رمضان 2024: “بِزنس” الإشهارات في سوق غير منظّمة


2024-04-02    |   

رمضان 2024: “بِزنس” الإشهارات في سوق غير منظّمة
رسم عثمان سلمي

تُراهن الشركات والعلامات التجارية على ارتفاع نسب المشاهدة في القنوات التلفزية، بحيث تتسابق للحصول على مساحات إشهارية في أوقات الذروة، التي عادةً ما تتزامن مع توقيت الإفطار. وتُمثّل هذه المساحات فرصةً بالنسبة إلى القنوات لمراكمة بعض الأموال، بعد أشهر من الكساد وشحّ الإنتاج والاكتفاء بإعادة مسلسلات مضى على بثّها أكثر من 15 سنة.

حسب تقرير الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري -المعروفة اختزالا باسم الهايكا- الصادر بتاريخ 25 مارس الجاري، والمتعلّق برصد الإشهار التجاري خلال الأسبوع الأوّل من شهر رمضان، فإنّ الحجم الزمني الإجمالي المخصّص لبثّ الومضات الإشهارية قد بلغ 12 ساعة و21 دقيقة و38 ثانية في أوقات الذروة الممتدّة من وقت الإفطار إلى منتصف الليل، بالنسبة إلى القنوات التي تمّ رصدها، وهي على التوالي التلفزة الوطنية (القناة الرسمية/العمومية) وقنوات “تونسنا” و”التاسعة” و”الحوار التونسي” و”قرطاج +” و”تلفزة تي.في”، وهي قنوات خاصّة.

وقد استأثَرت قناة الحوار التونسي التي تَبثّ  الجزء الثاني من مسلسل الفلوجة بنسبة 29.5% من الحيّز الإشهاري الذي رصدته الهايكا، بمساحة قُدّرت بثلاث ساعات و40 دقيقة مدّة أسبوع واحد، بمعدّل يومي يترواح بين 27 و36 دقيقة لبثّ الومضات الإشهارية. ولاحظت الهايكا أنّ قناة الحوار التونسي تجاوزت المدّة الزمنية المسموح بها لعرض الإشهارات والمقدّرة بـ12 دقيقة خلال شهر رمضان، وفق القرار عدد 1 لسنة 2018 المتعلّق بالقواعد السلوكيّة للإشهار في وسائل الاتصال السمعي والبصري، حيث أشار القرار في فصله الثالث إلى أن “لا تتجاوز مدّة بثّ الإشهار في القنوات التلفزية والإذاعية الخاصة عشر دقائق في الستين دقيقة واثنتي عشر دقيقة خلال شهر رمضان”.

نسبة المشاهدة: فرس رهان المُستشهرين

بعيدًا عن التجاوزات التي ارتكبتْها قناة الحوار التونسي بخصوص تجاوزها المدّة الزمنيّة المسموح بها لبثّ الإشهارات، فإنّ إقبال المُستشهرين عليها يُفسَّر بارتفاع نسب المشاهدة، حيث استطاعت الحفاظ على جمهورها واستفادت من الجدل الحاصل حول الجزء الأول من المسلسل الّذي أثار موضوع استهلاك الموادّ المخدّرة في الأوساط التلمذيّة، إلى جانب مواضيع أخرى تدور في فلك عالم اليافعين، لتبثّ منه جزءًا ثانيًا. وهنا تكمن تفاصيل العمليّة الإشهارية. إذ تتحكّم نسب المشاهدة في كيفيّة توزيع الإشهار، ومن البديهي أن يتوجّه المعلن إلى الوسيلة الإعلامية التي تُسجّل أعلى نسب مشاهدة ليضمن أكبر عدد من المتابعين ومن المستهلكين المحتمَلين.

الإشكال المطروح في هذا السياق يتعلّق بعدم دقّة أساليب قياس نسب المشاهدة. حيث أصدرت وكالة الاستشارات سيغما كونساي أرقامًا حول نسب مشاهدة القنوات التلفزية يوم 23 مارس الجاري،  تشير إلى أن أعلى نسبة مشاهدة حقّقتها قناة “نسمة الجديدة” بـ3 مليون و750 ألف مشاهد، تليها قناة الحوار التونسي بـ3 مليون و700 ألف مشاهد، ثم التلفزة الوطنية الأولى بـ 1 مليون 852 ألف متفرّج. أمّا المسلسلات الأكثر متابعة، فهي فلوجة الجزء الثاني بـ2 مليون و800 ألف مشاهد، لتحلّ السلسلة الكوميديّة “سوبر تونسي” في المرتبة الثانية بـ2 مليون و100 ألف متفرّج، يليها مسلسل “لخوات” المدبلج بـ970 ألف مشاهد.

“من يقومون بقياس نسب الاستماع والمشاهدة محلّ شكّ من بعض المؤسسات الإعلامية، حتّى أنّ البعض منها تقدّمت بشكوى ضدّهم لدى الهايكا”،  هكذا قال هشام السنوسي عضو الهيئة التعديلية للمشهد السمعي البصري في تصريح للمفكّرة القانونية، ليضيف: “ما نلاحظه في تونس، بحكم الفوضى الحاصلة، هو أنّ بعض المُستشهرين لا يهمّهم الوصول إلى المستهلكين بقدر ما يهمّهم الوسيلة الإعلامية في حدّ ذاتها، لأنّ كبار المستشهرين معنيّون بالشأن السياسي. وبالتالي فإنّ القناة التي تخدم هذا الطّرف أو ذاك تحظى بنصيب أكبر من الإشهار، دون تعميم طبعًا”. وهو ما يُحتّم تركيز هيكل مستقلّ يُعنى بتنظيم نسب القياس والمشاهدة.

شرعت الهايكا وعدد من الفاعلين في المشهد السمعي البصري في تركيز أسس هذا الهيكل، منذ ماي 2021. إلاّ أنّ تغيّر الوضع السياسي أدّى إلى وأد المشروع وركنه في الرّفوف. في هذا السياق، أشار السنوسي إلى أن ” الهايكا أعدّت مشروعًا لإحداث هيكل مختصّ في قياس نسب المشاهدة والاستماع، ولكن هناك تلكّؤ من البرلمانات المتعاقبة في مناقشته. هذا الهيكل يتكوّن من ممثّلي الإعلام العمومي والخاصّ والجمعياتي بالإضافة إلى المستشهرين، حتّى تكون العمليّة شفافة من حيث المنهجية وكيفية احتساب الاستماع والمشاهدة”.

أخطبوط العملية الإشهارية

للوهلة الأولى، تبدو هندسة الفاعلين في العملية الإشهارية واضحة: عدد من الثواني أو الدقائق تضعه التلفزة على ذمّة المعلنين للترويج لمنتوجاتهم، مقابل مبلغ مادّي يتّفق عليه الطّرفان، وفق معيار نسبة المشاهدة. لكنّ الهندسة تتعقّد مع تدخّل عنصر جديد، وهو وكالات الإشهار التي تلعب دور الوسيط بين المؤسسة الإعلامية والعلامة التجارية الراغبة في التعريف بمنتوجها أو خدماتها عبر الإشهار.

 قال حسام سعد عضو منظّمة آلرت في تصريح للمفكرة: “إنّ حجم سوق الإشهار خلال شهر رمضان يُقدَّر بـ40 مليون دينار، وإنّ 70% من المعلنين، أي الشركات الراغبة في التسويق لمنتوجاتها، متعاقدة مع شركة مايندشير، وهي وكالة إعلانات دولية تشتغل ضمن 86 دولة في العالم، ولها فرع بتونس.” في السياق نفسه، أشار سعد إلى أنّ المعلنين يتعاقدون مع وكالة وسيطة للحصول على مساحة إشهارية في وسائل الإعلام، وهي تحصل في المقابل على نسبة 15% من الأرباح التي ستحقّقها الوسيلة الإعلامية. أغلب المعلنين متعاقدون مع وكالة مايندشير، التي تسيطر على نسبة 70% من السوق، وهي التي تتفاوض مع الوسيلة الإعلامية للحصول على مساحات إشهارية. هذه الوضعية من شأنها أن تخلق حالة من الهيمنة، حيث يسيطر الوسيط على السوق ومن ثمّ يُحدّد الأسعار بطريقة غير تفاضلية. فعلى سبيل المثال، تعرض الشركة الوسيطة خدماتها لفائدة وسيلة إعلامية معيّنة، من خلال اقتراح مساحة إشهارية بمبلغ مليون دينار، يُخصم منها مُقدّمًا مبلغ 15% لفائدة وكالة الإشهار الوسيطة، فيما يتمّ تقاسم المبلغ المتبقّي لاحقًا بين التلفزة والشركة الوسيطة بنسبة تصل أحيانا إلى 60%. في هذه الحال، لا يمكن لمناب التلفزة من عائدات الإشهار أن يتجاوز 400 ألف دينار، وهو مبلغ غير كافٍ لتسيير عملها اليومي وخلاص أجور الموظّفين والتقنيين والصحافيين.

هذه الهيمنة ممنوعة وفق قانون المنافسة والأسعار عدد 36 لسنة 2015، الّذي يمنع الاستغلال المفرط لوضعيات الهيمنة التي تغيب فيها أطراف بديلة للتسويق. وقد تفاقمت الوضعية بعد أن تدخّلت مايندشير في عمليّة الإنتاج مباشرة، عبر مسلسل رقوج الذي تبثّه قناة نسمة، الّذي خصّص حيّزا زمنيّا لعرض عدد من العلامات التجارية داخل محلّ لبيع الموادّ الغذائية، إلى جانب إحدى العلامات التجارية المختصّة في موادّ البناء، وشركة تأمين، وهي علامات متعاقدة بطبيعة الحال مع وكالة الإشهار نفسها. يُعدّ هذا الأمر ضربا من ضروب الإشهار المُقنّع الممنوع قانونًا، ولكنّه أمر يُفرض على القنوات في إطار عملية المقايضة بالإشهار، أو ما يُعرف بالبارترينغ. حيث يتقدّم المنتج بفكرة عمله إلى التلفزة، ويقترح طرح عمله على شاشتها من دون مقابل مادّي، شريطة أن ينال نسبة مهمّة من عائدات الإشهار تصل مثلا إلى 70%، فيما تنال التلفزة ال 30% المتبقّية. ونظرا لضيق السوق وقلّة العروض، تقبل  القناة التلفزية هذا المقترح وتجد نفسها مضطرّة للتنازل عن نصيب مهمّ من عائدات الإشهار مقابل تحصيل النزر القليل. و”في نظام اقتصادي صحّي، يجب على مجلس المنافسة أن يتدخّل لمعاقبة استغلال وضعية الهيمنة”، وفقا ما أشار إليه حسام سَعد.

يُعتبر اللجوء إلى المقايضة بالإشهار كمن يسير فوق رمال متحرّكة، إذ لا تخلو العمليّة من المخاطر والخسائر الماليّة التي يمكن أن تتكبّدها الوسيلة الإعلامية. وقد خاضت القناة الرسمية قبل الثورة تجربة مع شركة “كاكتوس برود” كلّفتها خسائر ماليّة قدّرها الخبراء بحوالي 22 مليون دينار، إذ أجبرت التلفزة آنذاك على التنازل من منابها من عائدات الإشهار لفائدة شركة كاكتوس التي كان يمتلكها مناصفةً كلّ من سامي الفهري وبلحسن الطرابلسي، صهر الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي.

الإشهار: قصف للعقول

يمثّل الإشهار نقطة التقاء عدد من المقاربات التي لا تقتصر فقط على الجانب الاقتصادي الرّبحي، إذ تشمل أيضا الجانب السلوكي للفرد الّذي تتغيّر أنماط استهلاكه مع الزّمن، بتطوّر وسائل الاتصال، وله أيضا بعد اجتماعي يهدف إلى توحيد الأذواق والسلوك الاستهلاكي، وخلق معايير جديدة في عادات الاستهلاك، إلى جانب التماهي والانصهار في النماذج التي يسوّق لها الخطاب الإشهاري، مع مراعاة بعض الخصوصيات الثقافية، كأن يُمنع الترويج للموادّ الكحوليّة والتدخين لاعتبارات صحيّة وربّما أخلاقية.

مع ظهور أولى وكالات الاتصال في بداية القرن العشرين، كان الاهتمام موجّهًا بالأساس نحو تنميط سلوك المستهلك بطريقة تدفعه إلى شراء المنتوجات التي يتمّ الترويج لها، سواءً في الإذاعات أو عبر الملصقات الإشهارية، من خلال اتّباع مبادئ المدرسة السلوكيّة[1]. وكانت أولى وكالات الاتصال التي أسسها المختصّ في علم النفس جون واتسون مختبرًا لتطوير أسس هذه المدرسة عبر دراسة دوافع الشراء ومحفّزاته ومعيقاته، من خلال نموذج خطّي، يعتمد ثنائيّة الإثارة والاستجابة، بحيث تكون الإثارة عبر قصف المستهلكين بالمنتوج، لتخلق استجابة آليّة لدى المستهلك، فيقبل على الشراء.

ورغم أنّ المقاربة السلوكيّة شُذّبت مع الزّمن، وخاصّة بعد الحرب العالميّة الثانية مع بروز المدرسة المعرفيّة، إلاّ أنّ الناظر بعمق في مسألة القصف الإشهاري الحاصل يتبيّن أنّ الهدف من العملية الإشهارية لم يتغيّر، خاصّة مع تطوّر المحامل وتوظيف الصورة لإقناع جمهور المستهلكين. ومع ظهور النظام العالمي الجديد إثر تفكّك الاتحاد السوفياتي في تسعينات القرن الماضي، أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية تحتكر مجال الهيمنة الثقافية، ودخل العالم مرحلة الليبرالية والتجارة الحرّة، وتطوّرت معه ثقافة استهلاكية رسّختها الشركات متعدّدة الجنسيات، التي استفادت من الاتفاقيات بين الدّول وتسهيل تنقّل البضائع والأشخاص، ومن التطوّر التقني الّذي أصبحت من خلاله قادرة على الترويج لا فقط لمنتوجات، بل أيضا لنمط عيش وثقافة كاملة.

في دراسة أعدّها المعهد الوطني للاستهلاك في 2013 حول “تغيّر أنماط الاستهلاك في تونس”، فإنّ العولمة والحداثة وتكنولوجيات الاتصال، كلها عوامل ساعدت على تغيير أنماط استهلاك التونسيين، الذين يجدون أنفسهم يُساقون إلى تبنّي سلوك استهلاكي جديد في الأكل واللباس وغير ذلك. فعلى سبيل المثال، حلّ كلّ من الياغورت والكايك الصناعي والكورن فليكس محلّ الخبز والزيت والعصيدة (الثّريد) والبسيسة في وجبة فطور الصباح. وأصبح الأطفال يقبلون على تناول الأطعمة التي يشاهدونها على التلفاز ويرفضون إحضار اللمجة التي يعتبرونها قديمة الطراز إلى المدرسة، مثل سندويتش الزبدة والمربّى. كما أصبح الراشدون يقبلون على استخدام مزيل العرق وصبائغ الشعر وأنواع مختلفة من الشامبو، في الوقت الّذي كان من المتداول استخدام الحنّاء و”الشَّبّ” والطّين عوضًا عن الموادّ المصنّعة.

تخلق الهيمنة الاقتصادية أو الثقافيّة نمطًيّة استهلاكية وارتهانًا للسوق، عوضًا عن فتح المجال للإبداع والمنافسة النزيهة، حيث تصبح المساحات الإشهارية فرصة لمراكمة الثروة بالنسبة إلى وكالات الإشهار وخلق حاجيات مستجدّة للمستهلك، في الوقت الّذي يجتهد فيه لتوفير أدنى متطلّبات العيش الكريم.


[1] Jean-Noël Kapferer, Comment agit la publicité : théories, recherche et implications créatives, Revue Réseaux. Lien: https://shorturl.at/enuVW

انشر المقال

متوفر من خلال:

سياسات عامة ، مؤسسات عامة ، مؤسسات إعلامية ، قطاع خاص ، حقوق المستهلك ، مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني