ميقاتي يختزل الحكومة في شخصه: التلاعب بالزمن والقانون تسهيلًا لأداء الفريضة الدينية


2023-03-24    |   

ميقاتي يختزل الحكومة في شخصه: التلاعب بالزمن والقانون تسهيلًا لأداء الفريضة الدينية
لوحة الزمن لدالي أو إصرار الذاكرة (المصدر "ويكي آرت")

من تجليات السيادة التشريعية للدولة الحديثة قدرتها على التحكم بالفضاء والزمن. ومن أبرز مظاهر هذه القدرة تعديل التوقيت الصيفي والشتوي تحقيقا لمصالح إقتصادية أو اجتماعية معينة. وإذا كانت غالبية الدول ومن بينها لبنان تعمد إلى تعديل التوقيت خلال أشهر محددة من السنة، فإنّ المذكّرة رقم 28/م التي أصدرها الأمين العام لمجلس الوزراء بتاريخ 23 آذار 2023 بتأجيل العمل بالتوقيت الصيفي تطرح هذه القضية ليس من باب سيطرة الدولة على الزمن لكن أيضا اعتباطية السلطة السياسية في اتخاذها هكذا قرار.

فقد نصت هذه المذكرة أنه “استنادا على الموافقة الاستثنائية الصادرة عن السيد رئيس مجلس الوزراء”، تقرّر تأجيل تطبيق قرار مجلس الوزراء رقم 5 المتخذ في 20/8/1998 المتعلق بتقديم التوقيت المحلي ساعة واحدة خلال فصل الصيف اعتبارا من الساعة صفر من آخر أحد من شهر آذار (أي منتصف ليل السبت 25 آذار) بحيث يتم تقديم الساعة ساعة واحدة في منتصف ليل 20-21 نيسان 2023.

وفي حال وضعنا جانبا الكيفية التي اتّخذ فيها هذا القرار عبر “تسريب” إعلامي لحديث بين رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي والخفة التي اتسم بها الحديث وما يعكسه من أداء غير سليم في طريقة إدارة مؤسسات الدولة، لا بد من دراسة هذه المذكرة لناحية مدى قانونيتها وجواز صدورها بالشكل الذي صدرت فيه.

عرف لبنان تعديل التوقيت المحلي خلال الانتداب الفرنسي إذ أن هذه المسألة كانت من اختصاص المفوض السامي الفرنسي كونها كانت تشمل جميع البلاد الخاضعة للانتداب أي لبنان وسوريا. فقد أصدر مثلا المفوض الفرنسي “غبريال بيو” في 9 كانون الأول 1940 قرارا بتقديم الساعة الرسمية 60 دقيقة في ليل 14-15 كانون الأول عند الساعة 23 على أن يطبق هذا القرار في لبنان وسوريا. علما أن أقدم تعديل للساعة خلال الانتداب الفرنسي تم بموجب القرار رقم 819 مكرر الصادر عن المفوض السامي “غورو” بتاريخ 19 نيسان 1921 الذي قضى بتقديم الساعة 60 دقيقة عند الساعة 11 مساء نهار 23 نيسان 1921. وقد ورد في بناءات القرار السبب الذي دفع السلطات الفرنسية لاتخاذ هكذ تدبير بضرورة الحد قدر الإمكان من النفقات الناجمة عن الإنارة.

وقد انتقلت هذه الصلاحية إلى السلطات الرسمية اللبنانية مع بداية عهد الاستقلال إذ كانت تتم بمرسوم يصدره رئيس الجمهورية بناء على اقتراح من رئيس مجلس الوزراء كالمرسوم مثلا رقم 874 تاريخ 20 آذار 1944 الصادر عن الرئيس بشارة الخوري والقاضي بتقديم الساعة 60 دقيقة اعتبارا من الساعة 23 و59 دقيقة من تاريخ 31 آذار 1944. واستمرّ العمل بهذه الآلية القانونية لتعديل التوقيت المحلّي. لكن طبيعة المرسوم اختلفت إذ باتت المراسيم المتعلقة بهذا الموضوع تشير إلى صدوره بعد موافقة مجلس الوزراء كالمرسوم رقم 2886 تاريخ 30 تشرين الأول 1953 والمرسوم رقم 6868 تاريخ 20 حزيران 1961 وهو آخر مرسوم منشور في الجريدة الرسمية.

ومن الملاحظ أن جميع هذه المراسيم كانت تصدر من دون الإحالة إلى أي قانون أو نص تشريعي ما يعني أن تعديل التوقيت المحلي هي مسألة تنظيمية تتعلق بصلاحيات السلطة التنفيذية التي تمارسها مباشرة من دون تدخّل من المشترع. وقد باتت هذه الصلاحية تمارس اليوم بقرار من مجلس الوزراء من دون الحاجة إلى صدور مرسوم بذلك عن رئيس الجمهورية. وهو ما يعكسه آخر قرار في هذا الشأن والذي تشير إليه مذكرة أمين عام مجلس الوزراء أي القرار رقم 5 تاريخ 20/8/1998 وهذا ما ينسجم مع الدستور اللبناني بعد تعديله سنة 1990 إذ كرست المادة 65 منه انتقال السلطة التنظيمية من رئيس الجمهورية إلى مجلس الوزراء.

لكن المستغرب أن مذكرة أمين عام مجلس الوزراء تعلن تأجيل تطبيق قرار مجلس الوزراء رقم 5 استنادا إلى موافقة استثنائية صادرة عن رئيس الحكومة، أي أن هذا الأخير قرر منفردا الامتناع عن تطبيق قرار صريح اتخذته الحكومة المجتمعة أصولا، ما يشكل تعديا على الصلاحيات الدستورية للسلطة التنفيذية التي أناطها الدستور بمجلس الوزراء.

والأفدح لا يكمن فقط في صدور هذا القرار عن جهة غير مختصة لكن أيضا استناد هذا القرار على موافقة استثنائية هي بدورها مخالفة للدستور. فقد درجت العادة في لبنان منذ 2013 خلال وجود حكومة تقوم بتصريف الأعمال بصدور تعميم عن رئيس الحكومة المستقيلة يجيز فيه اتخاذ القرارات التي تحتاج إلى موافقة مجلس الوزراء دون اجتماع هذا الأخير من خلال الحصول فقط على ما بات يعرف “بموافقة استثائية” يعطيها كل من رئيسيْ الجمهورية والحكومة، أي أنّ هذا التعميم يكون قد استحدث آلية جديدة لاتخاذ القرارات لا سند دستوريّ لها واستبدل موافقة مجلس الوزراء بموافقة صادرة عن رئيسي الجمهورية والحكومة. وبالفعل قام الرئيس نجيب ميقاتي بإصدار التعميم رقم 17 تاريخ 21 أيار 2022 بعد اعتبار حكومته مستقيلة. وإذا كان من المتوقع أن نهاية ولاية رئيس الجمهورية ميشال عون ستؤدي إلى تعطيل العمل بآلية الموافقات الاستثنائية بسبب الفراغ في سدة الرئاسة، لكن المذكرة الحالية حول تأجيل العمل بالتوقيت الصيفي أظهرت أن رئيس الحكومة أصدر موافقة استثنائية في ظل غياب رئيس الجمهورية ما يشكل للمفارقة مخالفة للتعميم الذي أصدره هو سابقا. وهكذا يتبيّن لنا أنّ هذه المذكرة صدرت وفقا لقرار يخالف آلية الموافقات الاستثنائية المنصوص عليها في تعميم ميقاتي الصادر في أيار 2022 علما أن هذه الآلية هي بدورها مخالفة للدستور.

لا تكتفي هذه المذكرة بمصادرة صلاحيات مجلس الوزراء ومخالفة الدستور لكنها أيضا غير مفهومة من الناحية الدستورية لناحية أخرى. فآلية الموافقات الاستثنائية تمّ ابتداعها بذريعة عدم تمكن مجلس الوزراء من الانعقاد عندما تكون الحكومة مستقيلة وهو أمر لا يمكن التسليم به إطلاقا كما بينته الدراسة التي نشرتها المفكرة القانونية حول مفهوم تصريف الأعمال. لكن حتّى هذه الذريعة لا يمكن الركون إليها اليوم كون مجلس الوزراء اجتمع أكثر من مرة في ظلّ الحكومة الحالية المستقيلة لا بل أن الرئيس ميقاتي وجّه دعوة لانعقاد مجلس الوزراء نهار الاثنين المقبل في 27 آذار، ما يعني أنه كان بإمكان هذا الأخير النظر في هذه المسألة التي تدخل في صلب صلاحياته التنظيمية واتخاذ قرار التأجيل بنفسه.

تظهر الطريقة التي تم فيها اتخاذ هذا القرار مدى اعتباطية السلطة السياسية في لبنان واستخدامها لصلاحياتها من أجل تحقيق مصالح فئوية. فمن حديث تم تسريبه الهدف منه إظهار “الزعيم” بوصفه المدافع عن طائفته إلى تصريح زعيم مسيحي آخر تلقف هذه الفرصة الذهبية عندما اعتبر أن هذه “القصة ما بتنقبل ومعبرة كتير بمعانيها” كي يظهر أيضا بمظهر المدافع عن طائفته المظلومة والمهمشة، تستمر السلطة في استخدام أدواتها المعهودة لرشوة المجتمع وتقسيمه طائفيا وفقا لمعارك وهمية تختلقها من أجل إحكام سيطرتها على اللبنانيين. فإذا كان تأجيل العمل بالتوقيت الصيفي تمّ بهذه الطريقة الاعتباطية من دون أي اعتبار لتداعياته الاقتصادية والاجتماعية وتأثيره على العمل المنتظم للمؤسسات الخاصة، لكن زمن الانهيار الذي يعيشه لبنان على الصعد كافة لا يمكن تأجيله بهكذا ألاعيب تحريضية. فقررات السطة الحاكمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية باتت جميعها اعتباطية حتى زمنها بات زمنا اعتباطيا.

انشر المقال

متوفر من خلال:

سياسات عامة ، تشريعات وقوانين ، مرسوم ، لبنان ، مقالات ، دستور وانتخابات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني