حوار مع المناضلة سعدية مصباح: ستبقى آثار الاعتداءات العنصريّة محفورة بالذاكرة


2023-04-12    |   

حوار مع المناضلة سعدية مصباح: ستبقى آثار الاعتداءات العنصريّة محفورة بالذاكرة
سعدية مصباح، من صفحتها على فيسبوك

على إثر البلاغ العنصريّ الذي نشرته رئاسة الجمهورية في 21 فيفري 2023، انطلقت حملة اعتداءات وانتهاكات ارتكبها تونسيون ضدّ المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء، طالت كذلك التونسيّين ذوي البشرة السوداء الذين تقدّر بعض منظمات المجتمع المدني نسبتهم بما بين 10 و15% من عدد السكان، في غياب أيّ إحصاء رسمي. اعتداءات بالعنف بشتّى أنواعها، تشريد من المنازل، تهديد وتخويف، سلب وسرقة للممتلكات ورشق بالحجارة طال حتى الأطفال، تركّزت متابعتها حول ضحاياها المباشرين، أي المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء، بينما لم يتمّ التركيز على ما طال التونسيين السود من انتهاكات.

بهدف تناول استتباعات ما صدر عن رئاسة الجمهورية من خطاب ومواقف عنصرية وآثارها المباشرة على التونسيين ذوي البشرة السوداء خصوصا، التقتْ المفكّرة يوم 27 مارس 2023 بسعدية مصباح، المناضلة ضدّ التمييز العنصريّ ورئيسة جمعية “منامتي” التي تأسّست بهدف مكافحة جميع أشكال التمييز، والتي ساهمت مباشرة في النقاشات وأعمال المناصرة التي تعلّقت بالقانون عدد 50 لسنة 2018 المؤرخ في 23 أكتوبر 2018 والمتعلّق بالقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، وهو النصّ القانوني الأوّل من نوعه في تونس. سعديّة مصباح، التي تتعرّض كغيرها من أصحاب البشرة السوداء إلى التمييز العنصري، شاءت أن تكرّس نضالها لمكافحته.

المفكّرة القانونية: لماذا اخترتِ الانخراط في هذه القضية ولماذا تودّين تكريس حياتك من أجلها؟

سعديّة مصباح: لأنني جزء منها، لأنني عشتها ولا زلت أعيشها إلى الآن، ولأنني أشعر بها وكم يصعب تقدير إحساس من يشعر بألم التمييز. عادةً لا يتمّ التفكير بمشاعر ضحايا التمييز، لا نفكّر مسبقا بوقع الحركات والكلمات العنصرية على الشخص المقابل. نكتفي عموما بطمأنة أنفسنا بعبارات من قبيل “لقد تشاركنا معهم أطباق الطعام” أو “لنا من ذوي البشرة السوداء أصدقاء عدة”. نحاول إقناع أنفسنا بمثل هذه الترهات ولا نفكّر أصلا بمشاعر من يُسلّط عليه هذا التمييز ويتحمّل وقعه. لأنّ هؤلاء الأشخاص لن يبكوا أمامنا ولن يتذمّروا ولن يقوموا بأيّ ردّة فعل مباشرة على مثل هذه الأفعال وهو ما يُفهم في كثير من الأحيان كفرصة متاحة للتمادي في التمييز والتجاوز.

ثمّ أنا أنتمي لعائلة ناضلت من أجل هذه القضية بأشكال متعدّدة. لقد ناضل أبي عن طريق البناء، وأخي عن طريق الغناء وأختي عن طريق الكتابة وأنا اخترت أن أناضل بهذه الطريقة. هذا بالإضافة لانعدام الأسباب التي تجعلني أصمت. ليس هناك أيّ سبب يجعلني أصمت أو لا أنخرط في هذه المقاومة. أنا أشعر أنني متساوية مع كلّ شخص تونسيّ. أنا أستبطن هذه المساواة وأشعر بها في داخلي. فمن البديهي أن أنخرط كليا في مكافحة التمييز.

المفكرة: كيف كان وقع البلاغ-الفضيحة الذي أصدرته رئاسة الجمهورية على التونسيين السود؟ ما هي أهمّ آثاره التي رصدتها وكيف تصِفينها؟

مصباح: لقد حلّ بلاغ رئاسة الجمهورية كالكارثة على التونسيين السود، لقد كان في شكل إعلان متجدّد بأنه لا يُعترف بوجودهم. بالنسبة لي كان أشبه بوضعيّة شتم الشخص والإصرار على الإساءة إليه حتّى بعد القيام بقتله. لقد كان عبارة عن رسالة موجّهة للسود فحواها “ليس لكم أيّ صوت بيننا، بل لن نسمع لكم صوتا أو قولا مهما فعلتم. لن نعترف بوجودكم الآن ولن يكون لكم أي تواجد مستقبلا” لقد تمّ نفي وجودنا تماما. هكذا فهمت وقرأت التصريحات والخطابات الأخيرة.

تنهي سعدية كلماتها بتأثّر شديد وتتفاعل المحاورة بقولها أنه سيتمّ تجاوز هذه الوضعية. تقاطعها سعدية لتفيد:

لن يتمّ محو ندوب وآثار الأحداث الأخيرة إلا بعد عشرات السنين. يصعب جدّا أن يتجاوز السود حجم الصدمة التي عاشوها، وكذلك غير السود من الذين ساعدوا ضحايا هذه الهجمة وعاينوا ما تعرّضوا له من انتهاكات، بل ستتوارثها الأجيال المتعاقبة. ستبقى آثار ما وقع من اعتداءات محفورة في الذاكرة الجماعية. ستبقى هذه الأحداث بالذاكرة اللاواعية، ستبقى بذاكرة الطفلة التي كانت شاهدة على حادثة اغتصاب أمّها بعد أن سلبوا أموالها، ستبقى آثارها على الجنين الذي تحمّلت أمّه انقباضات الولادة قبل أوانها بعد تعرّضها للاعتداء بالعنف، ستبقى بذاكرة المرأة التي اغتصبت بعد أن وقع تكبيل زوجها.

الأكيد أنه لن يتمّ تجاوز ما وقع عبر خطابات الأخوّة. كيف يمكن لرئيس الجمهورية أن يتوجّه لرؤساء إفريقيا جنوب الصحراء والإصرار على عبارات الأخوّة وهو لا يعترف بفئة من المجتمع التونسي ذات بشرة سوداء؟ هل رأيتم رئيس الجمهورية يوما يتحدّث لمواطن تونسي ذي بشرة سوداء ويسأله عن وضعيته المعيشية؟ يحرص الرئيس على القيام بعدة لقاءات وزيارات، فهل قام يوما بزيارة الجهات والأحياء التي يعيش بها آلاف المواطنين من سود البشرة؟

لن يتمّ تجاوزه أيضا لأنّ التونسي غير الأسود لا يهتمّ عموما بهذه القضية وليس متضامنا مع ضحاياها.

المفكرة: كيف يمكن لمنظمات المجتمع المدني ولمناهضي التمييز العنصري مقاومة خطاب الحزب القومي لمجابهة آثاره وانعكاساته لدى الرأي العام؟

مصباح: كيف يمكن مقاومة صفحات بعشرات آلاف المتابعين التي تبثّ الخطاب العنصريّ الذي يدين المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء ويسوّق زورا لمخاطر استقرارهم بتونس بتعلّة عددهم المرتفع بينما لا يتجاوز عددهم حجم المهاجرين من البلدان المغاربية بتونس؟ كيف يمكن مقاومة الكمّ الهائل من الصفحات التي يتمّ إنشاءها والتي يرتفع عدد متابعيها ويتمّ استعمالها في هذه الحملة الموجّهة؟ وهو ما يؤكّد أنّ الحملة الأخيرة كانت مدعومة بالكثير من المال وهناك من يقف وراءها ويديرها. كيف يمكن مقاومة هذا الخطاب العنصري المدعوم ماليّا؟ هل لدينا نفس الأدوات لمقاومة هذا الخطاب؟ الأكيد أنّه ليس لدينا كلّ هذا المال.

ثمّ أنّ هذه الحملة اعتمدت على الكثير من المغالطات للتلاعب بالرأي العام في ظلّ هذه الأزمة الاقتصادية، مثل الترويج لعودة المنتجات الغذائية التي أصبحت فجأة متوفّرة بعد بلاغ رئاسة الجمهورية وطرد المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء والتلويح بأنّ المهاجرين “يقطعون على التونسيين قوتهم”. هذا بالإضافة للتسهيلات التي يتلقاها هذا الحزب اليميني المتطرّف فقد فتحت له أبواب وسائل الإعلام ومؤسسات الدولة وأضحت حتى رئاسة الجمهورية تتبنّى خطابه وتستعمله.  

المفكرة: هل تظنّين بأنه ستتمّ متابعة الشكاية المقدّمة ضدّ الحزب القومي التونسي؟ هل ستقع محاسبته؟

مصباح: لا أظنّ ذلك. يصعب جدّا أن يحاسب الشخص نفسه. من سيحاسب هذا الحزب؟ هناك مثل شعبي تونسي يعبّر عن هذه الوضعية: “إذا كان خصمك هو الحاكم فلمن ستشتكي؟”. رئاسة الجمهورية تتبنى خطاب هذا الحزب وتستعمل المعلومات المضمّنة بتقرير هذا الحزب، مؤسسات الدولة تفتح له أبوابها في حين قامت بإغلاقها في وجه آخرين.. كيف يمكن فهم وتفسير هذا التقارب مع “مسار 25 جويلية” وكيف ستتمّ محاسبته؟

المفكرة: بعد إصدار القانون عدد 50 المتعلق بالقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري والذي كان خطوة هامة لمكافحة أشكال التمييز، ما الذي تغيّر بالنسبة للتونسيين السود؟ هل كان لهذا القانون انعكاسات على حياتهم؟ هل تمّ احراز أي استحقاقات أو إنجازات جديدة؟

مصباح: لم تتغيّر وضعيّتهم. هل رأيت التونسيين السود في الشارع للتعبير عن رفضهم أو عن غضبهم؟ الذين يعيشون بالمهجر يعبّرون عن آرائهم من خلف الشاشة ويكتبون مقالات ورسالات مفتوحة موجهة للرئيس ومن ثمّ يتراجع بعضهم ويتعلّل بأنها زلّة لسان. لم تتغيّر وضعيّة التونسيين السود بعد صدور القانون ولن تتغيّر.

من جهة أخرى، لم يُنصف القضاء ضحايا القانون عدد 50 بل إنّه يُبدي أحيانا تواطؤا مع المعتدين لأنّ منظومة العدالة لا تؤمن بهذا القانون. غياب الاقتناع بهذا القانون وعدم الحرص على تطبيقه ينبع من عدم اعتراف بانتشار العنصرية بالمجتمع وإنكار لحقّ من تطاله. تمّ تقديم ما يقارب 290 شكاية على معنى هذا القانون وتراوحت الأعمال القضائية بين التقدّم في البحث والتحقيق وبين المرور للمحاكمة.

المفكرة: هل صدرت في شأنهم أحكام قضائية؟ هل كانت هناك أحكام بالإدانة؟ 

مصباح: صدرت ثلاثة أحكام فقط بالإدانة ولكنها لم تطبّق أحكام القانون بالكامل. على سبيل المثال، قضى أوّل حكم صادر بالسجن 5 أشهر مع تأجيل التنفيذ ضدّ المرأة التي لم تكتفِ باقتحام قاعة التدريس والتهجّم على المعلّم ذي البشرة السوداء، بل بصقت في وجهه واعتدتْ عليه بالضرب. من ثمّ تعرّض المعلّم للهرسلة والتهديد بالقتل من قبل زوجها وعائلتها ممّا جعله يغادر مقرّ سكناه ويتنقّل من مأوى إلى آخر طيلة شهر كامل. فيما كانت وقائع الملفّ توحي بظروف التشديد، كان القرار القضائي مخفّفا جدا. لم تعاقب معظم الاعتداءات العنصريّة رغم خطورتها لأنّ للعدالة لون في تونس.

المفكرة: لماذا؟ لماذا يدافع قلة فقط من التونسيين سود البشرة عن هذه القضية؟ أين هو مجتمع السود في تونس؟

مصباح: لا يمكن الحديث عن مجتمع السود في تونس لأنه ليس هناك وعي أسود (une conscience noire). ليس هناك أي أسس لتكوين مجتمع السود لأنّ الأفراد السود مشتّتون، لا يحبّذون الانخراط في مثل هكذا معارك، يتفادون في أغلبهم حتى الحديث في هذا الشأن، يفرحون بالقليل المنجز ويكتفون به.

المفكرة: في ظلّ استقالة الدولة من دورها الأساسي لتحقيق المساواة ومقاومة كلّ أشكال التمييز، ماذا يتبقّى للمدافعين والمنخرطين بهذه القضية؟ كيف يمكن حماية المكتسبات ومواصلة النضال؟

مصباح: لن يتمّ محو ندوب وآثار الأحداث الأخيرة إلا بعد عشرات السنين. عند سنّ القانون عدد 50، أحرزنا خطوة إيجابية في سبيل هذه القضية ولكنّ الأحداث الأخيرة أعادتنا 177 خطوة إلى الوراء… 177 خطوة بعدد السنوات التي تلت تاريخ إلغاء العبودية والرقّ في تونس. وكأنّ ما وقع من أحداث قام بإلغاء ومحو كلّ ما تمّ تحقيقه.

في ظلّ كل ما يحدث من حولنا، سيبقى للمقاومين وللمنخرطين في هذه القضية قناعاتهم المبدئية لأنّ ما حدث لن يهزمهم ولن يوقفهم إلاّ لو تمّ الحكم عليهم بالموت.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مساواة ، أحزاب سياسية ، قرارات قضائية ، فئات مهمشة ، لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، مقالات ، تونس ، لا مساواة وتمييز وتهميش



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني