جنون عقارب الساعة اللبنانية: حلقة جديدة من الكوميديا السوداء


2023-03-30    |   

جنون عقارب الساعة اللبنانية: حلقة جديدة من الكوميديا السوداء

في 23 آذار، خلال لقاء جمع رئيسيْ حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي ومجلس النوّاب نبيه بري للتهنئة بحلول شهر رمضان، تسرّب على غير عادة مقطع من حوارهما، عنوانه طلب بري تأجيل اعتماد التوقيت الصيفي لشهر، واستجابة الأخير “على مضض”. وأصدر أمين عام مجلس الوزراء مذكرة بهذا الشأن مستندًا على موافقة ميقاتي الاستثنائية، وهي ممارسة غير دستورية. وقد فُهم أنّ هذا الإجراء يهدف إلى التخفيف عن الصائمين. 
هذا من الناحية القانونية، أمّا من الناحية العملانيّة فأحدث القرار ارتباكًا لدى المواطنين بخاصة وأنّ كثيرًا من الأفراد ترتبط أعمالهم بالأجهزة الذكيّة ذات التقويم التلقائي (Update) لنظام الساعة. كما أنّ فجائيّة القرار، حيّرت أهالي الطلّاب حيال توقيت فتح المدارس، علاوةً على حيرة المواعيد العاديّة تبعًا للتوقيتين “الآلي” أو “اليدوي”. 

وقد أثار القرار في اليومين الأوّلين موجة تلقائيّة من التهكّم حول الخفّة في التعاطي بشؤون الدولة ولم يتناول النقد مضمون القرار إنما طريقة إخراجه. لكن الأمر تبدّل في 25 آذار، يوم تطبيق القرار، فأصبحنا أمام معركة من البيانات والبيانات المضادة، والتغريدات والتغريدات المضادة، عنوانها وجوب الالتزام بالقرار الفردي الصادر عن رئاسة مجلس الوزراء، مقابل عدم الالتزام واعتماد ما سمّي بـ “التوقيت العالمي” أي البقاء على قرار مجلس الوزراء رقم (5) تاريخ 20/8/1998. وقد أخذ هذا الجدل منحى طائفيًا في الكثير من جوانبه. كما تمّ الحديث عن عصيان القرار الصادر عن ميقاتي لعدم قانونيته.   

في المقابل، لم يتخلّل هذا النقاش المحتدم أيّ مسعى جدّي لمعالجة أصل المشكلة وهي بدعة الموافقات الاستثنائية التي خوّلت ميقاتي اختزال الحكومة بشخصه. كأنّما الأزمة تنتج مزيدًا من الفوضى والتطييف، ولا تسفر في المقابل عن أي حلول مؤسساتية منعًا لتكرارها.

الموجة الأولى: خفّة القرار  

تمثّلت الموجة الأولى في 23 و24 آذار بالنقد والسخرية من المشهد الحواري “المسرّب”، بدأها ناشطون وإعلاميون على تويتر تحت هاشتاغ (#التوقيت_الصيفي). على سبيل المثال، نقرأ تغريدة متداولة بأنّ “ميقاتي يفكّر في إلغاء يوم الاثنين”. وأخرى لمعدّ البرامج سيرج زرقا يقول إنّ المشكلة في “طريقة اتخاذ القرارات بلبنان” لا في تأخير التوقيت الصيفي حتى نيسان في وقت تبحث دول عدّة بإلغاء هذه العادة. وأشار الصحافي سلمان العنداري إلى الأمر ذاته مغرّدًا “يا عين.. البلد يدار بصبحية بسيطة.. (مشّيلنا ياها)”. وألصق تعليق آخر صورة الرئيسين ووصفهما بـ “عقارب الساعة والوطن”. وأشارت أغلب النكات إمّا إلى الخفّة في القرارات وأداء الرّئيسين، أو قارنت صعود الدولار بصعود الساعة على نحو تهكّمي، أو انتشر مثلًا تعبير “ساعتكم آتية”، إلخ..

أمّا نوّاب ومحازبو التيار الوطني الحر، ولا زلنا في 23 آذار، فقد نقلوا مضمون النقد والنكات المتداولة: النائب جورج عطالله قال إنّ المنظومة ليس لديها قيمة للتوقيت. النائب وغرّد نيقولا الصحناوي ساخراً من “توقيت ميقاتيتش”، وردّد الطرفة المتداولة “الله يستر ما بكرا يلغو الصيفية”. عضو المجلس السياسي في التيار الوطني الحر وليد الأشقر تساءل ما إذا كان ميقاتي يعلم “أنّ كافة أجهزة الكمبيوتر مبرمجة بشكل تلقائي لاعتماد التوقيت الصيفي في آخر سبت من آذار؟” أما نائب القوات بيار أبو عاصي فغرّد: “قرروا عدم تقديم الساعة على فنجان قهوة. يكفينا انهم أخّروا البلد سنينًا عديدة.  لشو دراسة الأثر!؟” نائب الكتائب إلياس حنكش علّق على الفيديو “المسرّب” بأنّه “هكذا تؤخذ القرارات الحكومية المهمّة”. والنائب نديم جميّل اعتبر أنّ القرار غير مقبول “بخاصة نظرًا لما قد يسبّبه من تداعيات على أبسط الأمور مثل الهواتف والكمبيوتر، وصولًا لدوامات العمل، والطيران…”

في المقابل تعامل رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل مع المسألة بجدّية مغردًا في 23 آذار “قصة الساعة ما بتنقبل ومعبّرة كتير بمعانيها … ما بيجوز السكوت عنها لحدّ التفكير بالطعن فيها أو بعصيانها”. كان تصريح باسيل واضحاً أنّه أمام حلّ من اثنين، الأوّل ديمقراطي يتناسب وحجم الفعل ويتمثّل في الطعن والثاني تجييشي لا يتناسب وحجم الفعل. (ونعلم بعد يومين أنّه اعتمد الخيار الثاني).

وأتتْ الموجة الثانية من الردود في 25 و26 آذار لتكمل المشهد الهزلي. وتمثّلت في اصطفاف طائفي تحوّل مناكفة بين فريقين، وذلك من خلال تغريدات وبيانات مؤسسات دينية وتعليمية وإعلامية وتجاريّة تعلن العصيان. فأصبحنا أمام توقيتين مختلفين، ما أضاف إرباكًا على الإرباك الذي أوجده قرار ميقاتي. وقد بدأ الأمر مع تحرّك بعض الإعلاميين والجيوش الإلكترونية إذ أصبح مضمون قرار التوقيت هو محور التعليقات لا آليّة اتخاذ القرار. وكان الحديث يدور حول أنّ تعديل التوقيت “يعزلنا عن العالم” مع مطالبات واسعة بعصيان القرار. علماً أنّ السرديّة فارغة المضمون بطبيعة الحال، إذ لا توجد ساعة مركزيّة في مقرّ الأمم المتحدة تسيّر كلّ مواقيت العالم.

الموجة الثانية… “وا توقيتاه”

يبدأ نهارنا (25 آذار) برسالة من شركة الاتّصالات تعلمنا بضرورة تعديل إعدادات الساعة (كلا الشركتين ألفا وتاتش بعثتا رسائل). وسرعان ما تبدأ الأنباء حول العصيان. فنقرأ في “فلاشات” الأخبار ما يلي: “LBCI ستستمر على التوقيت العالمي وسوف تقدّم ساعتها ساعة عند منتصف هذه الليلة”. تمرّ بضع دقائق، ثمّ يأتي خبر بأنّ “محطة mtv لن تلتزم بقرار تأجيل تعديل التوقيت الصيفي” اعتراضًا على قرار رئاسة مجلس الوزراء. نبحث في محرّك “تويتر” فنجد خبرًا عاجلًا يفيد أنّ “OTV لن تلتزم بقرارات نجيب ميقاتي وتؤكد الاستمرار بالعمل وفق التوقيت العالمي”. نبحث عن “الجديد” فنقرأ أنّها ستعلن موقفها خلال النشرة المسائيّة، على سبيل التشويق، لكن نفهم تمايز الخطاب حين نقرأ تغريدة لمديرة الأخبار مريم البسّام تشير إلى “تسلبُط بري وميقاتي على الزمن” من جهة وإلى “عقارب الطائفية” من جهة أخرى وتضيف “يلعن ساعتنا حتى قيام الساعة”. ورغم اختلاف الخطاب، انتهت “الجديد” إلى اتخاذ موقف القنوات الأخرى نفسه. 

ثمّ تتوالى أخبار (25 و26 آذار) عن مدارس وجامعات ومستشفيات تلتزم “التوقيت الصيفي” وأخرى تلتزم قرار رئاسة الحكومة. ثم نطالع خبرًا أنّ مصرف لبنان “لن يطبّق تغيير التوقيت على أنظمته بسبب المخاطر العالية…” لكن يلتزم بقرار الحكومة بخصوص الحضور وساعات العمل. ثمّ نقرأ أنّ مطرانية انطلياس المارونية ستعتمد التوقيت الصيفي، فبيان من حزب “الكتائب” يرفض تأجيل اعتماد التوقيت الصيفي. ونحو الساعة الرابعة يطالعنا تقرير على “إل بي سي” يعدّد المطرانيات والمدارس التي تلتزم التوقيت الصيفي. أمّا إعلاميو المحطات الثلاث فبدا كأنّهم متّفقون على التغريد تحت وسمَي (#لن-نلتزم و#التوقيت_الصيفي)، كان بارزًا بين مجمل تعليقاتهم تغريدة لندى أندراوس تقول: “ما فيكم تعزلونا عن العالم، ما فيكم تردوا لبنان للعصر الحجري”.  ثم نقرأ ميريام سكاف (رئيسة الكتلة الشعبية) تدعو إلى وحدة لبنان. 

لكن الإعلامي ألبير كوستانيان يصعّد قائلًا: “يجب أن تأخذ الشركات والنقابات والمدارس والمستشفيات قرارًا بعدم الانصياع لهذا الهراء”. باسيل بدوره يصعّد أيضًا “بيديروا البلد متل ما بيغيّروا الساعة! وينكم يا ناس؟ السكوت ما بيجوز”. في مقابل أجواء التصعيد، يدعو زياد عيتاني (المسرحي) إلى تقديم الساعة نصف ساعة “حقناً للدماء”. وسرعان ما نطالع خبرًا آخر بأنّ بكركي تعلن التزامها تقديم الساعة ساعةً منتصف هذه الليلة، وتسير على خطاها مطرانية بيروت للروم الأرثوذوكس. صاحب الأعمال إبراهيم صقر المشهور بفضيحة احتكار البنزين المدعوم يرسل “تحية إكبار وإجلال” للمطران الياس عودة على موقفه “البطولي والجريء”، فيما يدعو رئيس حزب القوّات سمير جعجع إلى اعتبار قرار رئيس الحكومة كأنّه لم يكن. 

الموجة المضادّة… “وا توقيت بري”

إزاء اشتداد وطيس الخطاب، تحركّت جيوش إلكترونية بدا أنّ أغلبها من الموالين للرئيس بري، فانتشر هاشتاغ باسمه وتغريدات تحمل صوره وقلوبًا خضراء. وبخلاف الهجوم المضاد على “الطائفية البغيضة” (أي المتمثّلة بالطرف الآخر)، كان أبرز مضمون التغريدات أنّ “عرّاكم بري أمام الرأي العام”، أو الحديث عن “كشف حقيقة تطرّف اليمين المسيحي”، أو الكلام حول “الحنكة السياسية للرئيس بري”، إلخ.. 

واستنفر نوّاب حركة أمل بعد صمت طويل حيال قضايا متنوّعة بالغة الأهمية تتالت في الفترة الماضية، فبدأنا نشهد تعليقات منهم بخاصّة وأنّ بعض التغريدات بخصوص “الساعة” تطال رئيس الحركة والفيديو المسرّب. فردّ النائب غازي زعيتر معتبرًا أنّ القضيّة “محض إدارية وليست الأولى في تاريخ لبنان، ولُيسأل من يحاول إيقاظ أشباح الفتنة اليوم هو بذلك خبير”. وأضاف “اتّقوا الله بلبنان وإنسانه واضبطوا ساعاتكم على موعد إنجاز الاستحقاقات الوطنية التي عبثتم بها وأفرغتموها من مضامينها بطيشكم وصراعاتكم وأحلامكم ومشاريعكم الخائبة”. بدوره النائب قبلان قبلان غرّد قائلًا “إنّها أحلام بالفدرالية والتقسيم وهي محاولة انقلاب (حتمًا) على الطائف”. وصبّت تعليقات النائبين علي خريس ومحمد خواجة في سياق الحديث نفسه عن التطييف والفدرلة. وفي السياق ذاته نائب الجماعة الإسلامية عماد الحوت فغرّد بالقول: “شكراً لقيادات شركائنا في الوطن لأنهم كشفوا عن وجههم الطائفي البغيض”.

وبخصوص الخطاب الإعلامي، برزت مقدّمة نارية على قناة “إن بي أن” وتحريض عالي اللهجة على فريق التيار الوطني الحر. وكان لافتًا بين الإعلاميين تغريدة لحسن علّيق فاضل فيها بين طرفي النزاع مشيرًا إلى أنّ الفريق الثاني بدا أقل استعدادًا لإظهار الطائفية. فيما استعانت ميسم رزق بقول للإمام الحسن ابن علي “وما أنتَ إلّا كمن يقدح في صفاة في بهيم أسود…” علمًا أنّ سياق القول لا علاقة له إطلاقًا بالموضوع. وقد يساء تفسير القول بأنها تقارن موضوع المذمّة –عمرو بن العاص- في الخطبة بمنتقدي رئيس مجلس النوّاب، بالتالي فهي تشبّه الأخير بالإمام علي إذا ما تتبعنا ظروف الخطبة. كما يطالعنا مقال في مجلّة “القوس” يلفت إلى أنّ التوقيت الصيفي صدر عن “الانتداب”. 

حكم “الكاكيستوقراطية”   

أمّا موجة النقد و”التنكيت” على فريقي الاصطفاف على “واتساب” و”تويتر” فلم تتوقّف، فأظهرت العديد من التعليقات كشفًا لنمط إثارة مواضيع من باب إلهاء العام، أو إشارةً إلى “غباء السلطة”. نذكر في هذا الصدد تغريدة للإعلامية نيكول حجل تحدثت فيها عن حكم “الكاكيستوقراطية” حيث تكون سلطة الدولة بيد الأسوأ وغير الكفوئين. وقالت في تغريدة أخرى إنّ “خطاب الـ (هني ونحنا) هو اللي بمثّل المتخلفين والرجعيين واللي وقّعونا في أركان المنظومة”. كما علّق الإعلامي رياض قبيسي على فيسبوك متنبّئًا بأنّه “بالأسابيع وربما الأشهر القادمة رح يتسارع الانهيار بشكل دراماتيكي، بالمقابل رح يتم إلهاء الناس بقضايا جانبية ستزيد من حدة السعار الطائفي في البلاد”. وكان له تعليق آخر جرى تداوله يقول “بري وباسيل مختلفين إذا بقدموا أو بأخّرو الساعة، بس ابراهيم كنعان وعلي حسن خليل متفقين على تحميل الفئات الأضعف كلفة الانهيار”. وكان لافتًا أيضًا تعليق مطوّل للصحافية سحر مندور تحدّثت فيه عن القرار “الغبي والمكركب”، وبدأت تعدد لائحة من الأمور التي كانت تستدعي عصيانًا ولم نشهد إزاءها تحرّكًا مماثلًا.  

انتهت المسألة بدعوة ميقاتي مجلس الوزراء إلى الانعقاد في 27 آذار، وقد انتهى الاجتماع إلى اعتماد التوقيت الصيفي ابتداءً من ليل الأربعاء – الخميس. وأسدل بذلك الستار على مشهد من الكوميديا السوداء تحت عنوان “حرب الساعة”. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

مؤسسات إعلامية ، أحزاب سياسية ، قرارات إدارية ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني