حرّية التعبير ووظيفتها في زمن الأزمات

،
2022-04-05    |   

حرّية التعبير ووظيفتها في زمن الأزمات

شهدتْ المحاكم الجزائية، ابتداءً من سنة 2018، محاكمة عدد من ناشطي حراك أزمة النفايات في 2015 كانت النيابة العامّة قد ادّعت عليهم بجرائم عدّة، أبرزها القدح والذم بمسؤولين عامّين والمشاركة في تظاهرات الشغب وتخريب أملاك خاصّة أو عامّة. والملفت أنّ مجمل تلك المحاكمات انتهتْ إلى أحكام بإبطال التعقّبات لانتفاء النيّة الجرمية. أوّل الأحكام الصادرة في هذا المضمار صدر عن القاضية المنفردة الجزائية عبير صفا التي اعتبرتْ أنّ المدّعى عليهم إنّما هدفوا من أفعالهم إلى الدفاع عن المصلحة الاجتماعية (وعددها 7 جلّها منشور على موقع “المفكرة القانونية”). وقد خطتْ القاضية ناديا جدايل خطوة إضافية في هذا السياق، بحيث شدّدت على أنّ ما فعله المدّعى عليهم ليس فقط حقاً أو ممارسة لحرّية محميّة قانوناً، بل قبل كلّ شيء ممارسة لواجب وطني، وأنّه يتعيّن على القضاء والأجهزة الأمنية في هذه الحالة أن توفّر لهم الحماية الكاملة لضمان قيامهم فعلياً بهذا الواجب. وأكثر ما يلفت في حكم القاضية جدايل هو قولها إنّ “القاضي يصدر أحكامه ‘باسم الشعب اللبناني’، فالقاضي ليس ملكاً متربّعاً على عرشه، بعيداً عن رعّيته، يقطن برجاً مشيّداً، إنّما هو الناطق بلسان كلّ فرد من المجتمع (يعيش الألم نفسه، يتنشّق رائحة النفايات نفسها، يتحمّل الأعباء والأزمات الاقتصادية نفسها) ليصدر قرارات مستمدّة من سيادة الشعب، كي يكون الشعب حكماً”.

من شأن تلك الأحكام أن توسّع هامش حرّية التعبير في انتقاد فساد السلطة الحاكمة والدفاع عن المجتمع. هنا، نكتفي بنشر تعليقنا على أكثر تلك الأحكام تعبيراً (المحرر). 

الدفاع عن المجتمع لا يحتمل العقاب

في 30/11/2018، أصدرت القاضية المنفردة الجزائية في بيروت عبير صفا حكميْن[1] لافتيْن في قضيتين من قضايا الحراك الشعبي الحاصل في صيف 2015. وقد تميّز الحكمان بإبطال التعقّبات بحق ناشطيْن في هذا الحراك بشأن ما كان نسب إليهما من تحقير وقدح وذمّ بحق الحكومة بكامل وزرائها. وكان الادّعاء استند في القضية الأولى على قيام الناشطيْن برفع صورتيْن تضمّان جميع وزراء لبنان كتب عليها “زبالة لبنان”، فيما استند في القضية الثانية على قيام الناشطيْن برمي كرات بينغ بونغ صغيرة الحجم، برتقالية اللون، مدوّن عليها بخط اليد عبارات “حرامي، وزير حرامي، زبالة لبنان، 24 فاسد، فاسدين، فاسد.”…

وكانت القاضية صفا أصدرت، خلال السنة نفسها، حكميْن[2] آخرين ذهبا في الاتّجاه نفسه: الأوّل، صدر بتاريخ 3/4/2018 بكفّ التعقّبات بحقّ أحد ناشطي الحراك على خلفية العبارات القاسية التي وجّهها إلى رئيس الوزراء آنذاك تمّام سلام، اعتراضاً على أزمة النفايات التي كانت سائدة في صيف 2015، والتي جاء فيها: “يا تمّام يا زبالة”. والثاني، صدر بتاريخ 31/10/2018، بكفّ التعقّبات بحقّ خمسة نشطاء كانوا دوّنوا الشعارات الآتية عن طريق الرشّ على بلوكّات الباطون في منطقة الروشة في أوائل 2016، وذلك اعتراضاً على الضرائب التي كانت تعمل الحكومة على فرضها. وقد تضمّنت الشعارات الآتي: “لا لزيادة الضرائب- ما رح ندفع – إيدكم عن جيبتنا – إنتو بتسرقوا ونحنا مندفع“.[3]

للوصول إلى هذه النتيجة، اعتمدت القاضية صفا تعليلاً متشابهاً في مجمل قراراتها. فبعدما سلّمت في القضايا الأربع أنّ العبارات المستخدمة هي عبارات قاسية “جاءت بشكل صريح ومباشر خارج أدبيات التخاطب وحدود اللياقة في إبداء الرأي، والمفروض التحلّي بها تجاه أي شخص”، وأّنها تنمّ عن “تجاوز في التعبير يشكّل في ظاهره مساساً بالكرامة” وأنّها “تشكّل العنصر المادي لجرائم التحقير والقدح والذم”، عادت واعتبرت أنّها لا تشكّل جرماً، لغياب العنصر المعنوي (النيّة الجرمية). ومن أهمّ المبرّرات التي تكرّر ذكرها في متن تلك الأحكام التي بنيتْ عليها النتيجة التي وصلت إليها المحكمة، الآتية:

  • أنّ التعبير عن الرأي والذي حصل بأشكال مختلفة (لافتات، رشّ على الحيطان، أشكال مبتكرة كرمي كرات بينغ البونغ) تمّ بطريقة سلمية، من دون أن يتخلّله أيّ عنف أو أذى لأحد. وقد بدا واضحاً اتّجاه القاضية صفا في اشتراط الطابع السلمي لإقرار حرّية التعبير لناشطي الحراك، وذلك من خلال التأكيد على أنّ كرات البينغ البونغ التي تم رميها كانت خفيفة الوزن غير مؤذية،
  • أنّ العبارات موضوع المحاكمة اتّصلت بمصلحة اجتماعية، بحيث اتّصلت في ثلاث قضايا بأزمة النفايات (بما يتّصل بناشطي حراك صيف 2015) واتّصلت في القضية الرابعة بالأزمة الاقتصادية المعيشية التي يمرّ بها لبنان (بما يتّصل بالاحتجاجات ضد الضرائب). وعليه، أكّدت الأحكام الأربعة بأنّ الظروف المحيطة آنذاك لم تقتصر على المدّعى عليهم وحدهم، إنّما طالت “جميع المناطق اللبنانية” ومسّت “بالمواطنين أجمعين”، وذلك تدليلاً على الطابع الاجتماعي للمشكلة. وهذا الأمر نجده في الأحكام المتّصلة بالاحتجاجات ضدّ أزمة النفايات (حيث تمّت الإشارة بشكل خاص إلى الخطر البيئي والصحّي الذي يعاني منه جميع المواطنين والمناطق)، والأحكام المتّصلة بالاحتجاجات ضدّ زيادة الضرائب (حيث تمّت الإشارة إلى معاناة الشعب اللبناني في مختلف المناطق اللبنانية الاقتصادية والاجتماعية منها)،
  • أنّ الاتهامات الموجّهة إلى الحكومة بالتسبّب بالأزمات الاقتصادية والبيئية، “لا تخفى على أحد”، بمعنى أنّها في عمومها، ورغم قسوتها، تصف سياقاً صحيحاً للسياسات العامّة والأضرار المتأتّية عنها. ويلحظ هنا أنّ القاضية ذكرت عبارة “لا تخفى على أحد” مرّة على الأقلّ في كلّ من الأحكام المذكورة، بما يؤكّد على طابعها البدهي الذي لا جدل فيه.
  • أنّ القصد الوحيد من العبارات المستخدمة هو الدفاع عن المصلحة العامّة المعنيّة، من خلال التعبير عن الاستياء العام إزاء الأزمات الحاصلة وتفاقمها، وحثّ المسؤولين على إيجاد حلول. وقد عزّزت القاضية صفا تحليلها هذا من خلال التأكيد على صفة المدّعى عليهم (وهم ناشطون اجتماعياً ومنهم محامون وصحافية يدخل ضمن اهتمامهم اليومي العام نقل الواقع والاستياء العام والتعبير عنه) والطابع العفوي للعبارات المستخدمة والتي جاءت وليدة واقع الحال السائد في البلد، وأيضاً عمومية الاتّهام الذي ينفي أي قصد بازدراء شخص بعينه أو النيل من شرفه أو كرامته. ويلحظ أنّ القاضية صفا تمسّكت باعتبار الاتّهام عمومياً، ليس فقط في الحالات التي اتّهم فيها جميع الوزراء بالسرقة أو الفساد، إنّما أيضاً حين وجّهت سهام الاتّهام إلى رئيس مجلس الوزراء بمفرده. ففي هذه الحالة أيضاً، وبالنظر إلى الظروف المحيطة، اعتبرت المحكمة أنّ دافع المدّعى عليهم هو الدفاع عن المصلحة العامّة، من دون أي قصد بالإساءة إلى شخص بعينه أو النيل من كرامته.

ويستوجب التدقيق في هذه الأحكام الملاحظات الآتية:

1- أنّها اعتبرت أنّ ورود عبارات من شأنها المسّ ظاهرياً بالشرف أو السمعة لا يكفي بحدّ ذاته لإدانة المدّعى عليهم بارتكاب جرائم الذم والقدح والتحقير. فهذه العبارات توفّر العنصر المادي للجرم، لكن لا تكتمل عناصر الجرم إلّا إذا تمّ علاوة على ذلك إثبات عنصره المعنوي، أي النيّة بالإساءة إلى شخص بذاته أو مؤسّسة بذاتها. وبكلام آخر، ميّزت الأحكام بشكل ملفت بين النيّة بالذمّ أو القدح أو التحقير (التي هي تتوفّر فور إثبات استخدام عبارات تمسّ بالشرف والسمعة) والنيّة بالإساءة التي هي تفترض قبل كلّ شيء التحرّي عن حقيقة المقاصد والنوايا من هذه العبارات. فهل الهدف الأساسي منها الإساءة إلى الأشخاص موضوع المذمّة، أم الدفاع عن مصلحة عامّة من دون تجاوز، وإن ترتّب عليها تبعياً مذمّة بأشخاص معيّنين؟ في الحالة الأولى، يكون الجرم ثابتاً. أمّا في الحالة الثانية، فتُغلّب المصلحة المتمثّلة في ضمان حرّية التعبير على المصلحة المأمولة من منعها، وينتفي الجرم. ومن هذه الزاوية، تضع هذه الأحكام حدّاً لمعاقبة العبارات التي تمسّ بالشرف أو التي تخرج عن إطار اللياقة والأدب، بمعزل عن مقاصدها، والأهمّ تشكّل ضمانة للنشطاء الاجتماعيين للدفاع عن الصالح العام من دون أن يتعرّضوا للملاحقة،

2- أنّ هذه الأحكام بيّنت بشكل تفصيلي الشروط التي تؤدي إلى إخراج العبارات التي تمسّ ظاهراً بكرامة الحكومة أو وزرائها، من خانة غير المباح لجعلها مباحة. وقد تلخّصت هذه الشروط كما تقدّم بيانه بأربعة، هي الآتية: (1) أن تكون العبارات قد تمّ استخدامها بطريقة سلمية من دون تجاوز، (2) أن تكون العبارات متّصلة بمصلحة عامّة، (3) أن تكون مبنيّة على معطيات معروفة أو صحيحة ولو في عموميّتها أو جاءت لتعكس سياقاً صحيحاً للسياسات العامّة وانعكاساتها، (4) أن يكون القصد منها الدفاع عن المصلحة العامّة من دون أيّ استهداف شخصي. ويعدّ هذا الشرط الأخير متوفّراً ليس فقط في حال تناول الاتّهام عموم الطبقة السياسية أو الوزراء أو النوّاب، إنّما حتى في الحالات التي يتناول شخصاً معيّناً طالما أنّه يتناول منصبه ومسؤولياته من دون أيّ نيّة بالإساءة إلى الشخص بذاته. ومن هذه الزاوية، أرست هذه الأحكام اجتهاداً مفصّلاً يؤمل أن يُبنى عليه في مختلف أعمال القضاء المتّصلة بحرّية التعبير،

3- أخيراً، تمثّل هذه الأحكام تحوّلاً هامّاً في المنظومة القانونية. ففيما تتّجه هذه المنظومة نحو إعلاء شأن كرامة الزعماء والطبقة السياسية على حرّية التعبير، تعود تلك الأحكام لتنتصر من خلال توسيع إطار هذه الحرّية، لحقوق المواطنين في إبراز همومهم وأزْماتهم بل في إشهارها في مواجهة سلطة الحاكم.

المواطن والقاضي ودورهما في حماية المجتمع: القاضي أيضاً يتنشّق رائحة النفايات

صدر في 30/11/2020 الحكم[4] في قضية تظاهرة “لو غراي” خلال حراك صيف 2015. فقد قرّرت القاضية المنفردة الجزائية في بيروت ناديا جدايل إبطال التعقّبات بحق جميع المدعى عليهم في هذه القضية بتهم الشغب والتخريب لعدم توفّر النية الجرميّة لديهم. فردّت لهم الاعتبار بعد أن تم توقيفهم خلال التظاهرة واحتجازهم لأيام وقدّمت اجتهاداً هامّاً لحماية حرّية التظاهر. وقد تميّز هذا الحكم بأنّه تضمّن أبعاداً تتجاوز بكثير حدود الاتهامات[5] المدّعى بها أمام المحكمة، وتأثّر مضمونه والعبارات الواردة فيه بشكل كبير ليس فقط بحراك 2015 بل أيضاً بانتفاضة 17 تشرين 2019 وما أعقبها من تفاعلات وارتدادات في مختلف جوانب الحياة العامّة اللبنانية وضمناً المحاكم. فقد كان لهذا الحكم دور رائد في تكريس دور حرّية التظاهر في محاسبة السلطة السياسية ودور القاضي في حمايتها انطلاقاً من علاقته العضوية بالمجتمع الذي يحكم باسمه.

وهذا ما نقرأه بوضوح في مستهلّ تعليل الحكم حيث جاء حرفياً: “أنّ القاضي يصدر أحكامه “باسم الشعب اللبناني”، فالقاضي ليس ملكاً متربّعاً على عرشه، بعيداً عن رعّيته، يقطن برجاً مشيّداً، إنّما هو الناطق بلسان كل فرد من المجتمع (يعيش الألم نفسه، يتنشّق رائحة النفايات نفسها، يتحمّل الأعباء والأزمات الاقتصادية نفسها) ليصدر قرارات مستمدّة من سيادة الشعب، كي يكون الشعب حكماً”، هذا الشعب الذي يعيش أزمات.. حرمت المواطنين من أدنى مقوّمات الحياة وبخاصّة في مجالَيْ الصّحة والبيئة”.

وقد بدَتْ القاضية وكأنها استفادتْ من نظرها في قضية تتفرّع عن الصّراع القائم بين القوى الاجتماعية والسلطة الحاكمة لإبداء آراء بالغة الأهمية حول مكانة القضاء في هذا الصّراع ودوره فيه. وفيما هدفت هذه الآراء إلى قلب عدد من الصور النمطية في هذا المضمار، فقد صحّ اعتبارها رسالة موجّهة إلى ثلاث علب بريد: رسالة إلى الجسم القضائي عبّرت فيها القاضية عن تصورها للوظيفة القضائية وضمنا للقاضي الصالح ودوره في الظروف الاجتماعية الحاضرة، ورسالة إلى المتقاضين ومن خلالهم الرأي العام هدفت لاستعادة ثقتهم بالقضاء أو على الأقل لثنيهم عن التعميم في مقاربة القضاة فضلا عن حثّهم لمزيد من الاحتجاج دفاعا عن المجتمع تحت حماية القضاء، وأخيرا رسالة إلى النظام الحاكم الذي تحوّل إلى المتّهم الحقيقي في هذه القضية. وقد هدفت هذه الرسالة الأخيرة ليس فقط إلى وضع حدود واضحة في العلاقة مع هذا النظام، بل أيضا إلى إدانته بشكل واضح وصريح بالخروج عن صميم واجبه في ضمان الحقوق الأساسية للمواطنين.

وقبل المضيّ في التعليق على هذه الرسالة، يقتضي التذكير بأنّ هذا الحكم صدر في غضون أقلّ من أسبوع من تصريح وزير الداخلية محمد فهمي بأنّ 95% من القضاة فاسدون، والأهمّ من انسحاب[6] الشركة المكلّفة بالتدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان لاصطدامها بالسرّية المصرفية التي رفض[7] النوّاب تمكين القضاء من رفعها بحجّة عدم ثقتهم فيه. وعليه، صدر الحكم في فترة زادت فيه السلطة السياسية تحاملها على القضاء، في موازاة عملها الدؤوب لإسقاط أيّ إمكانية للمحاسبة.

ويزيد فهمنا لأهمية هذه الرسالة عند التدقيق في المقتطفات التي اقتطعتها القاضية من مرافعات المحامين (وجلّهم من أعضاء لجنة المحامين للدفاع عن المتظاهرين) في هذه القضية. فهي نقلت عن المحامي شريف سليمان طلبه ليس فقط بإعلان براءة المتظاهرين بل بإصدار حكم يشكّل درعاً للناس في مواجهة المنظومة الفاسدة التي تحكم هذا الوطن. كما نقلت عن المحامي مازن حطيط تذكيره بأنّ أوّل أولويات الثورة المطالبة باستقلال القضاء لتوفير الحرّيات العامّة. كما نقلت عن المحامية غيدة فرنجية طلبها أن يكون الحكم رسالة لمكافحة عشوائية التوقيفات. وبذلك، جاء الحكم في ما تضمّنه متناغماً مع هذه الانتظارات.

واجب “القاضي الصالح”

تمثّلت إحدى أهم الرسائل التي تضمّنها الحكم، كما سبق بيانه، في إعلان القاضية تصوّرها للوظيفة القضائية. وقد بدَتْ هذه الرسالة موجّهة بالدرجة الأولى إلى القضاة المدعوين إلى التفكير في هذا التصوّر والعمل بناء عليه. فبلغة غير معهودة، نسفَتْ القاضية تصوّرين نمطيّين: تصوّر تقليدي يحصر دور القاضي في تطبيق القانون كما تضعه السلطة السياسية من دون أن يكترث بظروف المتقاضين أو المجتمع أو مفاعيل أحكامه عليهم. وهذا التصوّر مبني على فهم تقليديّ لمبدأ فصل السلطات يقوم على أنّ البرلمان يمثّل الإرادة العامّة ويمارس تالياً الخيارات الاجتماعية والسياسية، فيما ينحصر دور القاضي في تطبيق القواعد التي يضعها (القوانين) على الظروف الخاصّة لكلّ قضية، من دون أن يكون له إمكانية إبداء أيّ اعتراض على خياراته في هذا المجال. وهذا ما عبّرت عنه أحكام قضائية عدّة اعتبرت أنّ القاضي ملزم بتطبيق القانون بمعزل عن رأيه فيه وعمّا قد يتضمّنه من مظالم، طالما أنّ تعديله يتمّ عند الاقتضاء في البرلمان وليس في حلبة القضاء. وبفعل هذا التصوّر، غالباً ما بدا القاضي منسلخاً عن مجتمعه وعن همومه وبمثابة شاهد زور على مظالم القانون، وهو الأمر الذي روّج للصورة الكاريكاتورية التي غالباً ما تعتبره من قاطني الأبراج العالية.

أما التصوّر النمطي الثاني، الذي سعت هذه الفقرة أيضاً إلى نسفه هو ما يعبّر عنه ناشطون كثيرون في أكثر من مناسبة ومؤدّاه أنّ القضاة هم جزء من النظام السياسي ومجرّد أداة له، يصحّ عليهم ما يصح عليه وفق مقولة “كلّن يعني كلّن”.

وعليه، وعلى نقيض هذين التصوّرين النمطيين، أعلنت القاضية من خلال حكمها تصوّراً جديداً للقاضي قوامه أنّه من الشعب وليس من السلطة الحاكمة. فتماماً كما عانى مثلهم من أزمة النفايات، ها هو يعاني مثلهم من الأعباء والأزمات الاقتصادية نفسها. وعليه، حين ينطق باسم الشعب، فإنّه لا يحصر عمله في تطبيق حرفية القوانين وفق إرادة البرلمان بل يتولّى تفسيرها وتطويرها على نحو يجعلها أكثر انسجاماً مع حاجات المجتمع ومتطلّباته، على أمل أن تخفّف هذه الأحكام من وطأة هذه الهموم والأوجاع. ومن الملفت هنا أنّ القاضية لم تكتفِ بإعلان ولاء القضاء للشّعب بكليّته، إنّما اعتبرت أنّها تصدر حكمها باسم كلّ فرد من أفراد المجتمع. ويفهم من ذلك التزام منها بالتنبّه لجميع هواجس الأفراد ومخاوفهم سواء في تحديد القواعد العامّة واجبة التطبيق أو في تطبيقها عملاً بمبدأ المساواة أمام القضاء، كلّ ذلك بمنأى عن أيّ توجه فئويّ أو تغليب كفّة أيّ فئة أو غالبية أو تهميش أيّ كان. ونفهم من ذلك أنّ أحكامها تنبثق وتُبنى على تفهّمها العميق لهُموم النّاس كلّ النّاس، وعلى نحو يعكس إرادتهم ومصالحهم الحقيقية من دون مفاضلة أو تمييز ويحيد عن تصوّر القاضي كخادم للقانون بمعزل عن ظروف المجتمع. فإذا أتمّت القاضية قراءتها هذه، خلصت إلى القول إنّها تستمدّ أحكامها من “سيادة الشعب كي يكون الشعب حكماً”. ومؤدّى ذلك هو استبدال ولاء القاضي التقليدي للقانون وتالياً لمن يضعه بولائه للمجتمع الذي يصدر أحكامه باسمه.

ومن أبرز نتائج هذا التصوّر، هو ما فعلته القاضية بلجوئها إلى استخدام كلّ ما تتيحه لها الترسانة القانونية وقواعد تأويل القوانين لتوسيع الحيّز الضيّق للحرّيات كما حدّده قانون العقوبات، بما فيها تغليب الحقوق الأساسية المكرّسة دولياً أو ما يصطلح على تسميته حقوقاً طبيعية ملازمة للإنسان على الأحكام الواردة في القوانين الوضعية. ومن أبرز الوسائل المستمدّة من هذه الترسانة التوسّع بمفهوم “الحق المشروع” (وهو في هذه الحالة التظاهر احتجاجاً على عدم خضوع النظام للمحاسبة) والذي يشكّل سبباً تبريرياً للجرم المدّعى به وفق المادة 183 من قانون العقوبات، وهي مادة تستخدم للمرّة الثالثة لتغليب الحقوق الأساسية أو الطبيعية على نصوص القانون الوضعي، بعدما استخدمت سابقاً لتكريس حقوق اللاجئين[8] وحقوق المثليين[9]. ومن الوسائل الأخرى، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية اللذين اكتسبا قوّة دستورية لم تتوانَ القاضية جدايل عن التذكير بها في اتّجاه تغليب الحقوق الواردة فيهما على القانون الوضعي الذي تتفرّد السلطة السياسية في وضع نصوصه وتعديلها. وهي بذلك بدتْ وكأنّها تستكمل أعمالاً أخرى كانت باشرت فيها وبخاصّة في قضايا المطبوعات[10]، حيث أكّدت في محلّات عدّة غلبة حرّية التعبير على ما يدّعيه كبار المسؤولين (ومنهم رئيس الجمهورية)[11] من حقوق في الكرامة.

ومن البيّن أنّ القاضية رمَتْ من خلال إعلان تصوّرها ليس فقط إلى ترميم الثقة المتصدّعة للناس في القضاء، بل قبل كلّ شيء إلى دعوة القضاة لإعادة التفكير في فهمهم لوظيفتهم على ضوء تفاقم الأزمات والتي باتت تحرم المواطنين من أدنى مقوّمات الحياة. وتكتسي هذه الدعوة أهمية فائقة في ظلّ التجاذبات الحاصلة داخل القضاء بين تيّار استقلالي يعلن ولاءه للشعب ويحتكم إليه (والذي يصحّ إدراج نادي قضاة لبنان ضمنه من دون حجب الكثير من القضاة الإصلاحيين من خارج النادي) واستمرار التبعية لدى عدد كبير من القضاة وبخاصّة من ذوي المناصب العليا. وفيما ذكّرت القاضية جدايل في الحكم بما تراه واجباً على كلّ مواطن صالح القيام به في الظروف الحاضرة دفاعاً عن مجتمعه، فإنّها بدتْ من خلال إعلان تصوّرها وكأنّها تحدّد ما تراه واجباً على كلّ قاضٍ صالح حماية لهذا المجتمع.

واجب “المواطن الصالح” أو الحق في الثورة

فضلاً عمّا تقدم، نلحظ أنّ القاضية تجاوزت في حكمها حيّز النظر في الاتّهامات الموجّهة للمتظاهرين بممارسة الشغب والتخريب لتنتهي إلى إدانة النظام الحاكم بالتسبب بحرمان الشعب “من أدنى مقوّمات الحياة وبخاصّة في مجالي الصحة والبيئة”. وهذا ما نستشفّه من الفقرة التي أوردناها في المقدّمة بعد استبدال عبارة “الأزمات” بالنظام الذي تسبّب بها. وهذا ما نقرأه أيضاً في مكان آخر وصفَتْ فيه القاضية التظاهرات الحاصلة بأنّها تظاهرات للمطالبة بأبسط الحقوق الأساسية المنتهكة وهي الحق في الصحّة وكرامة العيش. ومن هذا المنطلق، بدتْ القاضية وكأنّها تؤكد توفّر وضعيات يستشفّ منها انتهاك الحاكم للعقد الجماعي وتمرّداً عليه (أو دستور الدولة) في استعادة للمفردات المستخدمة من فلاسفة الأنوار وفي مقدّمتهم روسو ولوك، وهي وضعيّات يترتّب فيها على المواطنين وفق هؤلاء واجب المبادرة للإطاحة بالحاكم أملاً في إعادة العمل بالدستور أو ما يصطلح على تسميته الحق في الثورة.

وفي هذا الاتّجاه، لم تكتفِ القاضية بإبطال الملاحقات ضد المتظاهرين، بل ذهبتْ إلى حدّ إعلان “الحقّ في المشاركة ضمن تجمّعات شعبية لإبداء الرأي بصورة جماعية من أداء السلطة السياسية (و) هو حق مشروع” بل “واجباً على كلّ مواطن صالح يسعى إلى وجوب تكريس مبدأ محاسبة المسؤولين عن أعمالهم في الدول الديمقراطية”. والملفت في هذا المضمار أنّ القاضية استمدّت من تنوّع خلفيات المتظاهرين الخمسة عشر المدعّى عليهم الطائفية والمهنية والمناطقية أمامها ما يُثبت توفّر ظروف موجبة للدفاع عن المجتمع في مواجهة سلطة أمعنت في تقويض حقوقه في الحياة وفي الآن نفسه دوافعهم النبيلة الخالية من أي نوايا جرمية أو حتى أي أهداف خاصّة أو فئوية.

وهذا ما نقرأه في فقرة جاء حرفيا فيها: “هم شاركوا بالتظاهرة بصورة عفوية وطوعية من كلّ الطوائف ومختلف المناطق، ساحة واحدة وتوقيت واحد جمعا مصوّر الأشعة مع طالبة الحقوق، والمهندس مع القاصر مكتوم القيد، وموزّع الإنترنت مع العاطل عن العمل، والناشطة الاجتماعية مع عامل الفرن؛ عامل مشترك وحيد أنّهم نموذج مصغّر عن المجتمع اللبناني بمختلف أنماطه، اجتمعوا قرب ساحة النجمة حيث مجلس النوّاب للمطالبة بحقوق أساسية بسيطة… وهي الحق في الصحّة وكرامة العيش”. وانطلاقاً من ذلك، ذهبت القاضية إلى تقريظ كلّ من أعاق حرّية المتظاهرين أو ادّعى عليهم (ومن ضمنهم النيابات العامّة وقضاء التحقيق العسكري) على خلفية أنّ من واجب الهيئات القضائية كما الأجهزة الأمنية حماية حرّيات المتظاهرين والتعامل معهم “لا كدولة بوليسية بل بصورة حضارية، كدولة قانون”.

وبذلك، بدا الحكم ليس فقط بمثابة انتصار لمشروعية الثورة ومشروعية مطالبها، بل أيضاً بمثابة التزام قضائي في تأمين درع حمائيّ لها، بما يتلاقى مع مرافعات المحامين التي أشرنا إليها أعلاه، أملاً في إعادة بناء “دولة القانون”.


[1] نزار صاغية، 4 قرارات للقاضية صفا بكفّ التعقّبات بحق ناشطي الحراك اللبناني: الدفاع عن المجتمع يبرّر المسّ الظاهر بكرامة الحكومة ووزرائها، المفكرة القانونية،      11/12/2018.
[2] نزار صاغية، أبرز الأحكام القضائية في لبنان – 2018: نقابيو سبينس يحققون انتصاراً ثميناً، المفكرة القانونية،      30/5/2019.
[3] وفي 30/12/2019، عادتْ القاضية عبير صفا وأصدرتْ حكماً قضى بإبطال التعقّبات لعدم توفّر النّيّة الجرميّة بحق 15 ناشطاً على خلفية دخولهم إلى وزارة البيئة في بداية 2016. واعتبرتْ أنّ تحرّكهم كان سلميّاً بهدف حماية المصلحة العامّة. القاضية صفا اعتبرتْ في حكمها أنّ هدف المدّعى عليهم الخمسة عشر هو “نقل همومهم وعلى صعيد الجماعة وليس الفرد فقط، أي على صعيد المصلحة الوطنيّة” منطلقين من أزمة النفايات التي لم تكن “خافية على أحد”. وأضافت أنّ العناصر الجرميّة غير متوفّرة بخاصّة لكون التحرّك سلميّاً وعفويّاً لا يرافقه أيّ خرق للقانون، بل كان الهدف منه “ممارسة لحقّ مطلبيّ يحاكي المصلحة الوطنيّة العامّة متصفّاً بالطابع العفويّ والسلميّ لمسألة حياتيّة يوميّة”. وكانت الدعوى ضدهم قد بوشرت على خلفية دخولهم إلى وزارة البيئة في بداية عام 2016 لمقابلة وزير البيئة آنذاك محمّد المشنوق وإبلاغه بشكاوى متعلّقة بأزمة النفايات والتلوّث البيئيّ. ونتيجة عدم استقبالهم من قبل هذا الأخير، افترشوا أرض الوزارة ورفضوا الأوامر بمغادرة المكان، مما أدى إلى توقيفهم واقتيادهم إلى مقر ثكنة الحلو/ حيث ادّعت عليهم من بعدها النيابة العامّة بالمواد 236 و347 من قانون العقوبات.
وبتاريخ 31/1/2020، أصدرت القاضية صفا حكماً آخر بإبطال التعقّبات لعدم توفّر النّيّة الجرميّة بحق 5 ناشطين على خلفيّة رمي أكياس من النفايات قرب السرايا الحكومي. فقد اعتبرت القاضية صفا أنّ الأفعال المدعى بها وإن كانت تخرج عن أدبيات التصرف وحسنه وتخرق حدود اللياقة، فإنها بالمقابل لا تعدو “مجرّد تعبير عن حريّة الرأي التي صانها الدستور اللبنانيّ في المادّة 13 منه”. وعليه، يتابع الحكم أنّ الفعل هو ممارسة لتلك الحريّة “عبر وسيلة سلمية احتجاجيّة، تطال مسألة أزمة النفايات التي كانت سائدة في البلد حينها، والتي عانى من تبعاتها المجتمع اللبنانيّ ككلّ” مؤكّدة أنّ هذه الأزمة لم تكن خافية على أحد وكانت تتفاقم في ذلك الحين دون أن يوجد لها أيّ حلّ.
[4] المفكرة القانونية، القاضية جدايل تبرئ متظاهري “لو غراي” في 2015: التظاهر واجب للمواطن الصالح وعلى القاضي والأجهزة الأمنية حمايته،      30/11/2020.
[5] نزار صاغية، محاكمة المتظاهرين تتحوّل إلى محاكمة للنظام: “القاضي يتنشّق رائحة النفايات نفسها”، المفكرة القانونية،      7/12/2020.
[6] نزار صاغية، سقوط التدقيق الجنائي: السرية خاتم سحري للإفلات من العقاب، المفكرة القانونية،      27/11/2020.
[7] المرصد البرلماني- لبنان، كامل نتائج الجلسة التشريعية أيار 2020: محاصصة العفو العام تطيّر الجلسة بعد مناقشة 11 من أصل 37 مقترحاً “مظلومية” النوّاب وخوفهم من كيدية القضاء غير المستقل تصون سرّيتهم المصرفية، المفكرة القانونية،      30/5/2020.
[8] غيدة فرنجية، حكم قضائي يقلب “الأفكار المسبقة” في قضية لاجئ سوري: “ممارسة حق اللجوء من دون تجاوز ليس جرما”، المفكرة القانونية،      2/8/2012.
[9] كريم نمّور، أبعد من المثلية: أي قاضٍ نريد؟، المفكرة القانونية،       16/5/2017.
[10] نزار صاغية، تحولات إيجابية في اجتهاد محكمة المطبوعات في بيروت (1): من واجبنا تعزيز دور الإعلام في الكشف عن الفساد، المفكرة القانونية،      20/5/2020.
[11] نزار صاغية، تحولات إيجابية في اجتهاد محكمة المطبوعات في بيروت (2): مبادئ الديمقراطية أبدى من رمزية رئاسة الجمهورية، المفكرة القانونية،      22/6/2020.
انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، حرية التعبير ، مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني