“جواز التلقيح” في تونس: نموذج عن مخاطر التفرّد بالحكم والتشريع


2021-11-15    |   

“جواز التلقيح” في تونس: نموذج عن مخاطر التفرّد بالحكم والتشريع

التحقتْ تونس بمجموعة الدول التي اعتمدت جواز التلقيح ضدّ فيروس كورونا لدفع الأشخاص إلى تلقّي اللقاح عبر الحدّ من حرّيّة تنقّلهم ومنع دخولهم إلى فضاءات عدّة. واعتُبرت هذه السياسة مثيرة للجدل في العديد من الدول التي اعتُمِدت فيها، لما تمثّله من صعوبة في التأليف بين مصلحة المجموعة وحرّيّة الفرد. فأثارت غضب الكثير من المواطنين وحرّكت الشارع الرافض لها بأكثر من مناسبة. وخلافاً لما شهدته هذه الدول، اعتُمِد جواز التلقيح ضدّ فيروس كورونا في تونس بعد إصدار مرسوم رئاسي بطريقة مفاجئة بدون أيّ استشارة أو تداول. فلم يُطرح الأمر على النقاش العامّ، ولم تتداوله وسائل الإعلام، ولم يناقَش طبعاً في المجلس النيابي نظراً إلى تجميده من قِبل الرئيس. وهذا المرسوم هو التطبيق الأوّل للسلطة التشريعية التي استحوذ عليها الرئيس في ظلّ حالة الاستثناء التي أقرّها، وفي ظلّ وضع صحّي يشهد تحسّناً ليعيد النقاش حول قضيّة التضييق على الحقوق والحرّيّات تحت غطاء الحرص على حماية الصحّة العامّة.

 

إمّا التلقيح أو سلب الحرّيّة

أقرّ المرسوم[1] إسناد جواز التلقيح لكلّ شخص تونسي الجنسية أو مقيم على الأراضي التونسية يبلغ من العمر 18 سنة فما فوق استكمل التلقيح ضدّ فيروس كورونا (مع إمكانيّة إسناده إلى ما دون 18 سنة في حالة استكمال التلقيح). بالإضافة إلى إسناده للأجانب الوافدين والتونسيين الحاملين جوازات أو شهادات تلقيح مُسلَّمة في دول أجنبية. ويتعيّن على هؤلاء الأشخاص الاستظهار بهذا الجواز كشرط أساسي لدخولهم إلى فضاءات عدّة، كالمؤسّسات العمومية والمنشآت والمقرّات التابعة للدولة والجماعات المحلّية، نذكر منها المحاكم والبلديّات والإدارات العمومية ومراكز الرعاية الاجتماعية والبريد، إضافة إلى المدارس والجامعات والمحاضن العمومية والخاصّة والمقاهي والمطاعم والمحلاّت والفضاءات المخصّصة للترفيه والأفراح والمعارض والتظاهرات الفنّية والعلمية وأماكن العبادة والسجون ومراكز الاحتفاظ والمستشفيات العمومية والخاصّة لمرافقة المرضى.

إنّ النصّ التشريعي الأوّل لقيس سعيِّد لا يعبّر عن الطابع التعسّفي فقط، بل يُبرز مبالغة شديدة خصوصاً بالمقارنة مع نصوص البلدان الأخرى التي اعتمدت جواز التلقيح الخاصّ بفيروس كورونا. فأوّلاً، يُبرز تعداد الأماكن التي لم تعد متاحة للعموم إلّا شريطة الاستظهار بجواز التلقيح مدى تطويق المرسوم لكلّ الجوانب والفضاءات التي لم يعد للشخص الحقّ في دخولها، على رغم أهمّيّتها لممارسة أنشطته اليومية وقضاء حاجيّاته الحياتية التي لا يمكن الاستغناء عنها.

وثانياً، خلا المرسوم من فرضيّة الاستظهار بتحليل سلبي لدخول الفضاءات المذكورة في حال عدم الحصول على جواز التلقيح أو عدم استكماله، وذلك خلافاً لما لحظته تشريعات مقارَنة في الدول التي تبنّت جواز التلقيح. وبالتالي أُسقطت جميع الخيارات الأخرى أو أيّ هامش لتمكين المواطنين من قضاء مصالحهم وتمتّعهم بحقوقهم. زِد على ذلك، وفي غياب حملات للتعريف بمقتضيات المرسوم وإلزاماته وبعد دخول القانون حيّز النفاذ، سيتمّ تصعيب قضاء شؤون الأشخاص خصوصاً إذا لم يتمّ التلقيح بمختلف جرعاته وهو ما يتطلّب حيّزاً زمنياً طويلاً. في هذه الحالة، قد يُمنع الطالب من دخول جامعته أو العائلات من زيارة ذويهم في السجون أو المتقاعد من الحصول على جرايته لمدّة قد تقارب الشهر أو أكثر بدون الإبقاء على أيّ بديل لهم، مثل تقديم تحليل سلبي. وما يزيد من قابليّة هذا الأمر للنقد أنّ عدم الاعتداد بالتحاليل السلبية شرطاً لدخول هذه الفضاءات لا ينسجم قطّ مع الهدف الأساسي لاعتماد جواز التلقيح، وهي ضرورة الحفاظ على الصحّة العامّة، طالما أنّه الإجراء الأكثر فاعليّة لتحديد إصابة الشخص بالفيروس من عدمها وإمكانيّة حمله للعدوى في حين أنّ التلقيح لا يمنع لا العدوى ولا انتقالها.

ومن جهة أخرى، تجدُر الإشارة إلى أنّ ثمّة مبالغة في تحديد قائمة الفضاءات الممنوعة على عدم المتلقّين للقاح، التي هي الأطول مقارَنة بالبلدان الأخرى. فبخلاف الدول الأوروبية التي حصرتْ الفضاءات التي يُشترَط استظهار جواز التلقيح أو التحليل السلبي للدخول إليها بالفضاءات التي لا تمثّل مصدراً للحاجيّات الأساسية للمواطن (المطاعم وقاعات السينما والرياضة والحلاقة…)، توسّعت القائمة التونسية لتطال كلّ الفضاءات المغلقة تقريباً (في ما عدا البنوك الخاصّة) وحتّى مراكز الرعاية الاجتماعية والهياكل الصحّية العمومية والخاصّة لمرافقة المرضى أيّاً كانت حالة المريض ومدى استعجاليّة حالته وضرورة مرافقته.

 

جواز التلقيح: ذريعة أخرى للمسّ من حقوق الأجراء

على صعيد آخر، أجاز المرسوم تعليق مباشَرة العمل بالنسبة إلى موظّفي الدولة وتعليق عقد الشغل بالنسبة إلى أجراء القطاع الخاصّ، في حال عدم إتمامهم إجراءات التلقيح. كما أكّد على أن تكون مدّة التعليق غير خالصة الأجر. وهو ما يُعَدّ أخطر ما تضمّنه المرسوم واستثناء تونسياً. فمن جهة، يقنّن المرسوم عدم خلاص أجور الموظّفين كما يفتح ضمنياً باب صرف الأُجراء في القطاع الخاصّ على مصراعيه، مُقدّما له ذرائع تمكّنه من طرد أُجرائه. واللافت أنّ المرسوم ذهب هنا في اتّجاه معاكس تماماً للسياسة التي اعتُمِدت في الموجة الوبائية الأولى (سنة 2020). آنذاك، تمّ تنقيح مجلّة الشغل[2] من قِبل إلياس الفخفاخ، رئيس الحكومة آنذاك، لتعليق العمل بالأحكام التي تُمكِّن المؤجّرين من إنهاء عقود الشغل لضرورة قاهرة كفيروس كورونا، وذلك بهدف حماية مَواطن الشغل وعدم فسح المجال لاستغلال الوضع الوبائي والصحّي ذريعةً لطرد العمّال، خصوصاً في ظلّ نقص الإنتاج.

وتجدر الإشارة إلى أنّ المرسوم المتعلّق بجواز التلقيح لم يترك للعمّال الذين لم يتمّوا إجراءات التلقيح بعد أيّ مجال آخر للحفاظ على حقّهم في العمل. فلم يطرح مثلاً مسألة مباشَرة العمل عن بُعد أو الاقتطاع من أيّام العطل أو حتى الاستظهار بتحليل سلبي في كلّ يوم عمل إلى حين استكمال التلقيح.

وعليه، قضى هذا المرسوم بحرمان الأشخاص من التمتّع بحرّيّتهم في التنقّل وحقوقهم الأخرى كالشغل والتعلّم، وأضرّ وجوباً بجوهر حقوقهم كما أقصى أيّ خيار آخر مهما كانت فعاليّته ومدى تناسبه مع ضرورة الحفاظ على صحّة المواطنين. وما يزيد من قابليّة المرسوم للنقد أنّ المنظّمة العالمية للصحّة أكّدت في توصياتها الموجَّهة للدول الأعضاء على عدم وجود إثباتات علمية في ما يتعلّق بفاعليّة التطعيم في الحدّ من انتقال العدوى موصيةً، على عكس ما يتمّ التسويق له، بعدم اعتماد جواز التلقيح خصوصاً في ما يتعلق بالتنقّل بين البلدان.

نصّ تعسّفي بلا رقيب أو حسيب

هذا التوجُّه التعسّفي لا يُفسَّر فقط بالخطر الوبائي، والخوف من موجة جديدة. فرغم أنّ هاجس تلقيح أكبر عدد ممكن من الناس حاضر في معظم الدول، على الأقلّ تلك التي استطاعت توفير التلقيحات، تحاول الحلول المُعتمَدة عادةً التوفيق بين الصحّة العامّة وحرّيّات الناس، حتّى لو انتهت إلى تغليب الأولى. أمّا مرسوم الجواز الصحّي في تونس، فكان ذا اتّجاه واحد. ما يفسّر ذلك، ويزيد في الوقت ذاته من خطورته، هو عدم ترافق عمليّة صياغته مع أيّ نقاش عامّ، وغياب أيّ إمكانيّة للرقابة عليه، رغم مساسه الواضح بحقوق دستورية عدة. ويتأتّى ذلك عن مجموعة من العوامل السلبية:

أوّلاً، احتكار السلطة التشريعية من قِبل رئيس الجمهوريّة، طبقاً للأمر 117، الذي أدّى إلى غياب أيّ تداول علني حول النصّ وما يحمله من هنّات ومخاطر. إذ إنّ التداول داخل مجلس الوزراء كما نصّ عليه الأمر 117، لا يمكن أن يعوَّض التداول البرلماني، بما يفرضه من علنيّة، واختلاف في الرؤى، ومسؤوليّة سياسية، وهامش مشاركة لقوى المجتمع المدني، مهما بدا ضيّقاً. فالبرلمان ليس فقط، كما يصوّره رئيس الجمهوريّة، “فضاءً لعقد الصفقات” وصياغة “نصوص على المقاس”، إنّما هو أيضاً ساحة معركة غير محسومة المآل، يتدخّل فيها عدد كبير من الأطراف، بما فيها الرأي العامّ، بشكل أثّر في تشريعات عديدة. بالإضافة إلى ذلك، تساهم التركيبة غير السياسية للحكومة، وخضوعها المطلَق لسلطة رئيس الجمهوريّة، في إلغاء أيّ مجال للنقاش، ممّا أفضى إلى اعتماد نصّ على مقاس وجهة نظر واحدة ومطلقة.

ثانياً، حصّن قيس سعيِّد، من خلال الأمر الرئاسي عدد 117، نصوصه التشريعية بجعل الطعن فيها مستحيلاً. فمن جهة، نصّ الفصل السابع صراحة على أنّ المراسيم لا تقبل الطعن بالإلغاء أمام المحكمة الإدارية. من جهة أخرى، ألغى الأمر 117 الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين، رغم أنّها غير مختصّة مبدئياً في النظر في المراسيم. ومن شأن حرص رئيس الجمهوريّة على إلغائها، بدل تمكينها من صلاحيّة النظر مثلاً في النصوص التشريعية التي قد يصدرها، إنّما يفضح سعيه إلى إلغاء أيّ شكل من أشكال الرقابة على أعماله، وعدم مصداقيّة التزامه بالحقوق والحرّيّات الدستورية. هكذا، لا يبقى للمواطنين أيّ سبيل للاعتراض على النصوص التي يصدرها رئيس الجمهوريّة، مهما حملت من هنّات ومخالفات، ويُمنع القضاء من تأدية دوره الدستوري في حماية الحقوق والحرّيّات من أي انتهاك.

ثالثاً، إنّ إلغاء التداول الذي يحتمل التعدُّديّة المجتمعية وما يمثّله من شرط لتحقيق الديمقراطيّة ومنع كلّ شكل من أشكال الرقابة على النصوص التشريعية يؤدّي آلياً إلى غياب هاجس احترام الدستور. بالإضافة إلى أنّ تكرار الالتزام باحترام الحقوق والحرّيّات والنصّ الدستوري، سواء في مداخلات الرئيس أو في نصّ الأمر 117، لا يمكن تحقيقه في غياب رقابة فعلية كما هو الحال بالنسبة إلى المرسوم المتعلّق بجواز التلقيح. في ما عدا ذلك، تبقى هذه العهود مجرّد مبادئ عامّة مكتوبة من باب الطمأنة ولكنّها في تضارب تامّ مع الواقع وما يتمّ العمل به.

الصعوبات المُنتظَرة عند التطبيق

في ظلّ استحالة الطعن في المرسوم، تتمحور التساؤلات الأولويّة حول كيفيّة تطبيقه. فعند التمعّن في مختلف فصول المرسوم، يتّضح أنّ التطبيق سيخضع لتأويل واسع من قِبل المكلَّفين بإنفاذه وسيطرح تالياً مشاكل حقيقية عند بداية تنفيذه. فتعليق مباشَرة العمل أو تعليق عقود الشغل في القطاع الخاصّ سيخضع لتأويلات عدّة، وسيطرح إشكالات عدّة متعلّقة بمساهمات صاحب العمل بموجب نظام الضمان الاجتماعي الإجباري، والتأمين على المرض لصالح العمّال. كما قد يطرح إشكالات عدّة متعلّقة بالتمييز وعدم المساواة بين الأجراء، كلٌّ حسب طبيعة عمله. فقد يحظى البعض بتسويات مع المؤجِّر للاستمرار بالعمل عن بُعد إلى حين استكمال التلقيح، بينما يُطبَّق على العمّال الذين يمارسون مهامّ مرتبطة بمكان العمل كأعوان الحراسة والتنظيف.

من جهة أخرى، تكمُن الصعوبة في مباشَرة مهمّة الرقابة في حدّ ذاتها. إذ سيتعيّن على المواطنين الاستظهار بجواز التلقيح المطبوع، الذي يحتوي على أسمائهم وتاريخ ميلادهم والختم المرئي الذي سيتحتّم على المكلَّفين بإنفاذ المرسوم أن يتحقّقوا منه عبر جهاز أو تطبيق خاصّ. وقد اعتُمد هذا الختم المرئي في العديد من البلدان، حرصاً منها على حماية المعطيات الشخصية للمواطنين المتعلّقة بصحّتهم. وإن تحقّقنا من وثيقة جواز التلقيح التونسي فسنلاحظ أنّه يتمّ التنصيص على وجوب الاستظهار بوثيقة هويّة تمكّن العون من التأكّد من هويّة الشخص الحامل لجواز التلقيح. وبالتالي أصبح على المواطنين الاستظهار بهويّاتهم للأعوان عند دخولهم دور العبادة وأماكن عملهم والمطاعم والمحلّات على سبيل المثال. وهو ما يُعَدّ تناقضاً صارخاً مع مبدأ حماية المعطيات الشخصية التي تُوهِم الدولة بحرصها على احترامه باعتمادها على الختم المرئي، الأمر الذي يدفعنا إلى التساؤل عن الفائدة من استعماله والهدف منه.

كلّ هذه الإشكاليّات والهنّات تجعل من المرسوم صعب التطبيق وخاضعاً لتأويل المكلَّفين بإنفاذه، ممّا قد يفتح الباب للفساد والمحسوبيّة، ويقدّم مثالاً آخر لعدم تكريس المساواة بين المواطنين أمام القانون. وهي نتيجة مُنتظَرة في ظلّ صياغة نصوص قانونية من قِبل جهة واحدة تنفرد بالتشريع بدون التداول أو مناقشة الأحكام بشكل يحترم التعدديّة. مرسوم صِيغَ بعقليّة التضييق التعسّفي على الحقوق والحرّيّات تحت ذريعة مجابهة الخطر الوبائي، ويتماهى بذلك مع الأمر الرئاسي الذي أعاد تنظيم السلط وأرسى حكم الفرد بحجّة مجابهة الخطر الجاثم على الدولة التونسية. فإلى متى ستتواصل التضحية بحقوق وحرّيّات المواطنين من أجل مواجهة أزمات يفشل المسؤولون في إدارتها؟

نشر هذا المقال في العدد 23 من مجلة المفكرة القانونية – تونس. لقراء مقالات العدد اضغطوا على الرابط ادناه

زلزال ديمقراطيّة فتيّة

[1] المرسوم الرئاسي عدد 1 لسنة 2021 المؤرَّخ في 22 أكتوبر 2021، المتعلّق بجواز التلقيح الخاصّ بفيروس كوفيد 19.

[2] مرسوم من رئيس الحكومة عدد 2 لسنة 2020 مؤرَّخ في 14 أفريل 2020، يتعلّق بسَنّ أحكام استثنائية وظرفية بخصوص تعليق العمل ببعض أحكام مجلّة الشغل.

انشر المقال

متوفر من خلال:

سياسات عامة ، سلطات إدارية ، مقالات ، تونس ، الحق في الصحة والتعليم ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، مجلة تونس ، جائحة كورونا



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني