حرائق عكار قضت على 1/10 من أحراجها وأضرّت بالمزارعين: “اتركوا الغابات تجدّد نفسها بنفسها ولا للتشجير”


2021-08-03    |   

حرائق عكار قضت على 1/10 من أحراجها وأضرّت بالمزارعين: “اتركوا الغابات تجدّد نفسها بنفسها ولا للتشجير”
وادي عودين كما بدا من الرويمة

بينما كانت طوّافات الجيش اللبناني تحاول إخماد الحرائق التي ما زالت مشتعلة في أعالي بلدة أكروم العكارية على الحدود مع سوريا بعد 3 أيام على اندلاعها في منطقة قطلبة بالقرب من القبيات، كان منزل جميل حسين ملحم، ابن أكروم، يعجّ بالمعزّين بولده الذي قضى ضحية الحريق. خرج الرجل مع أولاده لإخماد النيران التي وصلت أرضه في القرنة في رأس منطقة الرويمة في جرد عشيرة جعفر على الحدّ مع جرد عكار، ولكنّ أمين، ابن الـ14 عاماً، لم يتحمّل حرارة ألسنة اللهب التي ارتفعت عالياً في السماء ومعها الدخان الكثيف فوقع أرضاً بعد دقائق من وصوله. يبدو الرجل، جميل ملحم، متعباً من إعادة رواية حادثة فقدانه ابنه “ركضت وحملته ودغري حطيت دينتي ع قلبه كان واقف”. حمله وركض إلى أقرب سيارة علّ المستشفى تنقذه “مشيت السيارة بصعوبة في قلب الدخان وما كنّا عم نقشع”. في الرويمة نقله إلى سيارة الإسعاف وعبرها إلى مستشفى القبيّات، وهناك سطّر الطبيب تقريراً يوثّق الوفاة “ما قبلت إتركه بالبرّاد، جبته معي ع البيت”. عندما توقفت الإسعاف عند إحدى محطات الوقود للتزوّد بالبنزين، طلب جميل ملحم من ابنه الأكبر اللحاق بها “ما كان معنا بنزين يوصّلنا ع الضيعة”، ولكنّ عنصراً من أمن الدولة منعه من ذلك “نزلت وقلت له إبني ميّت بالإسعاف وبدنا نقدر نوصل وراه ع البيت”. وبعد تلاسن بين الإثنين ضربه عنصر أمن الدولة بكعب بندقيته على وجهه وأصابه بجرح في ذقنه. كان جميل يجلس بين المعزّين مضمّداً جرح وجهه من أمن الدولة فيما “لا أحد يمكنه أن يضمّد جراح قلبه”، كما يقول لـ”المفكرة القانونية” في منزله.

حرائق على مدّ النظر

الدموع التي يذرفها معزّو ملحم لفقدانه ابنه بكاها أهالي عكار على أحراجهم وخسائرهم الكبيرة من الرويمة في أراضي عشيرة جعفر إلى جبل أكروم وتحديداً منطقة الضليل في كفرتون (إحدى بلدات جبل أكروم السبع) وصولاً إلى أعالي أكروم البلدة على الحدود مع سوريا، نزولاً إلى وادي عودين الذي تحوّل نصفه تقريباً إلى رماد، ومنه نحو قطلبة في القبيات ثم صعوداً إلى غابة المورغان في القبيات أيضاً. الحرائق اندلعت أيضاً في عكار العتيقة والسن والدورة في جرد الجومة العكاري، وكذلك في بزال وقبعيت وشان في جرد القيطع، وهي حرائق “منفصلة، غير متّصلة”، كما يؤكّد رئيس مجلس البيئة في القبيات الدكتور أنطوان ضاهر لـ”المفكرة” “وهذا ما يعزز فرضية أنّها حرائق مفتلعة”، وفق ما يرى. ضاهر الذي جال أمس مع مجموعة من شبان وشابات المنطقة على الحرائق، يقدّر المساحة المحروقة في عكار بنحو 30 كيلومتراً مربعاً “يعني 1/10 (عُشر) من أحراج عكار البالغة نحو 300 كيلومتر مربع “وهذه كارثة كبيرة يلزمنا نحو 20 إلى 30 سنة لكي ترمم الغابات نفسها”.

غابة المورغان

إضافة إلى خسارة عكار ولدها أمين ملحم وعُشر أحراجها في وادي عودين وغابة المورغان وأحراج أكروم والرويمة مع جزء كبير من حيوانات الأحراج، منيّ مزارعو المحافظة الأكثر فقراً مع محافظة بعلبك الهرمل وقضاء الضنية، بخسائر زراعية كبيرة وخصوصاً في منطقة الضليل في كفرتون في جبل أكروم وكذلك في الرويمة التي حاصرت النيران منازلها وهَجّرت سكانها، وكاد بعضهم أن يفقد حياته كما الطفل أمين ملحم بسبب الأدخنة الكثيفة وألسنة اللهب، ونُقل العديد من بينهم إلى المستشفيات، فيما أُسعف أخرون ميدانياً حيث جهدوا للحؤول دون وصول الحرائق إلى داخل بيوتهم. ونتيجة المعاينة الميدانية التي قامت بها المفكرة القانونية تبين أن النار قد وصلت إلى الحدائق الخاصة للعديد من المنازل في الرويمة. هناك كان صوت سعاد علي حمد جعفر ما زال يرتجف أمام بيت العائلة حيث كادت أن تفقد أحد أبنائها “كان عم يحاول يطفي النار قبل ما توصل ع البيت وحوصر وكان الدخان كتير كثيف”. سارع جيران سعاد إلى نقل إبنها إلى المستشفى “وإلا كنت خسرته” تقول فيما كانت تنقل مع أحفادها وأبنائها غالونات المياه لتبريد النيران وأدخنتها التي ما زالت ملتهبة من حولها.

قضت النيران على كلّ الأشجار الحرجية التي تحيط بمنزل سعاد “بس الصنوبرة والسنديانة لي بجنينة البيت ما احترقوا الحمدالله وإلّا كان ولع فينا البيت كمان”. ما زالت سعاد خائفة خصوصاً عندما كانت تحاول الوصول إلى بيتها الذي تحيط به النيران فنصحها أحد أقاربها بالنجاة بنفسها “اهربي يا سعاد، أنجي بنفسك”، وعندما أصرّت على الدخول لأنّ أولادها في الداخل عالجها بعبارة لن تنساها في حياتها “الله بيعوّضك يمكن ما حدا يطلع عايش من جوّا”.

ولم تقتصر خسائر أهالي الرويمة على الزراعة وحالات الاختناق وبعض المنازل، بل التهمت النيران بعض شبكات الري وأشرطة شبكة الكهرباء التي تحتاج إلى وقت طويل وإمكانيات تفتقر إليها مؤسسة كهرباء لبنان حالياً “يعني ما منعرف إذا رح ترجع الكهربا على ديارنا”، كما يقول أحد الجعافرة.

في كرم شباط يتحدّث حسن محمود جعفر عن خسارته 400 كعب من شجر الجوز مع شبكة الري الخاصة بهم “كان إنتاجهم قبل الغلا 30 مليون ليرة بالسنة، كنا نتعكز عليهم لنعيش”، منتقداً عدم قدوم الدفاع المدني عند وقوع الحريق “كان حريق القبيات كبير والتهوا فيه”، ليشكر أهالي فنيدق جارة الجعافرة وبلديتها والدفاع المدني فيها وكذلك الهيئة الصحية وكشافة الرسالة القادمتين من الهرمل “لولاهم أكلتنا النيران مع بيوتنا”، يقول. الجعافرة ردّوا الجميل للعكاريين وتحديداً لقرى جبل أكروم التي هرب بعض أهلها بقطعان الماشية من النيران “أمّنا لهم مأوى لثلاثة أيام بعيداً عن الحريق”. ويختم حسن جعفر كلامه بالتمنّي على الدولة اللبنانية استحداث مركز للدفاع المدني في جرد الهرمل “عنّا أحراج من الأرز واللزاب والسنديان والصنوبر وعنا زراعات أشجار مثمرة وخضار وبلحظة ممكن الحرايق تلتهم كل شي، قبل ما يوصلوا لينا من بعيد”، ولكن “على من تقرع مزاميرك يا داوود، يعني ما حدا بيرد علينا”، يقول.

أحد منازل الرويمة وقد وصلت النيران إلى حديقته

خسائر كفرتون

من الرويمة وقرنتها إلى كفرتون، أولى قرى جبل أكروم من ناحية جرد الهرمل، صعدت النيران من وادي عودين في عندقت إلى منطقة “راس الضليل ع كتف الوادي” كما يقول الدكتور خالد الأدرع لـ”المفكرة” “تمتدّ حدودنا مع وادي عودين بطول 1300 متر”. حاول أبناء الأدرع إنقاذ أرزاقهم بلا جدوى، يؤكّد الدكتور خالد متحسّراً على مشروع العائلة الذي يمتدّ على نحو 3 كيلومترات مربّعة مع بئر ماء ومولّد كهرباء وشبكة بطول نحو 3 كيلومترات للري و10 خيم بلاستيكية لزراعة الخضار من بندورة وخيار وباذنجان، إضافة إلى 2400 كعب من أشجار الرمان والكرز والإيجاص والتفاح، و20 ألف شتلة شجرية، وبيتين مع أثاثهما و5.5 طن من الأسمدة كلّها التهمتها النيران كما يؤكد. وجدت عائلة الأدرع نفسها، وفق الدكتور خالد، أمام خيارين “إما ننجو بأنفسنا مع 500 رأس ماعز هربنا بها أو نهلك مع مزرعتنا”. حاول نحو 35 شخص من عائلة الأدرع مواجهة النيران من دون جدوى “فتركنا كل شيء وغادرنا، والحمدالله أننا أنقذنا الطروش”.

من كفرتون إلى أكروم البلدة، كانت طوافات الجيش اللبناني تنفّذ رحلات بين جرد أكروم وبحيرة الكواشرة لإخماد النيران التي ما زالت مشتعلة في ثالث يوم على اندلاع الحرائق. وساهم الجيش السوري قبل ذلك بطائراته وجنوده بمحاصرة الحرائق الحدودية مع البستان في أرض عشيرة جعفر وكذلك في واديي التوتات والتوم في أعالي أكروم. وتركّزت الخسائر هناك (أعالي أكروم) على شجر السنديان بالدرجة الأولى.

لا للتشجير: اتركوا الغابات تجدّد نفسها

بعد جولة له نهار السبت 1 آب 2021 على المناطق التي طالتها الحرائقبرفقة شبان وشابات من المنطقة، ينقل رئيس مجلس البيئة في القبيات الدكتور أنطوان ضاهر صورة واقعية عن حجم الخسائر والكارثة التي أصابت عكار التي كانت تتغنى بخضارها وغناها بالغابات والأحراج: “قضت الحرائق على 30 كيلومتراً مربعاً من أحراج عكار”، يقول. ومع اندلاع النيران في وادي عودين في عندقت، تحوّل النصف الجنوبي من الوادي “إلى رماد” وفق ضاهر. ومع الأشجار التي رمدت ماتت كلّ سلاحف الجزء المحترق مع سناجبه وثعالبه “الثعالب احترقت في جحورها لأنها تنام نهاراً وتخرج ليلاً، وكانت نائمة وقت اندلاع الحريق”. ومع الأشجار والحيوانات تحوّل كل الغطاء النباتي في النصف  المحترق من عودين إلى رماد. وتعود أهمية وادي عودين إلى كونه أطول أودية لبنان المغطاة بالاخضرار بطول 12 كيلومتراً وعرض يتراوح بين 700 إلى ألف متر. أغلب الوادي مغطى بالصنوبر البري والسنديان والقطلب والشربين والبطم، إضافة إلى بعض الأراضي الزراعية في قعره “لذا هناك خسائر زراعية من زيتون وعنب ولوز وخضار لمزارعين من عندقت”، يضيف.

مع خسائر المزارعين والغابات، يسجّل دكتور ضاهر خسائر مرافق السياحة البيئية في عكار والمتمثلة بفقدان ممرّات المشي وكذلك الأحراج التي تمنح المحافظة خاصية مناسبة لذلك “عناّ ممرات للهايكينغ في عودين يقصدها سياح من لبنان ومن خارجه”. بدا لضاهر خلال مسير السبت تغيّر ظروف المشي “تعبنا كتير بالمشي بالوادي وبلشنا نحسّ بنقص الأوكسيجين وصارت الشمس تضربنا بسبب احتراق الأشجار التي كانت تظلل المشاة وكذلك التغيّر المناخي وانخفاض نسبة الرطوبة وزيادة الجفاف، وأتوقع أن تنخفض نسبة الأمطار شتاء أيضاً”. ولاحظ ضاهر بدء انزلاقات التربة بعدما احترقت الأشجار التي كانت تمسك بها “ومع الشتاء والسيول ستزداد انجرافات التربة وانزلاقاتها”. ووسط كل هذه الكارثة، يسلط ضاهر الضوء على إيجابية أساسية “الجزء الشمالي من الوادي ما زال معافى إذ لم تصله النيران ويمكن السير فيه وتعويضه عن الجزء الجنوبي”.

من عودين إلى حريق القبيات الذي بدأ في قطلبة وامتد إلى غابة المورغان الشهيرة التي تمنح خاصيتها للمنطقة بكثافة أشجار الصنوبر البري. يلاحظ دكتور ضاهر أنّ الحرائق التي اجتاحت عكار لم تكن متّصلة “حريق قطلبة متّصل بغابة المورغان التي تلامسه، ولكنّ حريق عودين مستقلّ عنه وكذلك حرائق البستان والرويمي عند الجعافرة، وحريقا جرد الجومة وجرد القيطع وأعالي بلدة أكروم”. عدم تواصل الحرائق يعتبره ضاهر مؤشراً على افتعالها ليطالب باستكمال تحقيق قضائي جدي يحدد المسؤوليات ويكشف الحقيقة.

وقضى حريق قطلبة الذي امتد بلحظات قليلة “نظراً لقوته وضخامته” وفق ضاهر، إلى غابة المورغان على نحو 4 كيلومترات مربعة من الغابة البالغة مساحتها 8 كيلومترات، حتى أنّه وصل في دقائق معدود إلى برج مجلس البيئة لمراقبة الحرائق.  ومع المساعي التي بذلت لإخماد حريق غابة المورغان، تمّ إنقاذ الغابات المتصلة بها وهي غابات الشنبوق ومحمية كرم شباط والقموعة. ويعيد ضاهر الفضل بذلك إلى “الدفاع المدني اللبناني والدفاع المدني الفلسطيني والهلال الأحمر الفلسطيني ومئات المتطوّعين من شبان وشابات وأهالي من مختلف المناطق”.

 ويطالب الدكتور ضاهر باسم مجلس البيئة في القبيات بعدم إطلاق حملات واستدراج تمويل لإعادة تشجير الغابات التي تضررت “طالما حدثت حرائق عبر الزمن وجددت الغابات نفسها بنفسها”. ويقول إنّ 10 إلى 20% يعيش فقط من التشجير الذي يقوم به الإنسان، بينما تعيش كل الشتول التي تفرّخ بعد الحرائق، ولذا “يجب عدم هدر المال، فلنترك الغابات تجدد نفسها بنفسها”. ويشير إلى أنّ الغطاء النباتي سيعود “بعد أوّل شتوة، ومن الآن حتى خمس سنوات ستصبح الشتول التي تفرّخ من جديد بطول متر أو اكثر، ولكن يجب حماية الغابات من القطع حالياً ومن الرعي بعد إنباتها غطائها النباتي”. وتحتاج الغابات إلى 20 سنة على الأقلّ لتعود كما كانت عليه قبل الحريق.

هذه المعطيات يؤيدها خالد طالب، ابن عكار، واحد مؤسّسي “درب عكار” للشبان والشابات “نحن أيضاً نطالب بعدم صرف المال على التشجير كون الغابات تجدد نفسها بنفسها”. ويشدّد طالب على ضرورة تخصيص المال الكثير الذي يصرف عادة على التشجير المكلف لتجهيز عكار بآليات للتدخّل السريع لإخماد الحرائق “نحن في درب عكار جمعنا تبرعات من المواطنين والمغتربين وجهّزنا آلية للتدخل السريع وبصدد إنهاء تجهيز آلية ثانية”. وبعدما يعدد طالب مئات العمليات التدخلية التي نفذها متطوّعو ومتطوّعات درب عكار لإخماد الحرائق يؤكّد أنّ الأولوية اليوم هي للحفاظ على ما بقي حيّاً ومعافى من أحراج عكار “لراح راح وسوف يجدد نفسه، ولكن يجب تجهيز آليات للتدخل السريع لإخماد الحرائق وهي كثيرة في عكار وكل لبنان”.

ويحذّر الدكتور ضاهر وشبان وشابات درب عكار من كلام البعض عن ضرورة تشحيل الغابات أو قطع الأشجار المحروقة تجنباً لاتخاذها ذريعة لقطع ألأخضر واليابس “يعني كل زعيم أو مسؤول بيصير ينفع أزلامه ليقطعوا حطب ويبيعوا”، كما تقول شابة من عكار العتيقة. ويؤكد دكتور ضاهر أنّ الشجر المحروق لا ينفع للوقود ولذا يجب عدم قطعه ليحمي الغطاء النباتي والتربة أيضاً”.

من جهته، يؤكّد أمين عام الهيئة العليا للإغاثة اللواء محمد خير أنّ رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب سيصدر قراراً اليوم ألإثنين 2 آب 2021 يكلف فيه لجنة من الجيش اللبناني والهيئة العليا للإغاثة للكشف على الأضرار والتعويض على المواطنين والمزارعين. ويقول اللواء الخير في اتصال مع “المفكرة” إنّ الخسارة الكبيرة تقع أيضاً في عقارات الدولة وثروتها الحرجية، مشيراً إلى أنّه طلب من بلديات المنطقة تزويده خلال 5 أيام بلائحة للأضرار كل في نطاقها.

انشر المقال

متوفر من خلال:

بيئة ومدينة ، سياسات عامة ، تحقيقات ، فئات مهمشة ، لبنان ، لا مساواة وتمييز وتهميش ، بيئة وتنظيم مدني وسكن ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني