من تاريخ الريع في تونس: جذور شبكات النفوذ المالي في القرن التاسع عشر


2022-02-02    |   

من تاريخ الريع في تونس: جذور شبكات النفوذ المالي في القرن التاسع عشر
القايد والسلطات اإلدارية لجزيرة جربة - 1888

في سياقاتنا السياسية الحالية، دائماً ما يُستحضَر زمن ما قبل الاستعمار الفرنسي كمحلّ شاهد عن الوضع الاقتصادي والاجتماعي الراهن. تلك المرحلة الفارقة في تاريخ تونس الحديث، وما واكبها من زخم في السياسة والمجتمع، ما زالت رغم كثرة القراءات التي أحاطت بها تتّسع لمزيد من النقاش والتحليل للأفكار والأشخاص بحثاً عن حدّ معقول من الحقيقة. ولئن غلب التوظيف السياسي على دراسة تلك المرحلة من قِبل التيّار المُنافح عن الدولة الوطنية، باعتبار أنّ تلك الفترة قد شكّلت ما يشبه “عصر الأنوار” لتجربة التحديث التونسية، وعلامة على رياديّتها في محيطها الإقليمي، تجتهد محاولات أخرى في دراسة تلك التجربة بعين الناقد لما تواضعت عليه السرديّة الرسمية وأداتها الأكاديمية الرافدة. ومن ضمن الدراسات الجدّية في هذا الموضوع دراسة الباحثة الفرنسية “بياتريس هيبو” بعنوان “الإصلاح، أهمّ سرديّات تونس المعاصرة”، التي ركّزت على ما لحديث الإصلاح السياسي من حدود. ثمّ جاءت دراسات أخرى تناولتْ دور شخصيّات ذلك العصر من خلال الوثائق الأرشيفية والمراسلات لتنسيب نصيبها من الحقيقة.

ويمكنُ هنا الإشارة تحديداً إلى كتابَيْن صدرا حديثاً وتناولا شخصيَّتَيْن محوريَّتَيْن في تلك الفترة هما “مصطفى خزندار: دراسة بيوغرافية واقتصادية” للمؤرّخ “عادل الكوكي”، و”خير الدين التونسي بين الحقيقة وظلّها، حفريّات في مدوّنة الرسائل، الجزء الأوّل” للباحث “عبد الحقّ الزموري”. كلا المرجعَيْن يحاول دراسة المرحلة من منظور جديد. المرجع الأوّل يشكّل مراجعة نقدية لما رسخ في الأذهان عن صورة الوزير الأكبر مصطفى خزندار ومناوراته السياسية بين القوى الأوروبية، التي اعتبر الكوكي أنّها أرستْ استراتيجيّة المساومة والحفاظ على هامش تحرُّك سياسي بين المؤثّرين الدوليّين. أمّا المرجع الثاني فيشكّل مراجعة نقدية  للوزير الأكبر في عهد محمد الصادق باي، “خير الدين التونسي”، وهو يركّز على علاقة هذه الشخصيّة بآل روتشيلد الذين كان لهم دور كبير في  سياسة التداين في البلاد التونسية وعلى مشروعه الإصلاحي، الذي تجنّب المسّ بشبكات الأرستقراطيّة التونسية بشكل جذري. بل ذهب الزموري إلى أنّ خير الدين نفسه كان أحد المستفيدين المباشرين من الاقتصاد الريعي. بين مختلف القراءات، لا يزال التاريخ الاقتصادي التونسي خلال القرن التاسع عشر في حاجة إلى الاستجلاء. فلئن نجحتْ بعض الدراسات في فكّ ترابطات هذا الاقتصاد خارجياً، فإنّ الفهم الحقيقي للهيمنة الاقتصادية داخلياً لا يزال يحتاج إلى عمليّة تفكيك منهجي رصينة.

منصب”القايد” مثال حيّ على الاقتصاد الريعي في القرن 19

تشكّلت الطبقات الاجتماعيّة حول النموذج الريعي على اختلاف أصولها بين الجاليات الأجنبية أو النخب المحليّة. وكانت فئة القُيّاد إحدى أكثر الفئات المُنخرطة بشكل كبير في اقتصاد الريع على الصعيد المحلّي. فالقايد كان بحكم منصبه المشرف على الإدارة العامّة وحفظ الأمن في المجال الترابي الذي يقع ضمن مشمُولاته. وقد أدّى العرف الجاري العمل به قبل زمن أحمد باي إلى أن يتحصّل القايد على وظيفته بما يُشبه اللزمة التي يتعهّد فيها بدفع إتاوات للباي. ولكن أحمد باي ألغى ذلك العرف ليُباشر القايد وظيفته بطريقة مجّانية. لم تكُن هذه الطريقة التي أُريدَ بها الإصلاح إلّا باباً آخر من أبواب الفساد. فقد استغلّ الوزير الأكبر “مصطفى خزندار” هذا الوضع الجديد كي يقوم ببيع الوظيفة إلى القُيّاد مقابل مجموعة من الهدايا، لا بل اتّجه إلى تسعير المناصب وبيعها لمَن يدفع الثمن الأعلى. وفي بعض الأحيان، لم يألُ الوزير الأكبر جهداً في تعيين قايدَيْن على نفس المنطقة حينما كانت تعوزُه الحاجة إلى الموارد الماليّة. كان القُيّاد بذلك إحدى الحلقات المنتظمة للاقتصاد الريعي المحلّي. فلكلّ “قايد” سلطة مطلقة في عمليّات استخلاص الضرائب والرسوم، حتّى أنّ بعضهم ابتكر عديد الطّرق لمضاعفة المبالغ المستخلصة. وهو ما جعل بعض العائلات تحتكر منصب القايد في مناطق معيّنة لفترات طويلة مثل عائلة “بن عيّاد” في جربة وعائلة ” الجلّولي” في صفاقس وعائلة “بن ساسي” في الجريد. كما أخذ بعض المماليك منصب القايد في بعض المناطق الغنية، مثل الجنرال فرحات في الكاف ومحمّد خزندار الذي حافظ على قيادة الساحل لمدّة ناهزت الأربعين عاماً.

كان القيّاد إحدى الحلقات المنتظمة للاقتصاد الريعي المحلّي.

يُعتبر “محمود بن عيّاد” المثال الأبرز لما يمكن أن يصله “القايد” في الاقتصاد الريعي. فقد هرّب القايد مبلغاً يناهز الستين مليون فرنك إلى فرنسا قبل فراره إلى هناك في سنة 1852 وهو ما يُعادل مستخلصات البلاد التونسيّة لمدّة خمس سنوات. يصف المؤرِّخ الفرنسي “جان غانياج” في كتابه “أصول الحماية الفرنسية على تونس” إحدى طرق وصول محمود بن عيّاد إلى هذه الثروة فيقول: “وكان على بن عيّاد بوصفه مدير مخازن الدولة، أن يودع بها الحبوب، وغير ذلك من الموادّ، ويتولّى تموين الجيش والعائلة المالكة. فإذا أُعلِم أنّ تلك المخازن خاوية، يسلّمه الخزندار بدون أيّة مراقبة تذاكر يبتاع بها حبوباً، فكان بن عيّاد يُتاجر بتلك التذاكر ويحتفظ بمرابيحها ويموّن الجيش من حبوب الحكومة التي احتفظ بها لنفسه عوض تسليمها للمخازن”. وقد بنى بن عيّاد ثروته من خلال استغلال 76 لزمة تشمل الموارد الرئيسية للإيالة، ومن بينها التبغ والملح والسمك ومداخيل ضريبة الحبوب، حتّى إنّه أخذ مكانة الجابي العامّ للبلاد التونسيّة، إضافة إلى وظيفته الرئيسيّة قايد على جربة وبنزرت. بعد فرار بن عيّاد أخذ مكانه “قايد” آخر هو “نسيم شمامة” المنتمي إلى الطائفة اليهودية. وقد كان بمثابة وكيل سابق لبن عيّاد في أعماله التجارية. وقد استغلّ الوضع الجديد لإرساء تحالف مع الخزندار للاستحواذ على لزمات سابقة لمحمود بن عيّاد، قبل أن يهرب من تونس سنة 1864 عند اندلاع ثورة علي بن غذاهم. لا يزال الغموض يكتنف هذه الشخصيّة التي كان صعودها مفاجئاً على مستوى المسؤوليّات. ولكن من الثابت أنّه استطاع أن يبني ريعاً أُسرياً متكاملاً. فابنه ناتان شمامة كان قابضاً لمجبى منطقة الأعراض وابن أخيه “شلومو” قايداً لدار الفضّة، وهو المشرف على مداخيل المؤسّسة التي موّلت صناعة الأوسمة والنياشين وتزيين الأزياء الرسمية للمسؤولين. وكان نسيم كسابقه محمود بن عيّاد يعتمد على التحالف مع الوزير الأكبر مصطفى خزندار. وتوصّل بذلك إلى متابعة الضرائب المتأتّية من التجارة الخارجية بأكبر موانئ الإيالة التونسية لسنوات عديدة. كما كان لنسيم شمامة حرّيّة تصرّف كبيرة في الثروة، مكّنته من إقراض البلاد التونسية مبلغاً وصل إلى 19 مليون ريال لمجابهة العجز المالي. وسمحت له ثروته بامتلاك ثروات عقارية بلغت في المجمل 65 عقاراً توزّعت بين تونس العاصمة وحلق الوادي والمرسى وأريانة ومنوبة والمحمّديّة.

الريع بين شبكات الداخل والخارج:

كان القرب من السلطة الحاكمة والباي تحديداً سبيلاً كذلك إلى الثروة. ومن الفئات التي استطاعت أن تستقطب جزءاً من الريع، فئة العلماء الموالين للسلطة والمرتبطين بها وظيفياً، وجلّ هؤلاء من فئة “البلديّة”. وقد تحوّل البعض منهم إلى أدوات لتركيز الدولة. كانت الأحباس جزءاً من ثروات هذه الطبقة، التي نظّمتها، زمن وزارة خير الدّين، جمعيّة الأوقاف التي أُسِّست عام 1874. وقد شكّل جزءٌ من الأحباس العامّة مصدر ثروة هامّة لبعض أعضاء الطبقات العليا، وتعدّدت طرق الاستغلال الملتوية لها مثل الإنزال والمغارسات. أمّا فئات كبار الموظّفين والقادة العسكريين فقد استفادت أساساً من الأراضي الفلّاحية الخصبة والمؤسّسات الحيوية. ويكفي أن نستعرض جزءاً من ثروة الوزير الأكبر “مصطفى بن إسماعيل” الذي امتلك حسب بعض المصادر 24 هنشيراً يقع معظمها في مناطق شمال تونس الخصبة، وجزء منها كان ضمن الثروة السابقة لمصطفى خزندار مثل “هنشير قعفور” الذي بلغت مساحته 48 ألف هكتاراً. كما سُجّل استيلاؤه على الأحباس التي خصّصها خير الدين سابقاً للمدرسة الصادقية.

لم تستفد الطبقات المحلّية وحدها من الريع، بل شكّل الوسطاء الأجانب الذين استعانت بهم إدارة الباي لتمويل القروض التي رزحت تحتها البلاد التونسية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فئة أخرى من المستفيدين وهو ما فتح الباب أمام عدد من المغامرين للاستيلاء على ثروات كبيرة بطرق غير مشروعة. يذكر التاريخ لنا مثال “رشيد الدحداح”، اللبناني الأصل، الذي دخل في خدمة محمّد الصادق باي وقام بدور الوسيط مع المؤسّسات الفرنسية، خصوصاً بنك “ديرلنجي” الذي تحصّل على حق القرض الخارجي الأوّل للإيالة التونسية. وقد جمع رشيد من تلك الأعمال أرباحاً عالية مكّنته من ثروة ناهزت ثمانية ملايين فرنك، جلّها من مصادر غير مشروعة، وأسهمت في امتلاكه عقارات راقية في العاصمة الفرنسيّة.

ومنذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، عملت الدول الأوروبية على تمكين جالياتها أكثر داخل الاقتصاد التونسي، مستفيدةً من أزمة الحِرَف التونسية. ويُعتبَر التجار القادمون من مدينة جنوى الإيطالية ومرسيليا الفرنسية، أساساً من النخب القيادية في الاقتصاد التونسي. حيث احتكروا تجارة الجملة وأدّوا دور المؤسّسات البنكيّة لدى إدارة الباي. ولطالما تصاهرت هذه العائلات مع الأعوان القنصليين للدول الأجنبية وشكّلتْ شبكات لحماية مصالحها. كما استعانتْ بعض القوى الدولية بسياسة التجنيس لمدّ نفوذها الاقتصادي، فالسياسي. ومن ذلك سياسة القنصل البريطاني “ريتشارد وود” الذي عمل على تغيير الأنشطة الاقتصادية للمالطيين (بوصفهم رعايا بريطانيين) من الأنشطة الهامشيّة والتهريب إلى الاندماج في الاقتصاد المُنتج وامتلاك الأراضي، والاستعانة كذلك بمنح الجنسية البريطانية لجزء من طبقة يهود القرانا، المعروفين بمهارتهم التجارية. حيث دخل عدد منهم إلى العمل القنصلي ومن أبرزهم “دافيد سانتيانا” نائب القنصل ريتشارد وود الذي كان يدير، إضافة إلى منصبه السياسي، مجموعة هامّة من الأعمال التجارية.

شكّلت منظومة الريع في تونس القرن التاسع عشر أحد الأسباب المؤدّية إلى التفقير الاجتماعيّ وعدم توازن العبء الضريبي.

عموماً، شكّلت منظومة الريع في تونس القرن التاسع عشر أحد الأسباب المؤدّية إلى التفقير الاجتماعي وعدم توازن العبء الضريبي، الذي أدّى إلى واحدة من أهمّ ثورات القرن التاسع عشر وهي ثورة “علي بن غذاهم” التي كان من أولى ضحاياها “الآغا فرحات” قايد الكاف وهو أحد كبار الريعيين في جهته. كما كان الريع كذلك باباً من أبواب الاستعمار الفرنسي لتونس، الذي استغلّ سيطرته على شبكات النفوذ المالي داخل الإيالة، كتمهيد لسيطرته العسكرية. ولعلّ التاريخ يذكر أنّ إحدى الذرائع التي اختلقها المستعمر الفرنسي لاحتلال البلاد هو حقّ ملكيّة شركة مرسيليا للقرض لهنشير النفيضة الشاسع، وهو بالأساس ملكيّة ريعية للباي وهبها لوزيره الأكبر خير الدين قبل أن يحاول غريمه مصطفى بن إسماعيل الاستحواذ عليها بأساليب ملتوية.

كان الريع مسبّبا لأزمة الماضي ولا يزال إلى اليوم، بالمثل، عطباً هيكلياً ينخر الاقتصاد التونسي ويمنع تحقيق توزيع مُنصف للثروة الوطنية. وبين الزمنَيْن، تبقى محاولات الإصلاح عاجزة بشكل كبير عن مواجهة الشبكات المعقَّدة التي تحمي هذا الريع وتساهم في ديمومته.

نشر هذا المقال في العدد 24 من مجلة المفكرة القانونية – تونس: الريع المُخضرم


 1 Béatrice Hibou, “Le réformisme, grand récit politique de La Tunisie contemporaine”, dans Revue d’histoire moderne et contemporaine 2009/5 n°56-4 bis, pages 14 à 39.
2  Jean Ganiage, “Les Origines du Protectorat Français en Tunisie.”
3  جان غانياج، “أصول الحماية الفرنسية على تونس (1861-1881)”، ترجمة عادل بن يوسف ومحمّد محسن البوّاب، دار برق للنشر والتوزيع 2012، ص151.
4  الإيالة في التقسيم الإداري العثماني للمحافظات أو الولايات التابعة للدولة العثمانية، كانت تشكّل المستوى الإداري الأوّلي (الأعلى) بين القرن السادس عشر والقرن التاسع عشر.
5  المصدر نفسه، ص. 150.
6  ياسين النابلي، “علي بن غذاهم: حامل آلام القبائل الذي سَقطَ في المنتصف”، مجلّة المفكّرة القانونية، العدد 23، زلزال ديمقراطيّة فتية.
 7 رضا بن رجب، “يهود البلاط ويهود المال في تونس العثمانية”، دار المدار الإسلامي 2010 ص. 494-500.
8 المصدر نفسه.
9 حافظ عبد الرحيم، “الزبونية السياسية في المجتمع العربي، قراءة اجتماعيّة-سياسيّة في تجربة البناء الوطني بتونس”، مركز دراسات الوحدة العربية، ص 173.
10 ج.س. فن كريكن، “خير الدين والبلاد التونسية 1850-1881″، ترجمة البشير بن سلامة، دار سحنون تونس 1988، ص. 193.
انشر المقال

متوفر من خلال:

تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، اقتصاد وصناعة وزراعة ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني