عن “مصادر مطلعة” على عمل المضاربين قولها “أنّ هؤلاء (أي الصرّافين) خرقوا خلال الفترة الأخيرة (قواعد الاشتباك) في السوق السوداء، وباتوا خارج السيطرة، ما استدعى تأديبهم في نوع من (هزّة البدن) و(هزّ العصا)”، كما أورد  في مقاله في “جريدة الجمهورية“.  والأمر نفسه ورد في مقال جريدة الأخبار تحت عنوان “رياض سلامة… «الصراّف الأكبر»”، يقول أن “رغبة مصرف لبنان في التعامل مع الصرافين وتأديبهم فتأتي على خلفية تخطّيهم حدود المضاربة التي يقرّرها هو في السوق، ولا سيما أنه ترك هوامش للمضاربة بين أسعار الصرف المتعددة”.


[1] وانتقد سلامة من انتقدوا تطميناته السابقة المستمرة. كما طمأن اللبنانيون حول ودائعهم وما أسماه “أموال المصارف” التي لا زالت موجودة .

[2]  رضوان مرتضى. توسّع التحقيق في التلاعب بسعر الليرة. جريدة الأخبار، 11 أيار 2020

[3]  توقيف نقيب الصرّافين: هل يهدأ سعر الليرة؟. “جريدة الأخبار”، 8 أيار 2020

[4]  التلاعب بالليرة: من يغطي سلامة؟. جريدة الأخبار، 15 أيّار 2020

[5] رضوان مرتضى. سلامة يتلاعب بالليرة: المُضارِب.  جريدة الأخبار، 13 أيار 2020

[6] رضوان مرتضى. أطلِقوا سراح مازن حمدان. جريدة الأخبار، 20 أيار 2020

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، مصارف ، قرارات قضائية ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني