برّي 2016 يكذّب برّي 2021: نصاب انعقاد المجلس هو 65 وليس 59


2021-08-13    |   

برّي 2016 يكذّب برّي 2021: نصاب انعقاد المجلس هو 65 وليس 59

تواصل السلطة الحاكمة إطلاق المناوارات الاحتيالية بهدف تهريب بعض رموزها من قبضة القضاء في قضية تفجير المرفأ وتعطيل طلب قاضي التحقيق العدلي برفع الحصانة عن عدد من النواب. وإذا كان استحضار المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء من عالم الغيب القانوني يدخل في صلب هذه الخطة المدبّرة، فإنّ التنصّل من رفع الحصانات لم يقتصر على هذه الخطوة، بل اقترن بتحايل إضافي على نص الدستور نفسه من خلال اعتماد وسيلة لاحتساب نصاب مجلس النواب تُسهّل على السلطة تحقيق مآربها.

تنص المادة 34 من الدستور على نصاب مجلس النواب إذ هي تعلن التالي: “لا يكون اجتماع المجلس قانونياً إذا لم تحضره الأكثرية من الأعضاء الذين يؤلفونه وتتخذ القرارات بغالبية الأصوات”. لا يحدّد الدستور عدد أعضاء مجلس النواب بل هو يترك ذلك لقانون الانتخاب. وبالفعل تطور عدد النواب في لبنان وقد استقر منذ 1992 على 128 عضوا وهو العدد القانوني الذي يتألف منه المجلس النيابي. وهكذا عندما تشير المادة 34 إلى عدد النواب فهي تشمل جميع المقاعد التي يتألف منها المجلس، وبالتالي يكون النصاب هو أكثرية هذه المقاعد أو ما يعرف بالغالبية المطلقة، وهي أول رقم صحيح يعلو النصف، وليس النصف زائدا واحدا كما يشاع. وعليه تكون الغالبية المطلقة اليوم 65 نائبا وهو أول رقم صحيح يعلو نصف عدد المقاعد.

لكن المشكلة التي تطرح نفسها اليوم تتعلق بكيفية احتساب الغالبية المطلقة، وبالتالي تحديد نصاب مجلس النواب في حال فقد هذا الأخير عددا من أعضائه سواء كان ذلك بسبب الاستقالة أو الوفاة. فالمجلس الحاليّ فقد من أصل عدد أعضائه القانوني 11 نائبا ما يعني أنه بات يتألف واقعيا من 117 نائبا، الأمر الذي يستتبع حكما معرفة كيفية احتساب الغالبية المطلقة: هل يتم ذلك أيضا انطلاقا من العدد النظري للنواب (128) أو هو ينخفض تباعا بحيث يحتسب بعد حسم المقاعد التي خلتْ بسبب الوفاة أو الاستقالة؟

لا تكمن أهمية الجواب على هذا السّؤال في شقه الدستوري الصرف بل هو يتعلّق أيضا بالاعتبارات السياسيّة التي يمكن أن تتأثّر كثيرا مع كل تعديل يصيب عدد النواب وما يستتبع ذلك من تبدل في الغالبية التي تتحكم بقرار السلطة التشريعية. ويصبح الأمر أكثر خطورة في ظلّ واقع لبنان اليوم مع محاولة أطراف السلطة الحثيثة الهروب من التحقيق القضائي عبر تحوير النصوص الدستورية ومواصلة الإفلات من العقاب. فكل المسار القانوني المتعلق بأصول المحاكمات أمام المجلس الأعلى يرتبط ارتباطا وثيقا بكيفية احتساب الأغلبيات المتعددة التي تفرضها النصوص الدستورية والقانونية في هذا الموضوع لجهة توفر نصاب مجلس النواب كي يتمكن من الانعقاد، توقيع خُمْس أعضاء المجلس النيابي على عريضة الاتهام (المادة 19 من قانون أصول المحاكمات أمام المجلس الأعلى الصادر في 18 اب 1990)، تشكيل لجنة التحقيق النيابية بقرار من الأكثرية المطلقة من أعضاء المجلس (المادة 22)، وتوجيه الاتهام رسميا بغالبية “الثلثين من مجموع أعضاء المجلس” (المادة 70 من الدستور).

فكل هذه الأغلبيات تُحتسب انطلاقا من عدد أعضاء مجلس النواب وهي ستختلف حكما في حال تمّ اعتماد العدد القانوني النظريّ للنواب أو العدد الفعلي دون المتوفين أو المستقيلين، ما يعني أن انتظام عمل السلطة التشريعية برمّته هو رهن معرفة كيفية احتساب هذه الغالبيات، ليس فقط في موضوع توجيه الاتهام للوزراء بل أيضا في كل ما يتعلق باجتماع المجلس والتشريع وانتخاب رئيس الجمهورية.

وقد نُقل عن رئيس مجلس النواب نبيه بري في جلسة 12 آب الجاري التي لم تنعقد بسبب فقدان النصاب أن الغالبية المطلقة تحتسب انطلاقا من عدد النواب الفعليين أي 117 نائبا اليوم وليس 128. ما يعني أن أول رقم صحيح يعلو النصف لم يعُد 65 بل 59 نائباً، وهو العدد الذي سيحاول رئيس المجلس فرضَه من أجل عقد جلسة للتصويت على عريضة الاتّهام التي عرفت أيضا بعريضة العار. وعليه، سنعمد في هذا المقال إلى مناقشة هذه المسألة انطلاقا من مجموعة من المعطيات، أبرزها موقف سابق للرئيس برّي ذهب في اتجاه معاكس تماما أي في اتجاه التمسك في احتساب الغالبية المطلقة انطلاقا من العدد القانوني للنواب بمعزل عن عددهم الفعلي.

الدستور اللبناني على ضوء تجربة الجمهورية الثالثة في فرنسا

للإجابة عن هذه النقطة لا بد من العودة إلى التجرية الدستورية للجمهورية الثالثة في فرنسا والتي تُشكّل المصدر الأهمّ للدستور اللبناني كما وضع في سنة 1926. يؤكد العلامة “أوجين بيار” أن المبدأ المتّبع هو اعتبار النّصاب ثابتا غير متبدل بعدد النواب الذين قد يفقدون عضويتهم بسبب الاستقالة أو الوفاة أو أي سبب آخر[1]. فبغضّ النظر عن عدد الاستقالات أو الوفيات، يظلّ نصاب مجلس النواب يحتسب على أساس عدد المقاعد النظري المحدد في قانون الانتخابات، أي 128 نائبا ما يعني أن الغالبية المطلقة تبقى دائما 65 نائبا من دون تغيير، علما أن الدستور يفترض أن هذا الشغور هو مؤقت كون الحكومة ستعمد إلى إجراء انتخابات نيابية فرعية لتدارك هذا الأمر.

وما جزم أن هذا هو التفسير الصحيح والذي لم ينتبه له مجلس النواب عندما تبنى دراسة فيديل هو التعديل الذي أدخل على المادة 57 من الدستور سنة 1927. ققد نصت المادة 57 بصيغتها الأصلية سنة 1926 أن رئيس الجمهورية عندما يعيد القانون إلى البرلمان يتوجب على هذا الأخير أن يقرّه مجددا “بالغالبية المطلقة من مجموع الأعضاء العاملين فيه”. وقد جاء النص الفرنسي للمادة ذاتها أكثر وضوحا إذ يفسر ما المقصود بالنواب العاملين فيقول: “les sièges vacants par décès ou démission ne sont pas comptés” أي ان النص الأصلي كان يعتبر أن النصاب لا يشمل الأعضاء المتوفين أو المستقيلين. لكن في سنة 1927، تم تعديل هذه المادة بحيث باتت تنص على أن القانون الذي يعيده رئيس الجمهورية إلى مجلس النواب يتوجب إقراره مجددا “بالغالبية المطلقة من مجموع الأعضاء الذين يؤلفون المجلس قانوناً”. أي أن الدستور استبدل صراحة “النواب العاملين” بالأعضاء الذين يؤلفون المجلس قانونا بغض النظر عن التبدلات التي قد تحدث بعدد النواب الفعليين.

كيفية احتساب النصاب والغالبية في ظل حرب 1975-1990 والنقاشات حولها

وكانت مسألة احتساب النصاب في ظلّ تناقص عدد النواب طُرحت خلال حرب 1975-1990 بعدما تمّ تمديد ولاية مجلس النواب المنتخب سنة 1972 أكثر من مرة، حيث وصل تناقص عدد النواب الأحياء من 99 إلى 94 سنة 1980 ليصل إلى 79 سنة 1987. وقد شكّل هذا الواقع معضلة دستورية: فهل يتمّ احتساب النصاب وفقا لعدد النواب النظري المحدد في قانون الانتخاب (99) أو وفقا لعدد النواب الفعليين المتناقص مع مرور الأيام؟ وجّه رئيس مجلس النواب حينها كامل الأسعد سؤالا إلى الفقيه الفرنسي جورج فيديل الذي ردّ بدراسة مطوّلة أشار فيها إلى أنّ النصاب لا يُحتسب إلا وفقا لعدد النوّاب الفعليين وليس المتوفّين أو المستبعدين. فالمقاعد الخالية لا يمكن أن تدخل في عداد النصاب (الغالبية المطلقة)[2]. وقد تبنّت اللجان النيابية المشتركة هذا التفسير في 10 نيسان 1980 واتخذت قرارا اعتبرت فيه أن الغالبية المطلقة “تعني الغالبية محسوبة على أساس عدد النواب الأحياء، حاضرين أو متغيبين، دون المتوفين”. وبالفعل سيطبق المجلس هذه الطريقة الجديدة في احتساب الغالبيات المختلفة طيلة فترة الحرب.

لكن هيئة التشريع والاستشارات رفضت موقف العميد “فيديل” معتبرةً أن “عبارة الأعضاء الذين يؤلفون المجلس قانونا تعني بكل بساطة العدد الذي نصّ عليه قانون الانتخاب أي العدد القانوني “en droit” على عكس العدد الواقعي “en fait”. وبالتالي يكون كل اجتهاد مخالف يقول بحذف الأعضاء المتوفين أو المستقيلين في حساب النصاب ومهما كان المبرر مخالفا لنص الدستور الصريح ورغبة واضعيه الأكيدة” (استشارة رقم 1374 تاريخ 20/1/1988). لكن الهيئة اعتبرت أن القبول بتفسير فيديل هو جائز عند حالة الضرورة ويمكن اعتماده بسبب الحرب الأهلية التي كان يمرّ بها لبنان ووجود ظروف قاهرة تمنع إجراء انتخابات نيابية جديدة. وهنا يظهر الفرق جليا بين فترة الحرب الأهلية والوضع اليوم، كون وجود 11 مقعدا شاغرا هو نتيجة لرفض السلطة المتعمد والمستمرّ لإجراء انتخابات نيابية فرعية، ما يعني أن حالة الضرورة غير متوفرة ولا يمكن بالتالي للسلطة أن تتذرّع بتقاعسها عن أداء واجبها الدستوري من أجل تبرير مخالفة أخرى للدستور عبر تغيير طريقة احتساب الغالبية المطلقة المكونة لنصاب المجلس.

قانون 8 آب 1990

بعد ذلك، عاد مجلس النواب عاد وتراجع عن هذا الموقف عندما صوّت على القانون رقم 11 الرامي إلى تحديد العدد المُعتمد لاحتساب النصاب والذي صدر في 8 آب 1990، حيث نصت مادته الأولى على التالي: “بصورة استثنائية وحتى إجراء انتخابات فرعية أو عامة وفقا لأحكام قانون الانتخاب، وبالنسبة الى النصاب المقرر في الدستور، يُعتبر عدد أعضاء مجلس النواب الأعضاء الأحياء”. أي أن الانتخابات النيابية العامة التي جرت سنة 1992 أدت حكما الى إلغاء العمل بهذا الاستثناء المبرربظروف الحرب والعودة إلى المبدأ العام الذي يقول بأن النصاب ثابت يحتسب دائما على أساس المقاعد القانونية.

اجتهاد بري القاطع في 2016

والغريب أن الرئيس بري ناقض نفسه بقوله اليوم أن الغالبية تحتسب على أساس عدد النواب الفعلي. ففي جلسة انتخاب ميشال عون رئيسا للجمهورية بتاريخ 31 تشرين الأول 2016 كان عدد النواب الفعليين حينها 127 نائبا مع استقالة النائب روبير فاضل في 30 أيار 2016. أي أن الغالبية المطلقة كانت ستصبح 64 نائبا بدل 65 في حال اعتمدنا تفسير الرئيس بري الذي يقول به اليوم، وغالبية الثلثين الضرورية لانتخاب رئيس الجمهورية كانت ستصبح أيضا 85 نائبا بدل 86 من أصل 128 مقعدا. لكن الرئيس بري أعلن صراحة وبكل ثقة في مستهل الجلسة التالي:

“الرئيس: عدد الزملاء الحاضرين الآن 127، ويبقى النصاب دائماً 86 أي الثلثين، باعتبار عدد النواب يؤخذ على عدد النواب المسجّل قانوناً وليس واقعياً.

رياض رحال: ما هو عدد الأصوات للفوز بالدورة الأولى؟

الرئيس: الفوز بالدورة الأولى يتطلب 86 صوتاً”.

جراء ما تقدم، يتبين لنا جليا أن الغالبيات تُحسب وفقا لعدد النواب القانوني وليس العدد الواقعي ما يعني أن نصاب مجلس النواب اليوم هو دائما 65 نائبا من أصل 128 وليس 59 من أصل 117. ولعل الحجة الأبرز هي التي منحنا إياها رئيس مجلس النواب نفسه في 2016. على أمل أن يتذكر موقفه هذا في الجلسات المقبلة لمجلس النواب.

  1. Eugène Pierre, Traité de droit politique, électoral et parlementaire, p. 1124 « le quorum est calculé d’une façon invariable d’après le nombre de députés dont la chambre se compose en vertu de la loi électorale ; il n’y a pas lieu de le réduire proportionnellement au nombre de vacances qui peuvent se produire (…) il n’y a pas à invoquer cette circonstance que, par suite de décès ou démission ou d’annulation, le chiffre du quorum ne correspondrait pas au chiffre des membres actuellement en exercice ». 
  2. “Mais inclure dans ce nombre les sièges vacants, c’est-à-dire nécessairement des morts ou des exclus, c’est faire rentrer dans la représentation nationale des fantômes’
انشر المقال

متوفر من خلال:

البرلمان ، استقلال القضاء ، مجزرة المرفأ



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني