حوار مع أستاذ علوم الميديا والاتصال الصادق الحمامي: التصويت في الاستفتاء لم يقمْ على رأي مستنير


2022-09-28    |   

حوار مع أستاذ علوم الميديا والاتصال الصادق الحمامي: التصويت في الاستفتاء لم يقمْ على رأي مستنير

لا يجادل أحدٌ في أنّ من أهمّ شروط التعبير الحرّ عن الإرادة الشعبيّة، وجود إعلام تعدّدي ومهنيّ ونزيه. ولئن كان الإعلام من أهمّ أمراض منظومة الانتقال الديمقراطي، إلاّ أنّ أزمته تفاقمت في الفترة الأخيرة، خصوصًا في الإعلام العمومي التلفزي الذي تحوّل في جزءٍ منه، إلى غرفة دعاية للسلطة. للعودة إلى وضعيّة الإعلام في هذا السياق ومحاولة فهم أسباب ذلك، التقينا بتاريخ 6 سبتمبر 2022، بأستاذ التعليم العالي في معهد الصحافة وعلوم الأخبار بجامعة منّوبة، والباحث في الميديا، الصادق الحمامي. وقد نشر الحمامي أعمالًا بحثيّة عديدة حول علاقة الإعلام بالديمقراطية في تونس، أبرزها كتاب “ديمقراطية مشهديّة، الميديا والاتصال والسياسة في تونس” (دار محمّد علي للنشر، 2022).

المفكرة القانونية: كيف كانت تغطية الإعلام التونسي عمومًا لحملة الإستفتاء والنقاش حول مشروع الدستور؟

الصادق الحمامي: تميّزت التغطية الإعلامية لحملة الاستفتاء بضعفٍ شديد. والسبب الأساسي، هو أنّ النظام الإعلامي برمّته مريض، ولا يشتغل بطريقةٍ طبيعيّة. فالشروط الموضوعيّة التي يجب أن تتوفّر في نظام إعلامي يؤدّي دوره في ديمقراطيّة لم تكن متوفّرة، وذلك في مختلف المجالات الإعلامية. فالصحافة المكتوبة، التي تلعب دورًا محوريّا في الديمقراطيات، هي في تونس في حالة موتٍ سريري وتكاد تندثر. أمّا القنوات التلفزيونية الخاصّة، فقد انسحب معظمها من الفضاء العامّ السياسيّ وتحولت إلى قنواتٍ ذات طابع ترفيهي محض. الإعلام العمومي، سواء الإذاعي أو التلفزي، هو بدوره في حالةٍ فائقة الهشاشة، وقد سعى الرئيس قيس سعيّد إلى تركه كذلك بعدم تسمية مديرين عامّين قارّين. بل أنّ التلفزيون العمومي فقدَ منذ 25 جويلية ما تبقّى له من مواصفات الإعلام العمومي، حيث تحوّلت برامجه الحواريّة إلى غرفة دعاية، على حدّ تعبير الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري “الهايكا”. حتّى الإعلام الإذاعي الخاصّ تحوّل إلى نوع من “غرف الصدى” (Echo chamber)، حيث يجد كلّ فردٍ نفسه في فضاءٍ منسجمٍ إيديولوجيًا وسياسيًّا. فللمعارضين برامجهم الإذاعيّة المفضّلة، وللمساندين للمسار برامجهم. بذلك ينتفي مبدأ “المواجهة” في النقاش، الذي يقارنه برنار مانين (Bernard Manin) بالإجراءات القضائيّة، وهو ما يؤدّي، كما تقول ناديا أوربيناتي، إلى تشويه الديمقراطيّة.

باختصار، لم يؤدّ الإعلام دوره بشكل جيّد، ولم يساهم في أن يكون التعبير عن الإرادة قائمَا على معارف وعلى معطيات وعلى نقاشٍ تعدّدي. بالمقابل، تحوّل فايسبوك أكثر فأكثر إلى مصدرٍ أساسيّ بل وأحيانًا وحيدٍ للمعلومة السياسيّة. بل أصبح بامتياز فضاء “التنشئة السياسيّة” (socialisation politque). وفي ذلك خطرٌ مضاعف، إذ تشجّع خوارزميات فايسبوك الخطاب الحادّ والمثير للانقسام، وأيضا ما يعبّر عنه بالكارهين، وتثني عن النقاش الهادئ والرصين، بالإضافة إلى خطر التضليل وانتشار الإشاعات. سبق وأن اعتبرت في كتابي “ديمقراطية مشهديّة”، أنّ التضليل الإعلامي في تونس (désinformation) يكاد يكون طاغيًا في غياب وسائل إعلام جدّية وذات إمكانيات، قادرة على أن تكون مرجعًا للأخبار الجيّدة والمعارف، كما يحصل عمومًا في الديمقراطيات. وهذه الظاهرة عشناها أيضا في النقاش حول الدستور.

المفكرة: أثارت مسألة حقّ المقاطعين في التعبير جدلًا، خصوصا بعد تصريحات أعضاء من هيئة الانتخابات تشترط عليهم التسجيل في الحملة لكي يكون لهم الحقّ في الظهور الإعلامي. كيف تعاملت وسائل الإعلام مع ذلك؟

الحمامي: تقرير الهايكا يتحدث عن الحيّز الزمنيّ المخصّص للرافضين، ولم يشملْ المقاطعين. لذلك ليس لدينا معلوماتٌ إحصائيّة كميّة. لكن بالعين المجرّدة، يمكن أن نقول أن وسائل الإعلام لم تلتزم بالتوصيات الصادرة عن بعض أعضاء الهيئة، حيث استطاع المقاطعون الحضور في عددٍ من وسائل الإعلام. منطق وسائل الإعلام يختلف عن منطق هيئة الانتخابات. وسائل الإعلام تتحرّك وفق مصالح وإكراهات متعدّدة. المنطق المهيمن هو منطق الجمهور (audience)، وهو منطقٌ تجاري، تبحث من خلاله على الانتشار. لا نجد هذا المنطق فقط في القنوات الخاصّة، ولكن حتى التلفزة الوطنية، التي لم تبحثْ فقط على التماهي مع السلطة، وإنّما كذلك مع الرأي العامّ المهيمن. إذا نحلّل تقرير الهايكا، نستنتج أنّ التلفزة الوطنية اشتغلت بمنطقٍ مزدوج، منطق الجمهور والخضوع السياسيّ، من جهة، والمنطق المهني، الذي وجدناه في مصلحة الأخبار.

المفكرة: كيف نفسّر هذا الفرق داخل الإعلام العمومي بين برامجَ حواريّة أقصيت منها الأحزاب المعارضة، وقسم الأخبار الذي حافظ على حدّ أدنى من التعدّدية؟ وما الذي يفسّر الفرق بين الإعلام التلفزي العمومي، والإذاعات العمومية التي حافظ صحفيّوها على حدٍّ أدنى من الاستقلاليّة؟

الحمامي: في تقرير “الهايكا” حول تغطية مسار الاستفتاء، نجد أنّ القناة الوطنية الأولى خصّصت 64% من برامجها للمواقف المُساندة للرئيس، على عكس ما حصل في الإذاعات العمومية التي يكاد يتساوى فيها الحيّز الزمني المخصّص لمُساندي مشروع الدستور ومعارضيه. كما أكّد التقرير الفرق في الالتزام بالتعدّدية السياسيّة، بين مصلحة الأخبار والبرنامج الحواريّ في التلفزة الوطنيّة.

هنالك فرضيّة وضعتها في كتابي قد تفسّر هذا التناقض، وهي الطابع الهجين (hybridité) للإعلام في تونس، أي التمازج بين 3 أنواع من الصحافة. فهناك توجّهٌ أقلّي، هو “الصحافة الإخبارية”، التي تقوم على حدٍّ أدنى من المهنيّة وتؤمن بحقّ الناس في المعرفة وتسعى إلى الحقيقة، ونجدها بالخصوص في بعض وسائل الإعلام البديل على شبكة الإنترنت، وإلى درجة ما في وكالة تونس أفريقيا للأنباء وفي بعض الصحف المكتوبة وبعض الإذاعات. ثمّ هناك نوعٌ ثانٍ، وهو “الصحافة الناقلة”، التي تُمارس في غرف الأخبار، وقد سمّيتها أيضا “صحافة العلاقات العامّة”، فهي لا تعالج الخبر، وإنما تنقل الموادّ التي ينتجها الفاعلون السياسيون من تصريحاتٍ وبلاغات كما تصل لها. أمّا النوع الثالث، فهو الصحافة التعبيريّة، غير الملتزمة بالأخلاقيات المهنية، ونجدها خاصّةً في البرامج الحوارية. لأنّ “الكرونيكور”، الذي يهيمن على هذه البرامج، يعتبر نفسه فوق القيم الصحفيّة، أي الموضوعية والاستقلالية. فهو يعرّف نفسه على أنّه “وطني” أو “تقدّمي”، الخ، ولا يرى أيّ مانعٍ في الاصطفاف السياسي. في التلفزة الوطنية، نجد مزيجا هجينا بين منطق صحافة الإخبار، ومنطق “الصحافة التعبيرية” القائم على الأيديولوجيا ومعايير غير صحفيّة. إضافة إلى ذلك، نجد في المؤسسة ذاتها تهجينًا بين تصوّراتٍ ديمقراطية للصحافة، وتصوراتٍ قديمةٍ سابقة ل 2011، موروثة حتّى لدى صحفيين شباب درسوا الصحافة بعد الثورة، لكنّهم يمارسونها للأسف على طريقة الصحافة ما قبل 2011. إضافةً إلى ذلك، لا توجد آليات مساءلة ومحاسبة في الإعلام العمومي، في غياب ميثاقٍ تحريري مفعّل يسمح للمواطنين بمساءلته. يبقى سبب آخر، وهو أنّ مؤسسة التلفزة الوطنية لم تخضع للإصلاح بعد الثورة، حيث يعيد قيس سعيّد إنتاج هذه الاستراتيجية. من دون أن ننسى ضعف الدور التعديليّ.

المفكرة: كيف تقرأ غياب البرامج السياسيّة عن جلّ القنوات التلفزية الخاصّة في فترة الاستفتاء؟ هل أنّ ذلك نتيجةٌ طبيعيّة لتغيّر البرمجة خلال العطلة الصيفيّة، أم هناك حساباتُ سياسيّة ربما أثرت في ذلك؟

الحمامي: استراتيجية المؤسسات الإعلامية الخاصّة هي استراتيجية أصحابها. هؤلاء كانوا مرتبطين ارتباطًا وثيقًا بمنظومة الأحزاب. ولهذا السبب كانت البرامج تصمّم على شاكلة موازين القوى في المشهد السياسي، حيث يمثّل كلّ طرف سياسي وازن بكرونيكور. الأمر ذاته نجده في البرامج الرياضيّة، حيث يكون لكلّ فريقٍ كبير من يمثّله. عندما انهارت منظومة الأحزاب، ولم تعدْ لها إمكانية التأثير، سحبتْ المؤسسات ممثلي الأحزاب الوازنة، خصوصًا حركة النهضة. بالإضافة إلى ذلك، هناك حركة لا تسيّس في المجتمع، تفطّنت لها المؤسسات التلفزيّة وسايرتْها بمنطق المردوديّة الاقتصاديّة. حالة التعب المجتمعيّ من السياسة انعكستْ في نقص البرامج السياسيّة في التلفزات، وطغيان البرامج الترفيهيّة. للمفارقة، هذه الظاهرة ليست حكرًا على تونس، بل نجدها حتّى في ديمقراطياتٍ عريقة. لكن كان على الهايكا أن تلعب دورها، عبر فرض مبدأ التنوع في البرامج عند إعطاء الإجازات. في تونس، هناك قنواتٌ تشتغل بدون برامج إخباريّة، وفي قنواتٍ أخرى، نجد برامج إخبارية من دون صحفيّين.

المفكرة: هل ترى أنّ هناك تراجعًا في دور “الهايكا” منذ 25 جويلية، وصولًا إلى فترة الاستفتاء؟ ألا ترى أنّ تعامل الهيئة كان سلبيًّا، ليس فقط في علاقة مع وضعيّة الإعلام السمعي البصري، ولكن أيضا إزاء حذف الهيئة الدستورية للإعلام السمعي البصري من مشروع الدستور، على عكس الدور الذي لعبته مثلًا إزاء محاولة تنقيح المرسوم 116 منذ سنتين؟

الحمامي: حذف الهيئة الدستوريّة للإعلام السمعي البصري لم يكن مفاجئًا. قيس سعيد لا يؤمن بالمنطق الوسائطي للديمقراطية، ويريد أن يتخلّص من كلّ الوسائط. يميّز مانين بين نوعين من الإرادات في الديمقراطيّة، الإرادة العليا، التي يعبّر عنها في الانتخابات، والإرادة السفلى، التي يعبّر عنها الرأي العامّ عبر مختلف الوسائط. سعيّد لا يعترف بالإرادة السفلى.

دور الهايكا منذ إنشائها لم يكن فعّالا، بسبب أزمات داخلية، وبسبب استراتيجيات الفاعلين السياسيين تجاهها، بعدم إعطائها أدوات العمل. كما أنّها هي نفسها انخرطت في مقاربة التعديل في حدّها الأدنى. لقد أقرّت الديمقراطيات التعديل الإعلامي، حتّى يضمن إرساء إعلامٍ مستقلٍّ وشفاف يراقب السلطة السياسيّة ويوفّر للمواطنين الأخبار المتنوعة والمعرفة عن الحياة السياسيّة، وهذا للأسف لم يحدث في تونس، حيث كان التعديل، كي لا نقول فاشلًا، غير فعّال. وذلك يعود بدرجة كبيرة إلى تعقيدات الوضع السياسي وحسابات “الهايكا” في التعامل معها.

المفكرة: هل يمكن الحديث عن إرادة مستنيرة في هذه الظروف؟ وهل تخلّف الإعلام، مرّة أخرى، عن دوره، الذي لخّصته المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في عبارة “كلاب حراسة الديمقراطيّة”؟

الحمامي: للأسف في تونس، اختزلنا الديمقراطيّة في المسألة الدستوريّة، ونسيَ الكثيرون أنّ الديمقراطيّة منظومةٌ كاملة، فيها الأحزاب والإعلام والقضاء والبرلمان وغيرها. النقاش السياسيّ احتكره أساتذة القانون الدستوري، لأن الإعلام يحبّذ هذا النوع من المقاربات، وهو ما صنع نجاح قيس سعيّد نفسه. أنا أصنّف ذلك ضمن صحافة التكلفة المنخفضة، حيث يُستعاض عن التحقيقات المعمّقة والاستقصاء، بصحافةٍ تكلفتها منخفضةٌ، لأنّها تقتصر على نقل الآراء.

اختزلت الديمقراطيّة في المسائل الدستوريّة، على حساب سؤال تشكّل الرأي العامّ

السؤال المركزيّ حسب رأيي، هو كيف يتشكّل الرأي العامّ؟ كيف يفكّر الناس العاديّون في السياسة؟ وكيف تتشكّل تقييماتهم للأحداث السياسيّة وللفاعلين السياسيّين؟ الرأي العامّ لا ينزل من السماء، وإنما يكون نتاج مسارٍ يصنع فيه. فالتونسيّون لم يتحوّلوا إلى كره النخب وكره الأحزاب مثلًا بطريقة تلقائيّة. هناك مسارٌ كاملُ من تشويه الديمقراطية، الذي ساهم فيها الإعلام بشكل كبير، عبر مشاركته في حالة الاستقطاب وفي مشهديّة السياسة وشخصنتها، حين تصبح الناس تقيّم السياسة على أساس الخصال الشخصيّة، وخاصّة ما يعتلّق بالايثوس (Ethos)، على حساب الأفكار والبرامج. لم يساهمْ الإعلام في أن يكون الناخب متمكّنًا من المعرفة حول الحياة السياسيّة، فلم يقمْ بدوره الاستقصائي على سبيل المثال.

الشعبوية تكشف أمراض الديمقراطية ولا تصنعها، والإعلام هو من أبرز أمراض الديمقراطية. فالإعلام لدينا جسدٌ مريض، ويحتاج إلى عملية إصلاح. ولكن المشكل، هو أنّ من يفترض أن يقوم بإصلاحه له مصلحة في أن يبقى مريضا. لا يتعلّق الأمر فقط بالسلطة، وإنما يجب أن نتساءل أيضًا، إذا كان الإصلاح مطلبًا اجتماعيّا، أو حتى مطلبًا مهنيًّا؟

حسب رأيي، عملية الاستفتاء، سواء من صوتوا بنعم أو لا أو قاطعوا، لم تكن بناءً على رأيٍ مستنير. لأنّ الإعلام لم يقمْ بدورٍ إخباري وتوفير المعرفة، مما جعل التونسيين يستقون معلوماتهم عن الحياة السياسيّة من فايسبوك لأنّ الإعلام في جزءٍ كبيرِ منه فقد مصداقيته، ولأنّ الفاعلين السياسيين، وقيس سعيد بشكل خاصّ، عملوا على ترك الإعلام في حالة هشاشة.

الشعبوية تكشف أمراض الديمقراطية ولا تصنعها، والإعلام من أبرزها

نشر هذا المقال في العدد 25من مجلة المفكرة القانونية – تونس. لقراء مقالات العدد اضغطوا على الرابط ادناه

 جمهوريّة الفرد أو اللاجمهوريّة

انشر المقال

متوفر من خلال:

مؤسسات إعلامية ، حرية التعبير ، مقالات ، تونس ، دستور وانتخابات ، مجلة تونس ، إعلام



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني