تطبيق قضائي جديد لاتفاقية مكافحة الفساد بالمغرب: اعتماد التسجيلات السمعية البصرية كدليل أمام القضاء رغم غياب الاذن القضائي


2023-04-02    |   

تطبيق قضائي جديد لاتفاقية مكافحة الفساد بالمغرب: اعتماد التسجيلات السمعية البصرية كدليل أمام القضاء رغم غياب الاذن القضائي

أصدر القاضي عبد الرزاق الجباري رئيس غرفة التلبس بالمحكمة الابتدائية بالقنيطرة حكما[1] قضى بإدانة رئيس جماعة ونائبه من أجل الارتشاء، ومعاقبتهما بالحبس النافذ ثلاث سنوات ونصف. وكان لافتا في الحكم الذي تنشره المفكرة القانونية استناده على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد في إحدى التطبيقات القضائية النادرة لها أمام القضاء المغربي.

ملخص القضية

تعود فصول القضية إلى شهر سبتمبر من سنة 2022 حينما تقدم أحد الأشخاص بشكاية إلى الشرطة القضائية بالقنيطرة في مواجهة رئيس “بلدية” يعرض فيها بأنه ساعد هذا الأخير خلال الحملة الانتخابية وحينما فاز بمنصب الرئيس بدأ يلمّح له برغبته في جمع واسترجاع ما تمّ صرفه في الحملة المذكورة من أموال. كما طلب منه وبشكل صريح مبلغ 20.000,00 درهم -تعادل حوالي 2000 دولار- مقابل تسليمه بقعة أرضية تخصّ زوجته. وأضاف بأنه ولاختبار المتهم في هذه المسألة اقترح عليه فكرة مفادها أن مجموعة من الساكنة في حاجة إلى تمكينهم من بقعهم الأرضية بعد هدم مساكنهم في إطار برنامج إعادة هيكلة السكن غير اللائق، فصرح له رئيس البلدية، بأن كل من يرغب في الاستفادة من البقعة الأرضية، عليه أن يسلم له أو لنائبه مبلغ 20.000,00 درهم كرشوة. وأردف المشتكي في شكايته، بأنه، بعدما قرّر وضع حدّ لهذه التصرفات، اقتنى كاميرا صغيرة وهاتفا ذكيا قصد توثيق عمليات الابتزاز والرشوة التي يقوم بها المتهمان.

فالتقى، مع مساعد رئيس البلدية، وسلمه مبلغ 1.000,00 درهم كتسبيق على ملف إحدى البقع الأرضية، وفي المناسبة الثانية سلمه مبلغ 2.000,00 درهم بعدما تظاهر له على أساس أن هذه المبالغ تسلمها من أحد الأشخاص الذي يرغب في الاستفادة من بقعة أرضية. ثم التقى، في المرة الموالية، مع رئيس البلدية حيث سلمه مبلغا ماليا قدره 1.000,00 درهم بعدما كلفه بالوساطة بينه وبين الساكنة التي ترغب في الاستفادة من البقع الأرضية. والتقاه، ثانيا، بمكتبه بمقر الجماعة، وسلمه حينها مبلغ 1.000,00 درهم على أساس أنه تسبيق من أحد المستفيدين. كما قام بتوثيق هذه العمليات صوتا وصورة، مدليا بقرص مدمج، يتضمن مقاطع مصورة بالصوت والصورة توثق لما جاء في شكايته من وقائع تسليمه للمبالغ المذكورة للمتهمين والمفاوضات التي تمت بينهما بهذا الخصوص.

وعند الاستماع الى المشتكى بهما، أكّدا أنهما بالفعل من يظهران في أشرطة الفيديو المدلى بها من طرف المشتكي، وأن حوار كل واحد منهما مع هذا الأخير كان بغاية استدراجه لأداء ما بذمّته تجاههما، من ديون سابقة، نافين تلقّيهم لأيّ رشوة.

قررت النيابة العامة إحالة المتهمين على جلسة الحكم في حالة اعتقال، وأثناء المحاكمة أثار دفاعهما عدم مشروعيّة أشرطة الفيديو المعتمدة في متابعة المتهمين كوسيلة إثبات ضدهما، لأنها غير قانونية، لأن المشتكي سجّلهما داخل سيارته ومن دون موافقة المتهمين أو علمهما، وهو ما يعد مجرما من الناحية القانونية.

موقف المحكمة

قررت المحكمة ردّ الدفع المقدم اليها بخصوص بطلان التسجيلات المدلى بها معتمدة على العلل التالية:

– أن المصلحة المراد حمايتها جنائيا بمقتضى الفصل 447-1 من القانون الجنائي[2]، هي خصوصية الأقوال والمعلومات الصادرة بشكل خاصّ أو سرّي عن الأفراد، إما بمنع التقاطها أو تسجيلها بغرض الاحتفاظ بمضمونها عند غير من صدرت عنه، وإما بمنع بثها أو توزيعها بين الأغيار من عموم الناس بعد ذلك الالتقاط أو التسجيل.

– أن حماية خصوصية تلك الأقوال والمعلومات الصادرة بشكل خاصّ أو سرّي عن الأفراد تسقط، من وجهة نظر المحكمة، كلما استُجمعتْ ثلاثة شروط متضافرة فيما بينها، وهي: أن يتم التقاطها أو تسجيلها من قبل من كان طرفا فيها وليس الغير، وأن يكون ذلك بهدف تقديمها إلى القضاء كدليل قضائي لبسط سلطة هذا الأخير عليه، ثم أن تكون تلك الأقوال والمعلومات في ذاتها فاقدة للشرعية بمخالفتها للقانون.

– أن البند “1” من المادة 13 من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، تؤيد هذا المنحى التفسيري، حيث كرست ضرورة احترام وتعزيز وحماية حرية الأفراد والجماعات في التماس المعلومات المتعلقة بالفساد وتلقيها ونشرها وتعميمها، شريطة مراعاة حقوق الآخرين وسمعتهم، وحماية الأمن الوطني والنظام العام، وصون صحة الناس وأخلاقهم.

– أنّ المشتكي قام بتسجيل أشرطة بالصوت والصورة يوثق فيها محادثته مع المتهمين، وهما يتسلمان منه رشوة عبارة عن مبالغ مالية، وكان هدفه في ذلك هو تقديم تلك التسجيلات إلى القضاء كدليل إثبات على فعلهما، من دون أي مساس بحقوقهما التي يضمنها هذا الأخير، أو بمتطلبات حماية الأمن والنظام العامين وأخلاق الناس وصحتهم؛

وعليه خلصت المحكمة إلى أن التسجيلات المدلى بها تبقى مشروعة وموافقة للشرعية القانونية، وغير مخالفة للقانون الجنائي.

من جهة أخرى اعتبرت المحكمة أن الأركان التكوينية لجنحة الارتشاء قائمة رغم إنكار المتهمين للمنسوب إليهما، معتمدة في قرارها على مجموعة قرائن أهمها:

  •  صراحة مضمون ما جاء في محادثات المتهمين مع المشتكي وفق ما هو موثّق في أشرطة الفيديو المُدلى بها ضمن وثائق الملف، والتي اعترفا، خلال مختلف أطوار المحاكمة، بأنّهما اللذين يظهران في تلك الأشرطة، وأنهما بالفعل تسلّما من المشتكي مبالغ مالية، مجموع قدرها بالنسبة لرئيس البلدية مبلغ 2.000,00 درهم، وبالنسبة لنائب الرئيس مبلغ 3.000,00 درهم. 
  •  سياق تسليم هذه المبالغ إلى المتهمين كتسبيق مقابل الدفع في اتجاه المصادقة على استفادة بعض ساكنة البلدية من بقع أرضية بعد هدم مساكنهم المبنية خارج القانون وهو ما يبدو في الحوار الذي دار بين المتهمين وبين المشتكي بحسب التسجيلات المدلى بها والتي يستشفّ منها أن المبالغ المالية سلّمت على سبيل الرشوة.

وتأسيسا على هذه المعطيات، قضتْ المحكمة بإدانة المتهمين من أجل المنسوب إليهما، والحكم على كل واحد منهما بثلاث سنوات ونصف حبسا نافذا، وغرامة مالية نافذة قدرها (50.000,00) درهم، وبحرمانهما من حقهما الوطني في أن يكونا ناخبين أو منتخبين لمدة عشر سنوات، وبعدم قبول الدعوى المدنية.

تعليق على الحكم

يعتبر هذا الحكم من بين التطبيقات القضائية النادرة لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد والتي صادق عليها المغرب سنة 2007، وكان لافتا أنّه تضمن اجتهادا شرّع فيه التقاط أقوال أو تسجيلات للأشخاص في فضاء خاص بشكل سرّي من دون إذن قضائي بهدف تقديمها كدليل على ارتكاب جرم فساد أمام القضاء. فرغم عموميّة الفصل 447-1 من القانون الجنائي والذي لا يستثني المبلّغين من نطاق التجريم مما جعله أحد العراقيل التي تؤدي إلى تجريم المبلغين وكاشفي الفساد، إلا أن المحكمة أقرّت اجتهادا جديدا يقوم على التوفيق بين احترام حق الأفراد في الخصوصية من جهة وتشجيع التبليغ عن الفساد وحماية المبلغين من جهة أخرى.

أقر الحكم أن حماية خصوصية الأقوال والمعلومات الصادرة بشكل خاص أو سري المنصوص عليها في الفصل 447-1 من القانون الجنائي لا تسقط إلا بتوافر 3 شروط تتمثل فيما يلي:

– إذا تم تسجيلها ممن كان طرفا فيها؛

– إذا كان الغرض من هذا التسجيل تقديمه كدليل أمام القضاء؛

– أن تكون الأقوال والمعلومات الصادرة بشكل خاص أو سري فاقدة للشرعية في ذاتها ومخالفة للقانون.

وخلصت المحكمة تبعا لمطابقة هذه الشروط مع وقائع الملف إلى أن تسجيل المتّهمين بالصوت والصورة من طرف المشتكي وهما يتسلّمان منه رشوة مالية بهدف تقديم هذا التسجيل إلى القضاء، ولو من دون موافقته، يعتبر مشروعا ومنسجما حتى مع البند 1 من المادة 13 من اتفاقية مكافحة الفساد.   

 من جهة ثانية قضت المحكمة بحرمان المتّهمين من أن يكونا ناخبين أو منتخبين لمدة عشر سنوات، طبقا للفصل 256 من القانون الجنائي، نظرا لارتباط الأفعال المدانين من أجلها بمشاركتهما في الانتخابات العامة.

من جهة ثالثة قضت المحكمة بعدم قبول الدعوى المدنية التابعة، لأنّ فعل الارتشاء يلحق الضرر بمناخ الثقة العامة في موظفي الدولة ومؤسساتها، وأن المشتكي لم يتضرّر بشكل مباشر وشخصي طبقا للمادة 7 من قانون المسطرة الجنائية.

وتجدر الإشارة الى أن عددا من المنظمات الحقوقية بالمغرب انتقدت تعديلات القانون الجنائي بتجريم التقاط الصور أو التسجيلات للأفراد في فضاء خاص حيث استعملت هذه المقتضيات من أجل تجريم المبلغين وفاضحي الفساد، وهو ما جعل رئاسة النيابة العامة تصدر منشورا يوضح نطاق التصوير والتسجيل المباح قصد تقديمه كدليل أمام القضاء.

للاطّلاع على الحكم، إضغط/ي هنا

مواضيع ذات صلة

اتفاقية مكافحة الفساد في قرار قضائي مغربي: هيئة المحامين من المصالح ذات النفع العام

النيابة العامة المغربية توضح نطاق التصوير المسموح به لتقديم دليل إلى القضاء

دورية لمنع تصوير عناصر الشرطة في المغرب: هكذا تم تجريد فاضحي الفساد من إحدى أدواتهم

ملاحظات مجلس السلطة القضائية حول مقترح الوقاية من الرشوة في المغرب

حتى لا نعطل آليات مكافحة الإثراء غير المشروع في المغرب

انتهاء قضية تزوير إختبارات الإنتساب لنقابة محامي طرابلس: تطبيق نادر لاتفاقية مكافحة الفساد صوناً للمستقبل

ماذا تضمّنت اقتراحات مكافحة الفساد؟ مشروع قانون الإثراء غير المشروع الموعود الغائب الأكبر (جلسة تشريعية نيسان 2020)

مكافحة الفساد في تشريعات تونس ما بعد 2011: 1- نحو ترشيد السياسات العامة

مكافحة الفساد في تشريعات تونس ما بعد 2011: 2- تشريعات باهرة لحصاد باهت

مكافحة الفساد في تشريعات تونس ما بعد 2011: 3- كيف قارب المشرّع الإطار المؤسساتي لمكافحة الفساد؟



[1]– حكـم عـدد المحكمة الابتدائية بالقنيطرة في ملف جنحي تلبسي رقم: 1832-2103-22 صادر بتاريـخ: 07-02-2023، غير منشور.

[2] ينص الفصل 447-1 من القانون الجنائي على ما يلي: “يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات وغرامة من 2.000 إلى 20.000 درهم، كل من قام عمدا، وبأي وسيلة بما في ذلك الأنظمة المعلوماتية، بالتقاط أو تسجيل أو بث أو توزيع أقوال أو معلومات صادرة بشكل خاص أو سري، دون موافقة صاحبها”.

انشر المقال



متوفر من خلال:

قضاء ، قرارات قضائية ، مقالات ، المغرب ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني