تدابير تحكّم القصر في المعلومة في تونس


2021-08-23    |   

تدابير تحكّم القصر في المعلومة في تونس
(رويترز)

منذ إعلان الرئيس التونسي قيس سعيد في 25 جويلية 2021 عن اتّخاذ عددٍ من التّدابير الاستثنائية، برزتْ الكثير من التأويلات والآراء والمعطيات الزائفة و”التسريبات” على حساب المعطيّات الصحيحة. كانتْ معظم المحطّات التلفزيونية المحلية خارج الأحداث، واكبتْها بشكل متأخّر، وعندما أرادت الالتحاق بها أنتجت مضامين إعلامية لا تخلو من الهشاشة الإخبارية والتفسيرية، وقائمة في جزء كبير منها على الدعاية.

هذه المعالجة الإعلامية انتقدها مجلس الصحافة في بيانه الأخير، مشيرا إلى اكتفاء المؤسسات الإعلامية بالنقل الجاهز دون الأخذ بعين الاعتبار أهمية التحرّي والتحليل والتفسير. ولاحظ المجلس “انخراط بعض المؤسسات الإعلامية في الاستقطاب السياسي والإيديولوجي بالاقتصار على رواية واحدة للأحداث والتعليق عليها من وجهة نظر واحدة، وبإعطاء بعض وسائل الإعلام الفرصة لعدد من المعلقين لممارسة دور دعائي لفائدة فاعلين سياسيين”، إضافة إلى “نشر الأخبار دون التحقّق من أصالتها وغياب التوازن أحيانا في نقل مختلف المواقف”.

رغم أن إعلان التدابير الاستثنائية كان يتطلّب الكثير من التوضيحات الرسمية خاصة بعد الجدل والمخاوف التي أثارتها، إلا أن رئاسة الجمهورية حافظت على سياستها الاتصالية القديمة، واختارت الاستمرار في مخاطبة الجمهور ووسائل الإعلام عبر صفحتها الرسمية بموقع فايسبوك. وقد سبق أن وصفت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، في تقريرها السنوي، هذه السياسة الاتصالية بـ”صمت القصور”. فقد لاحظ التقرير المذكور أن القصر الرئاسيّ في عهد الرئيس سعيد اتّسم بـ “الانغلاق أمام الإعلام والصحفيين. فلم تعقد مؤسسة الرئاسة ندوات صحفية ونقاط إعلامية منذ انتخابه. واقتصر تعاملها مع الصحفيين ووسائل الاعلام والفضاء العام من خلال نشر فيديوهات النشاط الرئاسي وتصريحات رئيس الدولة على صفحة الرئاسة في فايسبوك، دون فسح المجال أمام الصحفيين ووسائل الإعلام لدخول القصر ولقاء المسؤولين والحديث معهم والحصول على المعلومة من مصدرها أو حضور مسؤولين من الرئاسة في البرامج الإعلامية أو حتى الإدلاء بتصريحات والإجابة عن التساؤلات التي تشغل الرأي العام”.[1]

الرئاسة تُعلّق ولا تُخبِر

منذ 25 جويلية الفارط، تحوّلت الصّفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية إلى منصّة وحيدة متحكّمة في إنتاج المضامين الإعلامية ونشر البلاغات والترويج للأنشطة الرئاسيّة. وفي ظلّ غياب النقاط الإعلامية والندوات الصحفية أصبحت المداخلات المرتجلة للرئيس سعيد مصدرا وحيدا لمحاولة فهم اتجاهات الحكم في تونس والخطوات المستقبلية المحتملة، وعادةً لا يستعرض الرئيس معطيات واضحة بخصوص التدابير المزمع اتخاذها وإنما يكتفي بإصدار تعليقات عامّة على هامش الزيارات الميدانية التي يقوم بها أو خلال استضافة بعض الشخصيات المحلية والأجنبية.

ساهم هذا الخيار الاتصالي في توسيع رقعة الغموض، خاصة وأن مداخلات الرئيس التي أصبحت جسرا وحيدا للتواصل مع قصر قرطاج لا تشكّل مصدراً إخبارياً بقدر ما تجسّد رسائل سياسية عامة لا تخلو من الحمولة الدعائية. في هذا السياق أشارت خولة شبح، ممثلة عن وحدة الرصد بمركز السلامة المهنية التابع لنقابة الصحفيين، للمفكرة القانونية إلى أن “هناك مشكلة مع الرئاسة باعتبار أنها لا تملك استراتيجيا اتصالية واضحة، إذ أن الاكتفاء بالبلاغات والبيانات ومقاطع الفيديو دون التصريح المباشر ساهم في غياب المعطيات الإضافية، مما جعل الصحفيين يتوجّهون إلى الخبراء من أجل تعويض غموض القرارات والتصريحات، وهو ما جعل الآراء تهيمن على الأخبار الدّقيقة، لذلك على الرئاسة مراجعة خطتها الاتصالية من أجل تفادي الغموض والإشاعات”.

منذ الإعلان عن التدابير الاستثنائية، هيْمن امتناع المسؤولين عن الادلاء بتصريحات لوسائل الاعلام. ولم تعيّن رئاسة الجمهورية متحدثين باسمها لتوضيح الإجراءات المتخذة. وهو ما جعل الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري والهياكل الصحفية تطالب في بلاغ مشترك بـ”ضرورة إحداث آلية تواصل بين الهياكل المهنية الممثلة لقطاع الإعلام مع رئاسة الجمهورية”. وفي السياق نفسه، لاحظ تقرير شهر جويلية 2021 الصادر عن وحدة الرصد بمركز السلامة المهنية أنه تمّ حجب معطيات عن بعض الصحفيين على غرار الصحفية عايدة الهيشري العاملة بوكالة تونس أفريقيا للأنباء، والتي رفض ملحق برئاسة الجمهورية إفادتها بمعطيات توضح علاقة رئاسة الجمهورية بمنع ضيوف برنامج “بعد 25 جويلية” من دخول مقر التلفزة التونسية العمومية، بحجّة أنه لا يعيد الإدلاء بتصريحات سبق وأن قدّمها لمؤسسة إعلامية أخرى.[2]

الرهان الاتصالي على الميديا الاجتماعية

يلوح أن السياسة الاتصالية للرئيس قيس سعيد منسجمة مع تصورّه لعلاقة الوسائط الإعلامية بالجمهور أو الشعب. فمنذ وصوله إلى قصر قرطاج، حاول ترسيخ ممارسة اتصالية يحرّكها المنطق القائل بأن القائد السياسي بإمكانه مخاطبة الشعب مباشرة عبر الزيارات الميدانية أو عبر صفحة الفايسبوك، دون الحاجة إلى الوسائط الإعلامية الممأسسة على غرار المحطات التلفزية والإذاعية والصحف والمجلات. وهذه السياسة الاتصالية تسمح للرئيس بأن يقول ما يريد للجمهور من دون المرور بالوسيط الإعلامي الذي يخلق حالة تناظر وسجال تقلّص بشكل أو بآخر من فاعلية الخطاب السياسي الأحادي الجاهز. حرص أيضا قيس سعيد على صناعة مشهدية اتصالية مُلغزة ومثيرة، من خلال استعراض بعض الصور التاريخية أو استخدام الألفاظ العربية الغريبة والنادرة، وقد لاقت هذه المشهدية رواجا على مواقع التواصل الاجتماعي وفي معجم التداول اليومي أيضا.

منذ 25 جويلية نشطتْ الكثير من الصفحات المناصرة للرئيس قيس سعيد على موقع فايسبوك، وقد ازدحمت بالمنشورات الممجّدة لصورة الرئيس والمعادية لخصومه أيضا. ويبدو أن هذه الفعالية التي ولّدتْها الميديا الاجتماعية تتماهى إلى حدّ بعيد مع السياسة الاتصالية للرئاسة، لأنها تخلق جمهورا غير مرئي، سهل الاستمالة ويتحرك في معظمه من داخل الانفعالات، وذي قابلية كبيرة لتصديق الأخبار غير الدقيقة والمضللة. ويأتي الرهان على الميديا الاجتماعية -رغم انخراطها في إعادة إنتاج ثقافة الأفراد القائمة على المصادرة وعدم القبول بالتناظر والأفكار المخالفة- على حساب إمكانية التأسيس لإعلام ديمقراطي وحرّ يحترم مبدأ المواطنة، وينتج أفضية نقاش عام منسجمة مع قيم العدالة والمساواة.

الإعلام ومستقبل الديمقراطية

كانت التغطية الإعلامية المحلية لأحداث 25 جويلية، خاصة في المحطات التلفزية، دليلا على غياب خطوط تحريرية مستقلة تنظم علاقة المؤسسات الإعلامية بالشأن السياسي. في الوقت الذي كانت فيه المحطات الأجنبية تسلّط عدساتها على تونس، كانت القنوات التلفزية المحلية تبثّ أمسيات ترفيهية ومسلسلات تركية وشرائط وثائقية قديمة. وبعد الاستفاقة من صدمة الحدث، حاول بعضها الالتحاق بالزمن السياسي الجديد من موقع دعائي للإجراءات الرئاسية، وحافظ بعضها الآخر على ارتباطاته الحزبية القديمة. عموما لم تكن المحطات التلفزية بالخصوص جاهزة لإنتاج مضامين إعلامية ذات جودة إخبارية، وقادرة على منح إضاءات تفسيرية وتحليلية تأخذ بعين الاعتبار قيم الحرية والتعددية.

على الميدان، تعرض يوم 25 جويلية 2021 العديد من الصحفيين إلى انتهاكات متنوعة[3]، سواء من قبل قوات البوليس أو أنصار الرئيس قيس سعيد أو أنصار حركة النهضة، وداخل بعض الغرف التحريرية طغتْ الانتظارية والرقابة الذاتية والبحث عن مخارج للتكيّف مع الوضع الجديد. حتى أن بعض القنوات التلفزية الخاصة استعملت شعار “الشعب ينتفض والرئيس يستجيب” كخلفية لبرامجها السياسية. وهذه المعالجة الإعلامية تشير إلى أن جزءاً لا بأس به من قطاع الإعلام –خاصة التلفزي- سيواجه الوضع الجديد وهو يسحب وراءه إرث العشر سنوات الفائتة، التي تميزت ببروز قوي للاشتباك بين الاعلام والمال والسلطة، ولذلك يلاحظ وجود نزعة إعلامية جاهزة للارتباط بالأفق السلطوي الجديد وعرض خدمات دعائية على الرئاسة إلى أن تظهر ملامح اتجاه الأوضاع. في هذا السياق أفادت اعتدال مجبري رئيسة مكتب مجلس الصحافة للمفكرة القانونية أن “الإعلام يجب أن يكون مشروعا وطنيا وحان الوقت لتقييم العشر سنوات الماضية والخروج بتوجهات كبرى لإصلاح الاعلام مع كل الفاعلين”. وأضافت مجبري أن “مجلس الصحافة بوصفه ضمانة لدعم جودة العمل الصحفي وحريته وضمان حق الجمهور في الحصول على المعلومة والتشكي أيضا، يفتقد إلى حد الآن للموارد للقيام بمهامه”. وأشارت أيضا إلى أنه لا توجد أية اتصالات برئاسة الجمهورية. ويُذكر أن مجلس الصحافة تم الإعلان عن إنشائه أواسط شهر سبتمبر سنة 2020، ويضم ممثلين عن النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين والجامعة العامة لمديري الصحف والنقابة العامة للإعلام التابعة للاتحاد العام التونسي للشغل.

  1. النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، التقرير السنوي لواقع الحريات الصحفية في تونس، 3 ماي 2021.
  2. وحدة رصد وتوثيق الانتهاكات الواقعة على الصحفيين، تقرير شهر جويلية 2021.
  3. انظر تقرير وحدة الرصد المذكور سابقا

لقراءة المقال باللغة الانجليزية اضغطوا هنا

نشر هذا المقال في العدد 23 من مجلة المفكرة القانونية – تونس. لقراء مقالات العدد اضغطوا على الرابط ادناه

زلزال ديمقراطيّة فتيّة

انشر المقال

متوفر من خلال:

حريات ، عمل ونقابات ، مؤسسات إعلامية ، أحزاب سياسية ، حريات عامة والوصول الى المعلومات ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني