بيان “المفكّرة القانونيّة” حول قضية المطران موسى الحاج: ادّعاء الاستهداف السياسيّ لا يمنع المحاكمة والحديث عن حصانة الأساقفة مسٌّ بالسيادة الوطنية


2022-07-28    |   

بيان “المفكّرة القانونيّة” حول قضية المطران موسى الحاج: ادّعاء الاستهداف السياسيّ لا يمنع المحاكمة والحديث عن حصانة الأساقفة مسٌّ بالسيادة الوطنية

شهد لبنان خلال الأسبوع الماضي تناحراً خطابياً جديداً أخذ بعداً عصبياً، على خلفية ملاحقة مطران حيفا للطائفة المارونية موسى الحاج من قبل مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية فادي عقيقي. وتعليقاً على هذا الخطاب الانحداريّ، يهمّ المفكرة القانونية إبداء الملاحظات الآتية:

1.   الملاحقة تكون جنائية في حال توفّر أدلة بمعزل عن خلفيّاتها أو أبعادها السياسية

إنّ أيّ ملاحقة لأيّ جرم تستند إلى شبهات جنائية جدّية (وهي حالة الذي أدخل كمية كبيرة من الأموال تصل إلى مئات آلاف الدولارات الأميركية إلى لبنان من الأراضي المحتلّة) تكون ملاحقة جنائية، بمعزل عمّا قد يكون لها من خلفيات أو أبعاد سياسية. وعلى فرض ثبوت وجود أيّ خلفيات أو أبعاد كهذه، فإنّ هذا الأمر لا يغيّر من طبيعتها ولا يؤدّي إلى محو القوّة الثبوتية للأدلة التي تأسستْ عليها هذه الملاحقة. بمعنى أنّه يتعيّن على من يرغب في الدّفاع عن أيّ متّهم (المطران الحاج في هذه القضية) أو إثبات كيديّة الملاحقة أن يدحض أدلّة الاشتباه به. أما الحديث عن الاستهداف أو الابتزاز السياسي أو الاستنسابية (وهو ادّعاء يسهُل في ظل العصبية والاعتداء المتواصل على استقلالية القضاء)، فهو أمر يجدر التفكير فيه مليّاً بعد معرفة كامل تفاصيل الملاحقة بهدف تحسين مرفق العدالة وضمان عدالة أكثر شمولاً، من دون أن يشكّل بحدّ ذاته سبباً لمنع المحاكمة عن أيّ مشتبه فيه. فجرم العمالة لا يسقط في حال عدم ملاحقة أحد العملاء الآخرين. وجرم القتل لا يسقط في حال عدم ملاحقة أحد القتَلة الآخرين. وهما لا يسقطان أبداً حتى لو أثبت المتّهم أنّ ملاحقته ما كانت لتحصل لولا مواقفه السياسية، طالما أنّ هذه الملاحقة تستند إلى أدلة جنائية. أي قول معاكس يؤدّي عمليّاً إلى إعطاء كلّ متنفّذ أكثر من وسيلة للفرار من العدالة.

2. من انفجار المرفأ إلى قضية المطران:  وسائل غير مشروعة متكررة لمنع المحاسبة

وعليه، نسجّل بأسف اعتماد البطريركية المارونيّة في دفاعها عن المطران موسى الحاج أسلوباً مشابهاً تماماً لما اعتمدته في الآونة الأخيرة كلّ جهة متنفّذة وجدت نفسها متضرّرة مباشرة أو غير مباشرة من ملاحقة قضائية. ومن أبرز تلك الأساليب، تحويل وجهة الاتهام منها أو من المقرّبين منها في اتجاه القاضي الذي يصبح هدفاً لكلّ أشكال التحقير والتنمّر والتهديد. فأن تحوِّل البطريركية المارونية ملاحقة مطران على أساس أدلة جنائية إلى اتّهام لمفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكريّة فادي عقيقي وصولاً إلى المطالبة بمحاسبة الأخير وإقالته على خلفيّة تجرُّئه على مباشرة هذه الملاحقة، هو مشابه تماماً لما فعلهُ رئيس الحكومة نجيب ميقاتي حين هدّد بإقالة النائب العام التمييزي غسان عويدات إذا لم يضع حدّاً لملاحقة المصارف وحاكم مصرف لبنان، ومشابه تماماً لما فعله ثنائيّ أمل وحزب الله في توجيه رسائل عنيفة للمحقّق العدليّ في قضية المرفأ طارق بيطار وتعطيل الحكومة في أصعب الظروف بهدف تنحيته. وكلّها مواقف تقوم على استباحة وسائل غير مشروعة للدفاع عن مشتبه بهم انطلاقاً من حسابات الربح والخسارة، وهي وسائل تشكّل سوابق من شأنها أن تدفع آخرين على حذو حذوهم، للتفلّت من العدالة من دون محاكمة.  

3.   حصانة وهمية تمسّ بالسيادة الوطنية

إن ادّعاء حصانة الأساقفة الموارنة والكاثوليك على أساس نصّ صادر عن الفاتيكان، هو ادّعاء غير صحيح وقد دحضناه تماماً في مقالين أول وثانٍ نُشرا تباعاً على موقع “المفكرة القانونية”، وهما يثبتان عدم صحة الحجج التي ساقها قاضي التحقيق العسكري فادي صوّان في أيار 2022 لمنع المحاكمة عن المطران في قضية سابقة مُقامة ضدّه. وكانت “المفكرة” قد انتقدت هذا الأمر من قبل في سياق قرار آخر أصدره قاضي التحقيق سابقاً بيتر جرمانوس في قضية منصور لبكي في 2014. ونذكّر أنّ أيّ ادّعاء حصانة لرجال الدين من طائفة معيّنة سيدفع رجال دين من طوائف أخرى إلى المطالبة بالمثل، ممّا يهدّد بتوسيع دائرة الإفلات من العقاب ويقلّل من إمكانيات العدالة، فضلاً عن المسّ بالسيادة الوطنية بشكل سافر.

4.   ضرورة توضيح وقائع الملاحقة للرأي العامّ

من ناحية الوقائع، لا تزال القضية المطروحة أمام الرأي العام في غاية الغموض، علماً أنّ أياً من الفرقاء أو مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية أو النائب العام التمييزي أو حتى مجلس القضاء الأعلى أو وزارة العدل تكبّدوا عناء أن يشرحوا للرأي العام تفاصيلها. لكن ما هو مؤكد أنّ القضية لم تبدأ في شهر تموز 2022 كما أوحت به بعض القوى التي سارعتْ إلى ربطه بأحداث سياسية حصلت مؤخراً إنّما بدأت قبل أشهر. ومن حق الشعب اللبناني أن يكون على بيّنة من تفاصيل هذه القضية، وبخاصّة بعدما أصبحت مناسبة لاستنفار عصبيّ جديد.

5.    كيف نثبت مصداقية في رفض المحكمة العسكرية أو التشكيك في استقلالية القضاء؟

أخيراً، ندعو القوى السياسية المناوئة للقضاء العسكريّ إلى إثبات صدقيّتها من خلال إيلاء الأولوية لتعديل القوانين في اتجاه حصر اختصاص هذا القضاء لعدم دستورية المحاكم الاستثنائية. كما ندعو كلّ مواطن يُدعى للمثول أمامه إلى إثارة عدم صلاحيّته في محاكمة المدنيّين على أساس العهد الدوليّ للحقوق المدنية والسياسية. الأمر نفسه بالنسبة للقوى المشكّكة في استقلالية القضاء والتي ندعوها إلى إثبات صدقيّتها من خلال إيلاء الأولوية لتعديل القوانين في اتجاه فكّ الارتباط بين القضاء والسياسة بمعزل عن حسابات الربح والخسارة. لكن أن تبقى الاعتراضات على أداء هذا القاضي أو ذاك محصورة في الاعتراض على هذه القضايا أو تلك من دون اتخاذ أي خطوات عملية لتحسين الأداء القضائي، فهذا أمر يجرّد الجهات السياسية المعترضة من أي مصداقية.

وعليه:

1.    نطالب النيابة العامة العسكرية أو التمييزية أو وزارة العدل أو مجلس القضاء الأعلى بإصدار بيان يوضح مختلف المراحل التي قطعتها هذه القضية والمواد الجرمية التي تتصل بها، بصورة تسمح للرأي العامّ بتكوين فكرة موضوعية عن هذا الملف بمنأى عن التشويش الإعلامي،

2.    نطالب البطريركية المارونية الكفّ عن اعتماد أساليب الإفلات من المحاسبة مع التوقف الفوري عن ممارسة الضغوط ضد القضاء أو الإدلاء بحصانات وهمية تمسّ بالسيادة الوطنية،

3.    نطالب كلّ القوى السياسية والاجتماعية التي تشكك في شرعية القضاء العسكري في محاكمة المدنيين أو في استقلالية القضاء بتوجيه جهودها لحصر اختصاص هذا القضاء في الشؤون العسكرية فقط وإقرار قوانين استقلالية القضاء من دون إبطاء.    

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، المرصد القضائي ، محاكم عسكرية ، محاكم دينية ، محاكم جزائية ، أحزاب سياسية ، استقلال القضاء ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني