تونس والنفوذ الإيطالي المتزايد في المنطقة: أية حدود للسيادة الوطنية؟


2023-03-22    |   

تونس والنفوذ الإيطالي المتزايد في المنطقة: أية حدود للسيادة الوطنية؟

“تونس مأهولة فعليا بالمهاجرين من جنوب الصحراء الذين اجتاحوا البلاد ويستعدّون للانطلاق إلى أوروبا”، وَردت هذه الجملة على لسان وزير الخارجية الإيطالي أنتونيو تاياني في مقابلة له مع صحيفة “إل جورنالي” الإيطاليّة، مؤكّدا تواصله اليومي مع نظيره التونسي بهدف إرسال مساعدات اقتصاديّة لمجابهة “الأزمة الماليّة الكبيرة التي تمرّ بها البلاد”. يُعلن هذا التصريح بذلك ما اجتهدت السلطات التونسيّة في إخفائه إعلاميّا في حملتها مؤخّرا ضد المهاجرين من بلدان إفريقيا جنوب الصحراء، تلك الحَملة التي بدأت من بيان الرئاسة المُغرق في استعمال المغالطات المنطقيّة حول السيادة الوطنيّة، ليتّضح في النهاية أن الإجراءات المتبّعة لم تكن إلا استجابة للضغوطات الأوروبية، والإيطالية منها خصوصا، في ملف الهجرة غير النظاميّة.

هذا التحوّل في وتيرة الاهتمام الإيطالي بمخرجات الأوضاع في تونس، ليس إلا حلقة ضمن رؤية استراتيجية متكاملة في علاقة الحكومة اليمينية الجديدة في إيطاليا ببلدان جنوب البحر الأبيض المتوسّط منذ تبوّؤ رئيسة الحكومة جيورجيا ميلوني المنصب في أواخر العام الماضي، حيث تشهد منطقة شمال إفريقيا بالأخصّ حراكا دبلوماسيّا إيطاليا قويّا وسط تراجع النفوذ الفرنسي التقليدي في المنطقة والطموح الإيطالي في تعويضه تحت مظلّة مشروع “ماتي”. وتسعى إيطاليا من خلال هذا المشروع الاستراتيجيّ إلى التصدّي لتنامي النفوذ الروسي والصيني في الفضاء الإفريقي “الذي ازداد كثيرا مع وجود عناصر واضحة مزعزعة للاستقرار” حسب تعبير ميلوني. 

وبالرغم من أن رئيسة الحكومة الإيطاليّة لم تقُم بزيارة رسميّة إلى تونس أسوة بالجزائر وليبيا، حيث اقتصرت الزيارات الرسميّة على وزيري الداخليّة والخارجيّة الإيطاليّين، إلا أن الملف التونسي ببعديه الاقتصادي والسياسي أساسا كان أحد العناصر المهمّة في زيارة ميلوني لبلدي الجوار، ممّا يدفع إلى التساؤل عن حقيقة الخطوات الإيطاليّة تجاه تونس في الفترة القادمة وطبيعة القراءة الإيطالية للمشهد التونسي حاليّا.

مشروع “إنريكو ماتي”، الاستثمار أداة للنفوذ السياسي

يَستوحي مشروع “ماتي” اسمه من أحد قادة الاقتصاد الإيطالي إنريكو ماتي، المستثمر الذي يحتلّ مكانة رمزيّة هامة على الصعيد المحلّي بتسويقه كقصّة نجاح إيطاليّة في المجال الطاقيّ عبر تأسيسه لشركة “إيني” التي نافست كبرى الشركات الغربيّة في ذات المجال. وتبعا لذلك، تطرح هذه الخطّة نفسها كبديل عن عدد من القوى ضمن الفضاء الإقليمي المجاور لإيطاليا وفي تناغم مع فكر التيار القوميّ الإيطالي المؤثر على دوائر الحكم حاليّا، والذي يعتبر الشمال الإفريقي ساحة استراتيجيّة لم تتمكّن إيطاليا بعد من استثمار نفوذها ضمنه بشكل مباشر.

تقوم خطّة “ماتي” على عدد من المحاور الرئيسيّة من بينها التعاون الطاقي، التعامل مع الهجرة غير النظامية ومواجهة النفوذ الروسي والصيني في شمال وغرب إفريقيا. وقد أكّدت ميلوني بوضوح أنّ المرحلة الأولى من الخطّة ستُركّز بشكل كبير على منطقة البحر المتوسّط و”اعتبار شمال إفريقيا أولويّة مطلقة” حسب تعبيرها. وما يستبطنه هذا المشروع بشكل أو بآخر، هو أن تلعب إيطاليا دور “دبلوماسية الوكالة” لقوى دوليّة بعينها مثل الولايات المتّحدة الأمريكيّة أو الاتّحاد الأوروبي في المنطقة، وهو ما عبّرت ميلوني عن قسم منه في شرحها لأهداف المشروع بالقول “إن المصلحة الاستراتيجية لأوروبا بأكملها تقتضي أن تكون أكثر حضورا في إفريقيا”. وغير بعيد عن ذلك، قامت إيطاليا بإزاحة الصين من مرتبة الشريك الاقتصادي الأوّل للجزائر في سنة 2022 عبر حجم مبادلات تجاريّة بلغ 16 مليار دولار، معظمها من الواردات الطاقيّة المتأتية من الجزائر، مع الاتفاق على زيادة حجم صادرات الغاز الطبيعي من الجزائر كي تصل إلى 28 مليار متر مكعّب سنويا في غضون سنة 2024. 

وقد شكّل مشروع “ماتي” الإطار الإستراتيجي الذي من خلاله انتظمت زيارات رئيسة الحكومة الإيطالية وعدد من المسؤولين إلى شمال إفريقيا، بدءا بقمة المناخ في مدينة “شرم الشيخ” المصريّة وصولا إلى الزيارتين الرسميّتين للجزائر وليبيا. وهي زيارات حملت عناوين الاستثمار الطاقي ومكافحة الهجرة غير النظامية بالخصوص. وضمن هذا الإطار تحديدا، بُرمِجَ عدد من هذه الزيارات قبل يومي 9 و10 فيفري الماضي، تاريخ انعقاد مجلس الاتحاد الأوروبي الذي خُصّصَ للتداول في موضوع الهجرة غير النظاميّة.

وتركّز عديد الانتقادات ضدّ مشروع “ماتي” باعتباره أداة للحكومة الإيطالية للتحايل على التزاماتها الإنسانية في ملف الهجرة، ونوعا من “الصيغة المرنة” للمقاربة الأمنية التي لطالما تمّ الانسياق إليها سابقا. فقد سبق لمجلس الوزراء الإيطالي أن صادق في 28 ديسمبر 2022 على مدوّنة سلوك جديدة في علاقة بسُفن الإغاثة الإنسانية غير الحكوميّة العاملة في مجال إنقاذ المهاجرين داخل البحر. تضع هذه المدونة عديد القيود المجحفة تجاه السفن، ومن بينها تنفيذ مهمّة إنقاذ واحدة مع إبلاغ السلطات والبقاء في ميناء آمن بعد إنهاء العمليّة، وهو شرط لا يمكن معه بقاء السفن داخل البحر لتنفيذ عدد من مهام الإنقاذ المتعدّدة والحفاظ على حياة عدد أكبر من المهاجرين. بل تصل العقوبات ضد المسؤولين عن السّفن التي لا تلتزم بهذه التعليمات إلى غرامات مالية مُجحفة وإمكانية مصادرة السّفُن، وقد أثار مشروع القانون المتعلّق بهذه المدوّنة انتقادات حادّة لعدد من المنظمات الدوليّة، قبل وأثناء عرضه على البرلمان الإيطالي بغرفتيه.

تحولات الموقف الإيطالي

أياما قليلة بعد بيان الرئاسة التونسية المثير للجدل حول وضعيّة المهاجرين غير النظاميين من بلدان جنوب الصحراء، تتالتْ التصريحات الرسميّة الإيطاليّة المتعلّقة بتقديم المساعدة لتونس مع المؤسسات الماليّة الدوليّة، وصندوق النقد الدولي أساسا، مما اعتبره الكثيرون مؤشرا قويّا على  ارتباط الإجراءات التعسفيّة التي قامت بها السلطات التونسية ضد المهاجرين، بتعليمات من الاتحاد الأوروبي وخصوصا إيطاليا. ويُعتبر تصريح وزير الخارجيّة الإيطالي أنطونيو تاياني، أحد أهم التصريحات من حيث الدلالة والتوقيت حول التخوّف الإيطالي من استمرار حالة عدم الإستقرار السياسي والاقتصادي في تونس، واعتباره الأزمات التي تمر بها البلاد بمثابة “برميل البارود” المهدّد بالانفجار، مع إشارته ضمن نفس التصريح إلى إمكانيّة إبرام اتفاقيات فرديّة مع عدد من الدول “لتشجيع إعادة المهاجرين غير النظاميين”، وهو في ما يبدو نفس الموضوع الذي طُرح في المكالمة الهاتفية التي جمعت جيورحيا ميلوني بنظيرتها التونسيّة يوم  01 مارس حيث أشارت المذكّرة المتعلقة باللقاء إلى “الحلول المتعلٌّقة بظاهرة الهجرة وفق مقاربة متكاملة” حسب البيان.

لا تزال طبيعة الاتفافات وملابساتها بين الطرفين الإيطالي والتونسي في ملف الهجرة غير النظاميّة والمساعدة الاقتصاديّة على قدر كبير من الغموض. فإشارة ميلوني لعودة التواصل مع السلطة في تونس، وطرح مشاريع التعاون والشراكة وسبل الوساطة مع المؤسسات الماليّة الدوليّة، ثمّ محاولة إيجاد قروض ومساعدات لتونس مع عدد من الأطراف المانحة (زيارة ميلوني مؤخرا إلى أبو ظبي وإمكانية التوسط في مساعدات مالية خليجية لتونس)، لا تُعلن عن العائد السياسي المُقابل من السلطات التونسية .بل من الواضح أنّ لهذه الخطوات الإيطالية المتسارعة قيودا موضوعيّة خطيرة على استقلاليّة القرار الوطني في نقيض مع الخطاب السيادويّ للسلطة الحاليّة، إذ تبادر إيطاليا من خلال ذلك إلى لعب دور الوسيط الرئيسي الذي يستثمر في عزلة المنظومة الحاكمة حاليّا على المستوى الدولي لفرض شروطه على المستويين الأمني والاقتصاديّ. وفي المقابل، لم تنجح الدبلوماسيّة التونسيّة في تطوير وبلورة مشاريع كبرى جديدة مع الطرف الإيطالي، إذ انحصرت مخرجات زيارة وزيري الخارجية والداخليّة الإيطاليين في شهر جانفي المنقضي إلى تونس في الجوانب الأمنيّة والحدّ من تدفقات الهجرة غير النظاميّة كشرط لدعم تونس لدى مؤسسات الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي وعدد من الدول الغربية (الولايات المتحدة أساسا).

سيطرة المقاربة الأمنية وقصور التعاون الاقتصادي

بالتوازي مع غياب الاستثمارات الإيطاليّة الجديدة ذات المستوى النوعيّ في تونس، أبرمت إيطاليا عددا من الاتفاقيات الاستراتيجيّة في المجال الاقتصاديّ مع الجزائر وليبيا، تضمّن إحداها اتفاقا تاريخيّا بين مؤسسة النفط الليبية وشركة “إيني” الإيطالية لتطوير حقلي غاز بحريين ليبيين بقيمة 8 مليار دولار وتخصيص ثلث الإنتاج للتصدير إلى إيطاليا، وهي خطوة لتعويض إمدادات الغاز الروسي. في حين طُرِحت فكرة إحياء الخط الطاقي بين الجزائر وجزيرة “ساردينيا” الإيطاليّة لنقل الغاز ومجموعة من المواد الطاقيّة الأخرى مثل الهيدروجين والأمونياك والطاقة الكهربائية، وهو مشروع يُهدّد في حال تنفيذه مصير خط  غاز “ترانسماد” الحالي الذي يمرّ عبر الأراضي التونسية.

تعكس مختلف هذه الاستثمارات الاستراتيجية مع دول الجوار وغياب صيغة اقتصادية واضحة للتعاون مع تونس، نوعا من الحذر الإيطالي في التعامل مع السّلطة إلى حدود توضّح الرؤية بخصوص الوضع السياسيّ خلال المرحلة المقبلة، وهو توجّس ترجمته تصريحات رئيسة الحكومة الإيطالية في لقائها مع رئيس الجمهوريّة الجزائري حول “مختلف السيناريوهات المطروحة في تونس”. الرهان الإيطالي في ليبيا كما في تونس مُنصبّ على تحقيق قدر معيّن من الاستقرار بما يؤدي إلى الحدّ من الهجرة غير النظاميّة إلى السواحل الإيطالية وتأمين الإمدادات الطاقيّة، غير أنّ وسائل ذلك تعتمد على المقاربة الأمنيّة، رغم الوعود الإيطاليّة التي لم يتمّ تجسيمها بعد حول استيعاب عدد من المهاجرين النظاميّين.

وفي خضمّ كلّ ذلك، تعتري الدبلوماسيّة التونسية أوجه قصور متعددة في الدفاع عن المصالح الاستراتيجية للبلاد، بل ظلّ انكبابها متواصلا للحدّ من تداعيات بعض المآزق التي تسبَّب فيها الخطاب والسلوك السياسي الاعتباطي للسلطة الحاليّة. فمن الملاحظ أن إيطاليا تتعامل مع الملفّ التونسي الحالي بما يشبه “المُعضلة الأمنيّة”، وسط ضيق هامش المناورة لدى السلطة السياسية في تونس، التي لم تُبادر بشكل جدّي إلى انتزاع مكاسب جديّة أثناء التفاوض السياسي مع الطرف الإيطالي، بل بقيت وعود المساعدة الإقتصادية الإيطالية ضمن أطر تعويميّة غير قابلة للضبط والتحديد.

انشر المقال

متوفر من خلال:

البرلمان ، قرارات إدارية ، لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، مقالات ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني