حَملة التصويت بـ”نعم”: الأفراد يتكلمون باسم الفرد


2022-09-28    |   

حَملة التصويت بـ”نعم”: الأفراد يتكلمون باسم الفرد

في ظلّ المقاطعة الحزبية الواسعة لاستفتاء 25 جويلية 2022، دارَت الحملة الانتخابية على إيقاع الصوت الواحد المنادي بالتصويت بـ”نعم”. وشهدَتْ بروزًا ملفتًا للانتباه لأفراد غير مُتحزّبين مُناصرين للرئيس قيس سعيد ويُمارسون الدعاية لصالح مشروعه السياسي. غابت عن الحملة ظاهرة تعليق البرامج والبيانات الانتخابية في الأماكن المخصصة لها من قبل هيئة الانتخابات. وكان نسق الاجتماعات والتظاهرات السياسية بطيئًا. ولم تُفلح بعض الأحزاب المُنادية بالتصويت بـ “لا” في تنظيم اجتماعاتها في ظروفٍ عادية وتعرّضت للتضييق والمنع من قبل أنصار الرئيس، على غرار حزب آفاق تونس. واختارت فعاليات مدنية وسياسية أخرى مقاطعة الاستفتاء على وقع الاحتجاج السياسي في الشارع. وانتهت بعض المسيرات المُعارضة للاستفتاء بالاعتداء الجسدي على المتظاهرين من قبل قوات البوليس واعتقال البعض منهم.

يَبدو أن الضغط الزمني والفرض الأُحادي للمسار والمقاطعة الحزبية الواسعة قد شكّلت عوامل مؤثّرة على نسق الحملة واتجاهاتها. ولكن هذه العوامل مُجتمعة لا تُشكّل مداخل كافية لفهم مضمون الحملة وخلفياتها السياسية والفكرية. وتبدو العودة إلى موقف الرئيس سعيّد من الحملات الانتخابية السابقة مدخلا آخر مناسبا لإعطاء إضاءات حول “البراديغم الانتخابي” الجديد الذي يدافع عنه الرئيس وأنصاره. لقد استُبدِلت التظاهرات والاجتماعات السياسية بإقامة حملات دعائية ميدانية في الفضاءات العامة المفتوحة على غرار المقاهي والأسواق. وتلاشى الخطاب “البرنامجي” -على ضعفه وعدم جديته في بعض الأحيان- لفائدة خطابات الشيطنة والإدانة. وتراجعت الديناميات الجمعياتية والحزبية لصالح “أشخاص طبيعيين” يتكلّمون من داخل المعجمية الرئاسية.     

من الحملة الحزبية إلى “حملة الفرد” 

لم يكن تهميش المداولات السياسية والأنشطة الحزبية وغياب البيانات الانتخابية ظاهرة محمولة فقط على موقف المقاطعة الذي اتخذته العديد من أحزاب المعارضة، وإنما المشاركون أيضا لم يُراهنوا على هذا الطراز من الأنشطة الانتخابية. يتخذ الرئيس سعيد موقفًا معاديًا للحملات الانتخابية الحزبية، ليس فقط بسبب المال السياسي، وإنما أيضا لاعتقاده في عدم الاهتمام الشعبي بالبرامج الانتخابية التي تروّج لها الأحزاب السياسية خلال الحملات الانتخابية. وقد سبق أن صرّح قائلًا: “هل أن التونسيين اليوم يقرؤون البرامج الانتخابية … وما هي هذه البرامج الانتخابية التي نستمع إليها كل يوم في وسائل الإعلام ؟”.   

سبق وأن أعلن الرئيس قيس سعيد مقاطعته لانتخابات المجلس التأسيسي سنة 2011 والانتخابات التشريعية والرئاسية التي انتظمت أواخر سنة 2014. وقد سعى أستاذ القانون الدستوري آنذاك إلى الطعن في النظام الانتخابي القائم على القائمات واعتباره مدخلا لسيطرة الأحزاب السياسية والمال السياسي على العملية الانتخابية بإيعاز من قوى أجنبية. ودعا في الوقت نفسه إلى استبداله بنظام الاقتراع على الأفراد في دورتين. وقد صرّح الرئيس خلال ندوة تدعو إلى مقاطعة الانتخابات التأسيسيّة، انعقدت في 15 أكتوبر 2011 قائلا: “الجزء الأكبر من الشعب قاطع العملية الانتخابية. وهذا دليل على أن المسار الانتخابي ليس المسار المطلوب من قبل الشعب”. وفي سنة 2014، كان الرئيس سعيّد قريبًا من “ملتقى مقاطعة انتخابات 2014” الذي ضَمّ فعاليات سياسية محسوبة على اليسار من ضمنها “الهيئات الثورية المستقلة” و”حزب الكادحين الوطني الديمقراطي” و”حزب النضال التقدمي” و”رابطة النضال الشبابي”. وقد اعتبر الملتقى في بيان له صدر في 15 نوفمبر 2014 أن موقف المقاطعة منسجم مع المقاطعة الشعبية الطوعية للانتخابات، مشيرًا إلى أن المقاطعة “ظاهرة موضوعية تعبّر عن قناعة لدى الأغلبية بأن لا طائل من وراء هذه الانتخابات وهو ما يعكس وعيًا بعدم الثقة في ما يسمى الانتقال الديمقراطي برمته وفي كل ممثليه من الأحزاب التي انخرطت في عملية الانتخابات”. 

رغم أن المنظومة الانتخابية التي يُناصبُها الرئيس العداء هي التي قادته إلى سدّة الحكم في أكتوبر سنة 2019، إلا أنه أصرّ على خلق التمايز داخل الحملات الانتخابية السائدة من خلال تبني خطاب طهوري يُظهِره في صورة “التقي” غير الباحث عن السلطة والمناصب. وقد استبدل مصطلح “الحملة الانتخابية” بـ”الحملة التفسيرية”. وصرّح في أكثر من مناسبة أنه لا يفّكر من داخل منطق “المنافسة السياسية”، وأنه ليس لديه طموحات شخصية. 

لا يتطلّع الرئيس سعيد إلى الانتخابات بوصفها آليةً ديمقراطيةً لتجديد نُخب الحكم وضمان التداول السلمي على السلطة، وهو ما يجعلها ساحةً مفتوحةً للمنافسة السياسية التي تظلّ قابلةً للتقييم والتجريح من زاوية احترامها لمبادئ التكافؤ في النفاذ للجمهور الانتخابي والموارد من عدمه. وإنما يَنظر الرئيس إلى العملية الانتخابية كتجسيدٍ لـ “روحية الشعب” التي تقف فوق منطق المصالح والصراع. والحملة الانتخابية بالنسبة إليه هي لحظة “مصافحة نقية” مع الشعب الذي يُمثل جسدًا متكاملًا غير قابل للتجزئة التمثيلية التي تفرزها دينامية التنافس الانتخابي. ولذلك لا يرى الرئيس ضرورةً في تمثيل المصالح الاجتماعية المتصارعة عبر مؤسسات سياسية ومدنية، وإنما يُشكل الأفراد أداة ربطٍ مباشرٍ بين الشعب والسلطة، بوصفهم فاعلين متحرّرين من إكراهات “التمثيليّة الفاسدة”. ولكن هذا التصوّر لا يحول دون إعادة إنتاج ظواهر غير ديمقراطية، إذ لا يشكّل ضمانةً بالمرة أمام منطق التصويت على قاعدة الولاء القرابي والمناطقي، وعلى قاعدة تبادل المنافع الخاصة بين الفرد وناخبيه.

صوّتوا ضد “شياطين العشرية السوداء”

تُشكّل حصص التعبير المباشر التي بثّها التلفزيون الرسمي التونسي ملمحًا عن الخطاب الانتخابي لمؤيدي الدستور الجديد وأنصار الرئيس. هذا الخطاب الانتخابي أنتَجَه فاعلون جدد أًسنِدت إليهم صفة “الأشخاص الطبيعيين”. وقد برَز هذا الجسم على حساب الأحزاب السياسية والجمعيات المؤيدة للدستور، التي كان حضورها هامشيًا في حصص التعبير المباشر أثناء الحملة الانتخابية. رغم أن المشاركين في حملة الاستفتاء تكوّنت من أفراد غير منتظمين سياسيًا، إلا أن خطابهم الانتخابي كان يعكس وعيًا “جماعويًا” تُوحّده أساسًا معجمية “شيطنة” العقد الماضي، الذي اتّفق الجميع على تسميته بـ”العشرية السوداء”. وعلى عكس وعوده بمستقبل جديد، فإنّ الخطاب الانتخابي اتّخذ في مجمله وجهة ماضوية، قامتْ على إدانة دستور 2014 بوصفه “الشرً الأكبر” الذي أدى إلى الخراب السياسي والاقتصادي الذي عاشته البلاد بعد الثورة. كما اتجهت أصابع الإدانة نحو الأحزاب السياسية ومؤسسات التمثيل الديمقراطي، وفي مقدمتها البرلمان. 

أسنَد المشاركون في حصص التعبير المباشر صفات تحقيرية لخصومهم السياسيين، من قبيل “الكلاب الضالة” و”القطط السمان”. وتردّدت في خطابات الكثير منهم الاتهامات بالعمالة و”الخيانة الوطنية”. وقد أشارت إحدى المشاركات في حملة مناصرة الاستفتاء إلى أن دستور 2014 كان صنيعة الدوائر الاستعمارية، مشيدةً بأن دستور جويلية 2022 “منتوج تونسي لم يتدخل فيه فيلتمان ولا لجنة البندقية ولا غيرها من الدوائر الاستعمارية”. 

الخطاب الانتخابي ركّز على شيطنة العشرية السوداء الماضية من دون أي نظرة إلى المستقبل

جاء الخطاب الانتخابي للأنصار المشاركين في حصص التعبير التلفزي المباشر متطابقًا إلى حد كبير مع المذكرة التفسيرية التي أصدرها الرئيس سعيد أثناء الحملة الانتخابية من دون احترام الآجال القانونية التي ينص عليها القانون الانتخابي. لم تتّجه هذه المذكرة نحو تفسير مضامين الدستور الجديد، وإنما قامت في جزئها الأكبر على تقزيم منتقدي الرئيس وإدانتهم. وقد وصفت المذكرة الرئاسية المحذرين من مزالق العودة إلى الاستبداد على هذا النحو: “ويَدّعي من دأب على الافتراء والادعاء أن مشروع الدستور يهيئ لعودة الاستبداد، لأنه لم يكلف نفسه عناء النظر في كل بنوده وأحكامه، بل لم ينظر لا في تركيبة المحكمة الدستورية، ولا في إمكانية سحب الوكالة، ولا في حق المجلس في مساءلة الحكومة، ولا في تحديد حق الترشح لرئاسة الدولة إلا مرة واحدة. فما أبعد ما يروجونه عن الحقيقة، وما أبعد ما يفترون ويذيعون عن الواقع”. 

عمومًا، كانت المذكرة التفسيرية أشبه بالبيان التحريضي ضد خصوم الرئيس ومنتقديه ولم تُفسر الخيارات الكبرى لمشروع الدستور الجديد، من ضمنها إلغاء الفصل بين السلط وإعطاء صلاحيات واسعة للرئيس دون إرفاقها بضمانات الرقابة والمحاسبة.    

المذكرة التفسيرية لم تُفسّر الخيارات الكبرى لمشروع الدستور الجديد لكن حرّضت ضدّ خصوم الرئيس

الاستفتاء على الرئيس سعيّد وليس على الدستور

جاء مشروع الدستور الجديد إسقاطًا كليا لمشروع الرئيس سعيد، حتى أن “الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة” التي كلفها الرئيس سعيد بصياغة دستور جديد تبرّأت من المشروع الرئاسي المنشور في الجريدة الرسمية. وقد أشار رئيسها الصادق بلعيد إلى أن “الهيئة الوطنية المكلفة بصياغة مشروع الدستور بريئة تماما من المشروع الذي طرَحه رئيس الجمهورية للاستفتاء الوطني”. هكذا تَمركز المسار السياسي والدستوري، بما في ذلك الحملة الانتخابية والاستفتاء، حول الرئيس قيس سعيد. وقد ساهمتْ الدعاية الرسمية في خلق مزاج انتخابي غير مهتمّ بمضامين الدستور الجديد، بقدر ما يُبدي انشغالا أكبر بشخصية الرئيس سعيد والهالة الأخلاقية التي أشِيعت حولها. وقد استبطن جزءٌ كبيرٌ من الجمهور الانتخابي فكرة الحسم بين التصويت للرئيس سعيد أو السماح بعودة شخصيات أخرى للساحة السياسية، وفي مقدمتها رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي.

تضمَّن التصويت بـ”نعم” في طياته فكرة العقاب، التي تهدف إلى كنس القديم دون التساؤل عن قدرة الفاعل الجديد على تغيير الأوضاع. وقد ساهم “التصويت العقابي” في استمالة جزءٍ لا بأس به من الجمهور الانتخابي ودَفعَه نحو التصويت لصالح مشروع دستورٍ لم يتسنَّ للكثير قراءته وتفحّص فصوله. وفي هذا السياق، تمّ الترويج للنظام الرئاسوي الذي نصّ عليه الدستور الجديد بوصفه مدخلًا لإعادة الاستقرار السياسي والقضاء على تشتّت السلطة التنفيذية. وهكذا لعبتْ صورة الرئيس “القوي” و”المنقذ من الخراب” دورًا لا بأس به في توسيع الكتلة الانتخابية المؤيدة لمشروع الدستور الجديد.         

نشر هذا المقال في العدد 25من مجلة المفكرة القانونية – تونس. لقراء مقالات العدد اضغطوا على الرابط ادناه

 جمهوريّة الفرد أو اللاجمهوريّة

انشر المقال

متوفر من خلال:

أجهزة أمنية ، أحزاب سياسية ، مقالات ، تونس ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني