حرب إسرائيلية على المسعفين أيضاً: عن شهداء الهبارية الذين سقطوا في مركز “آمن”


2024-03-29    |   

حرب إسرائيلية على المسعفين أيضاً: عن شهداء الهبارية الذين سقطوا في مركز “آمن”
من نقطة الهبارية الإسعافية بعد استهدافها (صفحة جهاز الطوارئ والإغاثة على فيسبوك)

تبحث منتهى عطوي والدة فاروق عطوي في هاتفها عن الصورة الأجمل له: “كلّ صوره جميلة ولكنّ الفراق يجعل المهمّة صعبة”. كيف يمكن لصورة أن تختصر ابنها “الوسيم الحنون النشيط”. ثمّ أنّ مجموعة صوره لم تكتمل بعد، فكان من المفترض أن تضمّ صورته عريسا وهي التي “خطبت له قبل 15 يوما من استشهاده”. والمجموعة تنقص صورة كان يُفترض أن يرسلها لها من بلاد الاغتراب حيث كانت تسعى له بعمل كمهندس مساحة. رفض فاروق الهجرة مردّدا “إذا نحن الشباب ما تطوّعنا في قرانا وفي بلدنا مين بيتطوّع”.

فاروق عطوي، ابن الـ 23 عاماً، هو واحد من سبعة مسعفين استشهدوا مساء الأربعاء الماضي بعدما استهدفت غارة إسرائيليّة مركزا إسعاف  في بلدة الهباريّة، ودمّرته بالكامل. هو كما حسين الشعار وأحمد الشعار وعبدالرحمن الشعّار ومحمد محمود وعبدالله عطوي وبراء أبو قيس، خرج من المنزل على عجل لملاقاة زملائه يوم الأربعاء الماضي ولم يعد، وكلّ ذنبه وذنبهم “أنّهم كانوا محبّين للقرية وناسها، ولفعل الخير، مصرّين على الصمود في قراهم، الأمر الذي لم يتحمّله العدو” كما يُردّد من تواصلنا معهم من أهل القرية.

بالإضافة إلى المسعفين السبعة استشهد ثلاثة مسعفين آخرين ليل الخميس الماضي بغارة استهدفت مقهى في الناقورة كانوا تجمّعوا قربه للانطلاق في مهمة إسعافية نحو بلدة طيرحرفا بعد تعرّضها لغارة إسرائيليّة، وهم المسعف كامل فيصل شحادة و حسين أحمد جهير وحسن حسين حسن، ليرتفع عدد الشهداء المسعفين اللبنانيين منذ السابع من تشرين الأول، أكتوبر، إلى 17 مسعفا.

واستنكارا للاعتداءات الإسرائيليّة على المسعفين جاب موكب سيّار مؤلفٌ من عدد من آليات جمعية الإسعاف اللبنانية والدفاع المدني وفوج الإطفاء شوارع العاصمة بيروت عشية استهداف مركز الهبارية، رفضا لاستهداف المدنيين عامة، والمُسعفين خاصة، بالاعتداءات الإسرائيلية المستمرة على جنوب لبنان منذ 7 أكتوبر تزامنا مع حرب الإبادة على قطاع غزة.

ودانت وزارة الصحّة اللبنانية هذه الاعتداءات التي “تخالف القوانين والأعراف الدولية لا سيما اتفاقية جنيف التي تشدد على ضرورة تحييد المراكز الصحية والعاملين الصحيين الذين يقومون بعمل طبي وإنساني لا يمكن عرقلته أو جعله موضع استهداف في هذه الظروف القاسية”، وفق ما أكدت الوزارة.

 قرى العرقوب تودّع أبناء الهبّارية

لم يكن من السهل على أهالي بلدة الهبّارية، وهي إحدى قرى العرقوب في قضاء حاصبيا، تُطّل على مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وجبل الشيخ، أن يخسروا  في يوم واحد 7 شبّان أكبرهم لا يتجاوز 25 عاما. شبّان بقيوا في هذه المنطقة التي لم تسلم من الاعتداءات الإسرائيليّة منذ السابع من أكتوبر، بقيوا مسعفين متطوعين في خدمة أهالي القرية والقرى المجاورة، ينقلون المرضى والجرحى ويعتنون بالمسنين فيها، فأصرّوا على توديعهم بالزغاريد ونثر الأرز والورود ملفوفين بالعلم اللبناني وعلم مركز جهاز الطوارئ والإغاثة حيث استشهدوا.

حُمل الشهداء السبعة على أكتاف زملائهم من مسعفين ومتطوعين، وشُيّعوا في مأتم حاشد حضره أهالي القرية وأهال من قرى العرقوب ومن مناطق جنوبيّة عدّة، فضلا عن مسعفين حضروا من مناطق عدّة، جميعهم أتوا لتوديع الشباّن في موكب جماعي انطلق من مسجد البلدة إلى مثواهم الأخير. 

ستفتقدهم الهبّارية والقرى المجاورة هذا ما يكرّره بعض من تواصلنا معهم. ويحدّث أحد شبّان الهبّارية عن المسعفين السبعة فيقول “هنّا في الهباريّة قلوبنا على بعض، العدو لم يتحمّل شبّانا صامدين في قراهم مصرّين على الحياة، على خدمة أبناء المنطقة في وقت الحرب، شو بدي خبرك كلّن متل بعض، كسرولنا قلوبنا، قصفتهم إسرائيل في مركز صحي كان يفترض أن يكونوا آمنين داخله”. ويحكي شاب آخر عن “الضحكة التي لا تفارق وجوههم، معروفون هنا في الهبّارية، في الأزمات والأفراح، كلّنا نعرفهم، هم من خيرة الشبّان”.

الضحكة المرسومة على وجوه هؤلاء الشبان السبعة أيضا كانت ضحكة يسعون إلى رسمها على وجوه أهل القرية، عبر مشاركتهم في معظم الأنشطة كمتطوعين، وليس فقط الإسعافيّة منها. وفي هذا الإطار نعتهم  جمعية “كلاون مي إن”  على صفحتها على “أنستغرام” متحدثة كيف كانوا يتطوعون معها بكل حب لتنسيق أنشطتها في منطقتهم، وعن طيبتهم وشجاعتهم ومحبتهم لأرضهم. ويذكر أحد أعضاء الجمعية في حديث مع “المفكرة” كيف كان هؤلاء الشبّان متحمسين في اخر نشاط في قريتهم، كيف اهتموا بالتفاصيل، وكيف استقبلوا فريق الجمعية وكيف حرصوا على كلّ تفصيل يُسعد أهل القرية.

المسعفون السبعة شهداء الهبارية

سبعة أقمار كلّهم أولادنا

صورة هؤلاء كما يرسمها أهل القرية مِن مَن تواصلنا معهم تبدو أكثر وضوحا عندما تتحدّث أمّهاتهم وآباؤهم عنهم. يتحدثون عن “حماسة لمساعدة الآخرين” عن “حب للقرية وناسها” عن مستقبل كان ينتظر أبناءهم وعن عدوّ لم يتحمّل “شبانا تطوّعوا من أجل الخير”.

تتحدّث رندة جمعة، والدة براء أبو قيس (25 عاما)، عن صوت ابنها الجميل وهو يُنشد في المنزل وبين أصحابه. تتكلّم عن حبّه لفعل الخير وعن حماسته فتصفه بـ “المقدام الشجاع،” قائلة لـ “المفكّرة” إنّ ما يصبّرها أنّه استشهد وهو يقوم بما يحبّه وأنّه كان صادقا بمساعدة أهله وناسه ومخلصا لعمله. تروي كيف كانت تتواصل مع ابنها بشكل يومي ليخبرها تفاصيل يومه وهو المقيم بعيدا عنها بسبب اضطرارها للبقاء في بيروت للعلاج، وكيف كان يطمئّن عليها، مشيرة إلى أنّه كان يعرف أنّ لا أمان مع العدو ولكنّه كان يفكّر فقط بواجبه تجاه ناسه وبلدته ووطنه. تصمت قليلا ثمّ تكرّر “كان صوته جميلا جدا، كان يحبّ أن يُنشد”.

براء ابو قيس

وتخبر سهير حمّود، والدة عبدالله عطوي (23 عاما)، لـ “المفكرة” كيف ركضت إلى المركز بعدما سمعت صوت الضربة “عرفت دغري وركضت، أنا كنت اعتبر أنّ ابني في مكان آمن ولكنّني حين سمعت صوت الغارة عرفت أنّ ابني استشهد” تقول. وتضيف:” شبّان واعون، محبّون للخير من المفترض أنّهم كانوا في مكان آمن، في مركز صحي، ولكن لا أمان مع إسرائيل، يبقى مصابنا أقل من اهل غزّة نحن دفنّا أبناءنا على الأقل”.

تصف سهير حمود ابنها بالخجول والوفي “صاحب صاحبه وكريم كتير كان” تقول، متحدّثة عن هرّته التي كان يهتمّ بها وعن الهدايا التي كان يحضرها للأطفال أقاربه وعن حبّه لكتابة الشعر، وعن قلبه الطيّب فهو “الخدوم الذي يستعين به الأقارب والمعارف لتصليح أي أعطال في المنزل”.

يخصّص عبدالله منذ فترة طويلة جزءا من وقته للتطوّع إلّا أنّه سخّر نفسه كليا لهذا العمل مع بداية الحرب كما تقول والدته، تماما كباقي المسعفين. “القرية كلّها ستذكر الشبّان السبعة الذين كانوا يدا خيّرة واحدة”، وتتذكّر  كيف خرج على عجلة من أمره من المنزل يوم الأربعاء الماضي، وكان عائدا لتوّه من منزل أخته في البقاع حيث تناول الإفطار معها، “مرّ على المنزل ليسلّم عليّ، ومن ثمّ خرج مسرعا إلى المركز حيث يسهر كلّ يوم مع الشبّان”.

عبدالله عطوي

العجلة نفسها تذكرها والدة الشهيدين التوأم أحمد وحسين الشعار (18 عاما) في حديث تلفزيوني. تتحدّث عن فطور أخير كان في دار عمّهما قبل ساعات من استشهادهما، وقبل أن يخرجا على عجل لملاقاة المسعفين في المركز حيث كان من المفترض أن يكونا بأمان، وأن يسهرا مع رفاقهما متأهبين لأي اتصال طارئ.

وتقول: “هذا عدو غاشم لم يتحمّل شبّانا مسعفين جاهزين عند أي اتصال، لم يهن عليه أن يكونوا أقوى منه، طلع وطلّع طيرانه وضرب الشباب كلن، سبعة أقمار”، مشدّدة على أنّ “ليس أحمد وحسين وحدهما أولادها بل كلّن كلّن، السبعة”.

أمّا قاسم الشعّار والد التوأم فيكتفي بالقول لـ “المفكرة” إنّ “شهادته مجروحة” بولديه وإنّ قلبه مكسور: “هودي كانوا سندي بعد ربي وإن شاء الله  بيكونوا حجة إلنا يوم القيامة” يقول، مضيفا: “الشبّان أبطال، تحدوا العدو، وكلّ ما كان يريدونه أن يساعدوا كل من هو بحاجة لهم”.

لا يختلف حديث منتهى عطوي والدة الشهيد فاروق عطوي عن حديث باقي أمهات الشهداء، فهي أيضا لم يخطر ببالها أنّ الكلمات التي حدّثها بها ابنها عبر الهاتف قبل الغارة بدقائق ستكون كلماته الأخيرة. “ما أن أقفل الخطّ حتّى سمعت الضربة، عرفت دغري” تقول، هي التي طالما رافقها الخوف على سلامة ابنها فاروق منذ السابع من أكتوبر وهو “النشيط المحبّ للخير والمتطوّع  والمتحمّس دائما والذي لم يهدأ منذ بداية العدوان”، عن خوف دفعها إلى ربط يده بزنّار بيدها حتّى إذا ما تحرّك ليلا تصحو فتمنعه من الخروج، فهي لم تُشف بعد من قلقها عليه وقت كورونا حين كان متطوّعا أيضا لنقل المصابين ومساعدتهم. 

تصف والدة فاروق ابنها فتقول” كان كل شي، ما شاء الله طول وجسم وحنون وخلوق ونشيط”، راوية لـ “المفكرة” كيف كانت تحاول إقناعه بأن يُهاجر حتى يكون في مكان أكثر أمنا. “كنت أقول له مازلت شابا، انتبه على نفسك، سافر، فكان يُجيبني إذا نحن الشباب لم نتطوّع من سيتطوّع”، مضيفة: “ابني عريس خطب منذ 15 يوما، كان يقول لي سأحضر العروس لنتطوّع معا في القرية، ولكنّ العدو الإسرائيلي قتله في مركز كان يجب أن يكون آمنا، ذنبه وذنب الشباب أنّهم كانوا محبّين للخير وخدمة المحتاجين”.

فاروق عطوي

ليس الاعتداء الأوّل على المسعفين

لم يكن المركز الإسعافي في بلدة الهبّاريّة أوّل مركز صحّي تستهدفه إسرائيل إذ استهدفت منذ السابع من أكتوبر ثلاثة مراكز صحيّة في قرى جنوبيّة ( مقرّ الهيئة الصحية الإسلامية في بلدة حانين ومركز الهيئة الصحية الإسلامية في بلدة بليدا، ومركز الدفاع المدني في بلدة العديسة) فضلا عن استهداف مركبة إسعاف تابعة لجمعية الرسالة للإسعاف الصحي بين بلدتَي طير حرفا ووادي الضبعة. وأدت هذه الاعتداءات إلى استشهاد 17 مسعفا فضلا عن جرح العشرات.

ودانت وزارة الصحة في بيان لها الغارة التي استهدفت مركز جمعية الإسعاف اللّبناني – جهاز الطوارئ في الهبارية مشيرة إلى أنّ “إصرار إسرائيل على تكرار اعتداءاتها على المراكز الصحية لن يؤدي إلى التغاضي عن هذه الجرائم التي تتمادى قوات الاحتلال في ارتكابها منذ بدء عدوانها على الجنوب.”

وأكّدت الوزارة أنّ هذه الاعتداءات المرفوضة “تخالف القوانين والأعراف الدولية لا سيما اتفاقية جنيف التي تشدد على ضرورة تحييد المراكز الصحية والعاملين الصحيين الذين يقومون بعمل طبي وإنساني لا يمكن عرقلته أو جعله موضع استهداف في هذه الظروف القاسية” معتبرة أنّ “استمرار العدو الإسرائيلي بهذه الخروقات الخطرة هو برسم المجتمع الدولي ولا سيما المنظمات الدولية الإنسانية وفي مقدمها منظمة الصحة العالمية واللجنة الدولية للصليب الأحمر التي تشدد أنظمتها ودساتيرها على ضرورة حماية العاملين الصحيين ومراكزهم ووسائل النقل التابعة لهم”.

ثلاثة مسعفين استشهدوا في الناقورة
انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، الحق في الحياة ، لبنان ، مقالات ، جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني