انعكاسات قانون الترخيص لزراعة القنّب على منطقة الهرمل


2023-07-06    |   

انعكاسات قانون الترخيص لزراعة القنّب على منطقة الهرمل

بعد أن نشرنا الملخّص والمقدمة والفصل الأول والفصل الثاني من دراسة “تشريع زراعة القنب الطبي في لبنان وآثاره على الأوضاع المعيشية لمزارعي الهرمل”، ننشر هنا الفصل الثالث من الدراسة على أن نستكمل نشر الأجزاء الأخرى في الأيام المقبلة.

الفصل الثالث: انعكاسات قانون الترخيص لزراعة القنّب على منطقة الهرمل

ما يُدهش في قانون التشريع، للوهلة الأولى، عدم استناد المشرّعين إلى أيّ دراسة علمية تجريبية للقنّب الطبّي في لبنان، بحيث لم تُختبر بعد زراعته في التربة والمناخات اللبنانية، على عكس ما تدّعيه الدولة ويصرّح به المشرّعون، وعلى عكس الاعتقاد السائد لدى كثيرٍ من المعنيين. 

لم تستند الدولة اللبنانية في إعداد قانونها إلى دراسات جدوى جادّة أو إلى أيّ مقاربة علمية لدراسات السوق، وهذا ما يحول دون قدرتنا اليوم على تقدير المساهمات المُرتقبة من إنتاج المداخيل والوظائف. لا تهدف دراستنا إلى ملء هذا النقص، بحيث يتطلّب ذلك البدء بتجارب علميّة تتخطّى حدودنا المعرفيّة، منها دراسة التربة والمناخ وملاءمتهما مختلف أنواع الغرس، وتقنيّات الريّ، والإنتاج بما يتوافق مع المعايير الطبّية. ففي حين يتحدّث بعضهم عن دراسات جدوى وعن تجارب زراعية أثبتتْ أنّ القنّب الطبّي سيدرّ ما يقارب مليار دولار أميركي سنويًّا على الاقتصاد اللبناني، لا يسعنا إلّا أن نستغرب غياب أيّ دراسة علمية منشورة أو أيّ دراسة اقتصادية مقدّمة إلى مجلس النوّاب في هذا الصدد. لذلك تبدو لنا أسطورة “الدراسات العلمية” التي استند إليها نوّاب المجلس لإقرار القانون جديرة بالاهتمام، لأنّها تُظهر من ناحية قصر نظر المشرّعين في لبنان، كما تُظهر في الوقت عينه نقاط الوهن في عملية التشريع، والتي يجدر تصحيح مجراها لاحقًا من خلال المراسيم التطبيقية.

من البيّن أنّ ثقة المشرّعين بمستقبل قطاع القنّب الطبّي قد ارتبطت بشكل وثيق بتوصيات تقرير ماكنزي الصادر عام 2018، الذي اكتفى باقتراح استغلال هذا القطاع الناشئ، من دون الاستناد إلى أيّ تحليل علميّ وأيّ دراسة جدوى. وكان وزير الاقتصاد السابق رائد خوري قد عمد إلى الترويج إعلاميًّا لاقتراح ماكنزي هذا، شاهرًا وملوّحًا بإمكانية ضخّ ما يعادل مليار دولار أميركي سنويًّا في الاقتصاد اللبناني. واللافت أنّ المشرّعين قد عمدوا إلى تغليب المردود الاقتصاديّ على بقيّة الاعتبارات الاجتماعية والطبّية بشكل خاصّ، بالرغم من غياب أيّ دراسة جدّية تسمح باحتساب استباقي لمداخيل القنّب الطبّي. كما أنّهم لم يأخذوا بعين الاعتبار الآثار الاقتصادية السلبيّة التي قد تنتج من التشريع، ومنها الآثار الناجمة عن الارتفاع المحتمل للاستهلاك الترفيهي، الذي ما يزال، وفق القانون الحاليّ، مُجرّمًا، أو عن مخاطر توجيه اقتصاد لبنان كمصدّر للقنّب الطبّي في خدمة ومصلحة الدول ذات الدخل المرتفع.

في هذا الصدد، تؤكّد دراسة طبّية حديثة أنّ “المكاسب الاقتصادية المباشرة للبلدان منخفضة ومتوسّطة الدّخل التي تسعى إلى إمداد الدول الصناعية، التي ما تزال المستهلك الرئيسي لجميع أشكال القنّب، ما تزال غير واضحة. يجب الموازنة بين الفوائد والتكلفة غير المباشرة لزيادة استخدام القنّب، ويمكن قياسها من حيث الإنتاجية الاقتصادية، وفقدان سنوات التعليم، ومعدّلات حوادث السيّارات. حتّى الزيادة الطفيفة في حدوث وانتشار الاضطرابات النفسية التي تؤدّي إلى ارتفاع الطلب على الخدمات الطبّية يمكن أن تستنزف الموارد الشحيحة في النظام الطبّي الحالي .

لا تنكر تلك الدراسة أهمّية قانون التشريع، إنّما تستغرب التسرّع في التصويت على القانون من دون الاعتماد على مقاربة علمية لآليّات التصنيع والتوزيع والتأكّد من الجودة، تمامًا كما أوصتْ الجمعية اللبنانية للأطبّاء النفسيين التي رأت “أنّه بغياب وجود أيّ ضمانة بأنّ القانون الحالي سيفيد المزارعين ولن يزيد من انتشار الاضطرابات المرتبطة بتعاطي القنّب، نشجّع على مزيد من التقييم من جميع الأطراف المعنيّة” [19].

كذلك يشير الدكتور رامي بو خليل إلى أنّ مساحات الغموض التي يتركها القانون بشكله الحالي، بين الإباحة لأغراض علاجية مع تجريم صارم للأغراض الترفيهية، ينبئ بمخاطر اجتماعية جمّة إذا ما تمّت عمليّات الترخيص من دون احتواء آثار التقنين على السوق السوداء. “القانون بحدّ ذاته خطوة إيجابية، إلّا أنّ كلّ التحدّيات ستكون بطريقة التنفيذ. سيؤدّي هذا القانون حتمًا إلى خضّات عنيفة في قطاع السوق السوداء. كيف سيعمد الأمن والقضاء إلى احتواء هذه الصدمات؟ من دون التراجع عن التجريم الصارم للاستخدام الترفيهي، وفي ظلّ الشروط الاستنسابية السائدة حاليًّا، سيكون هذا القانون أشبه بالقنبلة الموقوتة” .

وعليه، يبدو أنّ الطبقة السياسية في لبنان اكتفت بالتقدير المبدئي لرقم المليار دولار أميركي لترفع توصيات ماكنزي إلى مستوى البرهان العلمي. الحقيقة هي أنّ تقرير ماكنزي اقتصر على استطلاع آراء الخبراء لإعداد توصياته ولم يقدّم للبنانيين أيّ جديد، وقد ينطبق هذا الاستنتاج على معظم القطاعات التي عُني بها التقرير، لا على قطاع القنّب الطبّي حصرًا. 

وبالفعل، سبق لدراسات الباحثين اللبنانيين أن توصّلت إلى ضرورة استغلال قطاع القنّب، لأغراض ترفيهية أو صناعية أو طبّية، كما تُظهره الأبحاث التجريبية على القنّب الصناعي (وليس الطبّي) التي تمّ تطبيقها في مختلف مراكز الأبحاث الزراعية اللبنانية. وهذا ما تظهره، بشكلٍ جلِيّ، دراسات الباحثة رندا سليمان من مركز لاري للدراسات الزراعية (وزارة الزراعة)، ودراسات ومنشورات الباحث حسّان مخلوف من الجامعة اللبنانية. 

وللأمانة العلمية، يبدو لنا أنّ دراسات وتجارب الباحث محمّد فرّان من الجامعة الأميركية في بيروت قد أدَّت دورًا أساسيًّا في الإضاءة على الطاقات الكامنة في قطاع القنّب الطبّي في لبنان، وذلك قبل تقرير ماكنزي. إنّما المفارقة المضحكة هي أنّ عقبات الإدارة اللبنانية وإهمال السياسيين اللبنانيين للحقائق العلمية حالت دون السماح له بإجراء تجاربه المخبرية ودراسته التجريبية. 

حصلنا على تمويل لمشروع دراسة زراعة القنّب الطبّي في لبنان، وجزء من هذا التمويل كان حكوميًّا، من المجلس الوطني للدراسات العلمية. قمْنا باستيراد البذور لإجراء دراستنا التجريبية، واستحصلنا على موافقة معظم الأطراف المعنية من وزارة الزراعة والداخلية والصحّة. وعلى الرغم من ذلك، لم نتخطَّ عقبات الجمارك والأمن العام. بقيت البذور في مطار بيروت إلى حين تلفها. بغياب تلك التجارب العلمية، لم يبقَ لنا سوى الدراسات الاستشرافية” .

إذًا، يبقى السؤال عمّا نعرفه اليوم بشكل موثوق علميًّا عن إمكانيات قطاع القنّب الطبّي اللبناني.

لقد شارك الدكتور فرّان في جلسات نقاش اللجان النيابية، وساق حملات دفاع عن المشروع أمام أطياف عديدة من الأحزاب اللبنانية استنادًا إلى دراسات استشرافية تعود أوّلها إلى عام 2005، وتمّ تحديث بعضها بين عامَي 2017 و2019 على شكل دراسات استشرافية. اعتمدت تلك الأبحاث حينها على دراسات تطبيقية للقنّب الصناعي وليس الطبّي . يصلح هذا النوع من القنّب لاستخدامات صناعيّة عديدة كتصنيع الورق والنسيج. تمّ اختبار هذه الزراعات في معظم المناطق اللبنانية ليتبيّن أنّ أكثر الزراعات نجاحًا تنحصر في مناطق البقاع الأوسط والهرمل، أي في المناطق الاعتيادية لزراعة القنّب. 

 بحسب الدكتور فرّان: “يمكن أن نتوقّع تباعًا أنّ القنّب الطبّي أيضًا سيلقى موطن زراعته في تلك المناطق. إذا اعتبرنا أنّ زراعات القنّب الطبّي والصناعي ستتمركز في أماكن زراعة القنّب الترفيهي نفسها، يمكن إذًا أن نتوقّع أن يتمّ استبدال الزراعات الترفيهية بزراعات شرعية بنسبة كبيرة. لا يمكن الجزم مسبقًا بغياب التجارب، وإنّما ما نملكه الآن من معلومات تنبئ بأنّ لبنان يملك في بقاعه ثروة اقتصادية غير مستكشفة. هذا القطاع هو نفطنا الأخضر” .

تكمن المفارقة إذًا في ازدواجية الخطاب السياسي الذي عطّل عمليّات البحث العلمي والنقاش العام، فيما روّج لنفسه أنّه استند إلى دراسة علمية في مراحل إعداد مشروع القانون وتعديلاته، وصولًا إلى التصويت على القانون، كما هي الحال في التناقض بين التسارع إلى التصويت على القانون والتقاعس عن إصدار مراسيمه التطبيقية ووضع خططه التنفيذية. في كلا الحالتَين، يُظهر عمل المشرّعين اللبنانيين مدى الانفصال بين عملية سنّ القوانين وعمليّات تقييم الآثار الاجتماعية والاقتصادية للسياسات الوطنية. 

حقل حشيشة في الهرمل (تصوير سعدى علوه)

موقف المزارعين من قانون تشريع زراعة القنّب للأغراض الطبّية: حذر مصحوب بشكوك

ينقسم المزارعون بين مؤيّدين لقانون التشريع ومتشائمين متوجّسين من تداعياته. من جهة، يسيء بعض المزارعين المتفائلين تفسير القانون، فيظنّ أنّ زراعة حشيشة الكيف باتت شرعية، ويجهل بعضهم أنّ البذور التي من الممكن أن يرخَّص لزراعتها قد لا تتطابق بالضرورة مع البذور التي اعتادوا على زراعتها في مناطقهم. كما يخشى بعضهم من منافسة مناطق أخرى لهم إن تمّ تطبيق القانون، ويعتقد بعضهم الآخر أنّ القانون يحصر التشريع في مناطق البقاع والهرمل. غير أنّهم يُجمعون على أنّ تطبيق القانون، إن أتى مُجتزأً، لجهة تهميشهم أو إلحاق ضررٍ مادّي بهم، فسوف تؤدّي تداعياته إلى انفجارات اجتماعية وأمنية كبرى. ولا يتوانى قسمٌ منهم عن الحديث عن مخاطر حرب أهلية قد تؤدّي أيضًا إلى هدر دماء ضمن البيئة الشيعية، بما لا يلائم سلطات الأمر الواقع في مناطقهم، أي حركة أمل وحزب الله.  

من هذا المنطلق، يراهن معظم المزارعين على أنّ المراسيم التطبيقية لن تبصر النور، إذ يعتقدون أنّ تفعيل التراخيص سيتطلّب من الدولة التعاطي بعدل وحزم مع ملفّات تهميش أبناء الهرمل، وهذا ما لم يعتادوه تاريخيًّا، وما يعدّونه أيضًا أمرًا يفوق قدرتها. يستشعر بعض المزارعين الأكثر إلمامًا بالقانون الحالي أنّه قد يؤدّي إلى منعهم من ممارسة نشاطهم الزراعي الاعتيادي، أي زراعة حشيشة الكيف، والذي يشكّل مصدر دخلهم الأوّل، إن لم يكن الوحيد، ليُحلّ مكانها زراعةً بديلةً يُشكُّ في قابليتها للحياة في بيئة أرضهم الجردية، بخاصّة في ظلّ غياب دراسات الجدوى، ونظرًا إلى فشل تجاربهم السابقة مع الدولة والزراعات البديلة. كما نلحظ أنّ هذا الحذر مصحوب بشكوك مشروعة ترتقي إلى درجة الرُهاب من سوء نيّة المشرّعين اللبنانيين الذين، بحسب قول كثيرٍ من المزارعين، لا يبغون الخير للهرمل عمومًا، وللمزارعين بشكل خاصّ. 

بالتالي، يتوجّس المزارعون من نوايا مشرّعي القنّب الطبّي، إذ يرون أنّ القانون سيعمد إلى فرز فئات محسوبة على الأحزاب التقليدية لإعطائها التراخيص، مع حجب الترخيص عن الجماعات التي لا تنضوي لغاية الآن تحت رايات الأحزاب.  

قانون تشريع القنّب الطبّي كخطوة رمزية نحو الاعتراف بمشروعية الزراعة

من الناحية المادّية، أرسى قانون التشريع حاليًّا أجواءً من الارتياح لدى المزارعين، بحيث رفع معظمهم مستوى إنتاجهم. كما لوحظ انضمام عدد جديد من المزارعين في السنة الماضية، معظمهم ممّن يستصلحون أراضيَ صغيرة الحجم، رغبةً منهم في فرض أنفسهم كمزارعين فاعلين، مخافة أن يفوتهم القطار في حال حصرتْ الدولة التراخيص بالمزارعين الحاليّين. بمعنى آخر، يرى المزارعون أنّ الوضع القائم هو خير ما قد يحصلون عليه من القانون.

بشكل عامّ، يشعر معظم المزارعين أنّ قانون تشريع زراعة القنّب للأغراض الطبّية قد أسهم، لغاية الآن، في تحسين أوضاعهم المعيشية والأمنية، على الرغم من غياب المراسيم التطبيقية. فهذا القانون، وإن لم يتمّ تفعيله بعد، شكّل بالدرجة الأولى اعترافًا معنويًّا بمشروعية نشاطهم الاقتصادي، وفقَ رأيهم، إذ هو اعتراف من الدولة بأهمّية الزراعة بشكل عام، وبالحشيش خصوصًا، وبقدرات هذا القطاع على إنتاج الثروات، ما يشكّل للمزارعين تكريسًا لمبدأ التوافق بين مصالحهم الخاصة والمصلحة الوطنية.

من هذا المنطلق، يأمل كثيرٌ منهم في أن يتماشى تفعيل القانون وتنفيذه من خلال مراسيمه التطبيقية مع العفو العام عن المزارعين، ويذهب بعضهم أيضًا إلى المطالبة بالتعويض عن الضرر المادّي والمعنوي الذي لحق بهم وبمنطقتهم جرّاء سياسات التجريم والمكافحة والتلف في العقود الماضية.

التخوُّف من قانون تشريع القنّب الطبّي من دون قانون عفو عن المزارعين

أكثر ما يخشاه المزارعون هو منعهم من المشاركة في زراعة القنّب الطبّي وإنتاجه بحجّة عدم استيفائهم شروط الترخيص، أو لغياب صكوك الملكية في بعض الأحيان، أو بسبب مذكّرات التوقيف أو الأحكام الصادرة في حقّهم في أغلب الأحيان. من هنا تُطرح مشكلة عدم ربط قانون ترخيص القنّب الطبّي بقانون عفو عامّ عن المزارعين، كما تُطرح مشكلة ربط العفو عن المزارعين بمسألة العفو العام عن فئات أخرى من المطلوبين أو المحكومين في قضايا أخرى من تجّار ومروّجي مخدّرات أو مُتّهمين أو محكوم عليهم في قضايا إرهاب، ممّا يؤدّي إلى جعله مسألة خاضعة للمُساومات السياسيّة.

من هنا، يرى عددٌ كبيرٌ من المزارعين أنّه يتعيّن أن تلحظ المراسيم التطبيقية، في حال هدفت إلى المحافظة على حقوق أهل المنطقة في ما خصّ التراخيص والمساهمة في الإنتاج، أولوية المزارعين الحاليين بالترخيص، وإمهالهم فترة زمنية كافية لإصلاح أوضاعهم القانونية، قبل البدء بإعطاء التراخيص لمُزارعين جدد.

تشريع الاستهلاك أو التسامح من أجل تأمين توزيع عادل للثروات

أوصتْ اللجنة الاستشارية الوطنية اللبنانية للأخلاق، والتي تُعَدّ من الجهات النادرة التي استشارتها الدولة بشكل رسميّ في خضمّ العمل التشريعي على تشريع القنّب لأسباب صحّية، بأن يترافق قانون تشريع القنّب الطبّي مع تدابير هادفة إلى عدم تجريم الاستخدام الشخصي لأغراض ترفيهية . 

وهذا ما أكّده الدكتور رامي بو خليل، طبيب الأمراض النفسية والعصبية في مستشفى أوتيل ديو دو فرانس، إذ ينبغي أن يكون مبدأ عدم تجريم الاستهلاك شرطًا مسبقًا لأيّ تفعيل لقانون تشريع القنّب الطبّي. وبحسب الدكتور نفسه، قد يؤدّي تفعيل القانون بغياب عدم التجريم إلى خلق أنواع جديدة من التجارة السوداء وإلى جرّ فئات جديدة إلى حقل الإتجار بالمخدّرات، كأن يعمد بعض المستثمرين أو أفراد من أقاربهم أو العاملين لديهم إلى استخدام جزء من الإنتاج بهدف الإتجار غير المشروع. كما أنّ تجريم الاستهلاك في ظلّ قانون تشريع الزراعة لأهداف طبّية سيؤدّي حتمًا إلى تأثيرات سلبية على السوق السوداء لتجارة حشيشة الكيف: “لا يمكن التنبّؤ بتلك النتائج. وإنّما إذا كانت النتيجة ارتفاعًا بأسعار حشيشة الكيف، فسوف يشجّع ذلك على الإتجار غير المشروع. وإذا كانت النتيجة هي انخفاض الأسعار، فقد يؤدّي ذلك إلى ارتفاع الاستهلاك، وبخاصّة بغياب أيّ رقابة طبّية. في الحالتَين، سنكون أمام قنبلة موقوتة، من ناحية إثقال النظام القضائي بشكل غير مبرّر، بالإضافة إلى التداعيات السيّئة على النظام الصحّي من دون مراقبة من ناحية أخرى. في حين أنّ عدم تجريم التعاطي الترفيهي، وإن أدّى إلى رفع الاستهلاك، فهو أكثر تلاؤمًا مع إمكانيات النظام الطبّي في عمليّات احتواء المخاطر، كأن تتمّ مساعدة أو معالجة من هم بحاجة، ضمن المستشفيات أو المراكز المتخصّصة. الاعتبارات الطبّية تعلو هنا فوق كلّ اعتبار. للأسف، يبدو لنا أنّ المشرّعين اكتفوا بالنظر في المنافع الاقتصادية”.

تجدر الإشارة هنا إلى أمرَين: 

–       أنّ “المستهلك ما يزال يعاقَب حاليًّا وَفق قانون المخدّرات [25] بعقوبة قد تصل إلى ثلاث سنوات حبس مع غرامة، وهو من أكثر الفئات الاجتماعية عرضة للملاحقة والتوقيف (بمعدّل يبلغ نحو 3000 موقوف سنويًّا لفعل “التعاطي” فقط) .

–       أنّه يوجد حاليًّا في مجلس النوّاب اقتراح قانون يرمي إلى تعديل قانون المخدّرات الحالي منطلقًا من زاوية إعمال مبدأ “العلاج كبديل من الملاحقة والعقاب” لإزالة وصم وتهميش مستهلك المخدّرات [وصولًا إلى إلغاء تجريم استهلاك المخدّرات]، وقد تقدّمت به عدد من الجمعيّات العاملة في هذا المجال (في مقدّمتها جمعيّة “سكون”) عام 2016، ووقّع عليه عدد من النوّاب آنذاك – بهيّة الحريري وسامي الجميّل وجوزيف معلوف وغسّان مخيبر – مع تعهُّد منهم بتبنّيه والمصادقة عليه من نوّاب كتلهم النيابية” .

الطاقات الكامنة وإمكانيات الاقتصاد التضامني والتعاوني في قطاع القنّب الطبّي الناشئ

يأمل المزارعون، وإن كانوا متوجّسين من مستقبل القانون، في أن يحلَّ اليوم الذي يصيرُ فيه نشاطهم شرعيًّا. على الرغم من تخوّفهم من تجربة ريجي التبغ التي، إن اتُّبعت كنموذج في المراسيم التطبيقية، قد تضعهم في علاقة تبعيّة مزدوجة للدولة وللأحزاب، لا يتوانى بعضهم عن التأكيد على استعدادهم للتضحية بثلث مدخولهم أو حتّى بنصفه مقابل الحصول على حقّ ممارسة نشاطهم الزراعي تحت مظلّة القانون والشرعية. وبالطبع، إذا اعتبرنا أنّ قانون التشريع بحدّ ذاته خطوة إيجابية، يبقى الرهان على مصير المراسيم التطبيقية التي ستضمن أن تُدرجَ آليّة الترخيص والإنتاج والتوزيع المعايير الطبّية لجودة الإنتاج والتصنيع كما معايير توزيع الدخل بشكل عادل وديمقراطي.

من هنا، يكون التساؤل الأوّل للمزارعين عن ضمان حقّهم في المراحل الأولى لإنتاج سلاسل القيم، كما في تحسين شروط الحياة الاجتماعية في مناطقهم المحرومة. بمعنى آخر، ما الذي يضمن ألّا يفتح القانون الباب أمام شركات متعدّدة الجنسيّات أو امتيازات شبه احتكارية أو مجهولة لتحقيق أرباح كبرى على حساب المزارعين اللبنانيين؟ وإذا أرسينا احتكار الدولة بديلًا من احتكار السوق، ما الذي يضمن هنا أيضًا ألّا يلحق بهذا القطاع ما أصاب قطاع التبغ واحتكار الريجي، مع ما يفترضه هذا الاحتكار من توزيع زبائني للمداخيل، بدءًا بالتوزيع الزبائني للتراخيص وصولًا إلى الاستنسابية في توزيع الدعم أو المساعدات الحكومية؟

أوّلًا، يفترض التنظيم العادل للقطاع إعطاء التراخيص للمزارعين الحاليين، بما يتناسب مع حجم إنتاجهم الحالي، مع مهل زمنية كافية قبل إعطاء تراخيص لمزارعين جدد، كما شرحنا سابقًا، من أجل المحافظة على مصادر دخلهم الحالية، ولتسوية أوضاعهم القانونية التي لا يمكن أن تتمّ إلّا بصدور قانون عفو عامّ عنهم. أضِف إلى ذلك أنّه يُفترض أن تلحظ المراسيم التطبيقية الاستثناءات الخاصة بالتوزيع العشائري للملكية في جرود الهرمل، أي ألّا تربط التراخيص بحيازة صكوك الملكية، وإنّما أن تأخذ بالأعراف التي تضمن الاعتراف بحقّ المالك على أرضه؛ ذلك أنّ الدولة اللبنانية تتحمّل جزءًا من المسؤولية من خلال تقصيرها في إعطاء الاعتراف القانوني بالملكية العقارية في الهرمل، نظرًا إلى غياب المقوّمات القانونية لنقل الملكيّات على مدى عقود من الزمن.   

لا شكّ في أنّ الربط بين شروط التراخيص والشروط العشائرية لتوزيع الملكية العقارية معضلةٌ أساسية قد تتطلّب آليّات مُسبقة للفرز والتسجيل، ذلك أنّ التوزيع الحالي للأراضي في الهرمل منوط بأعراف وتقاليد تفترض التوافق بين العشائر من ناحية، كما تعتمد في الحين نفسه على ممارسات عنفية وعمليّات فرض لموازين القوى على أرض الواقع، من غزو أو ثأر أو احتكام لسلطة السلاح.

إلا أنّ إصدار مراسيم ترخيص الأراضي الزراعية لمزارعي الهرمل قد تكون في الوقت عينه مدخلًا إلى استرجاع دور الدولة كالضامن الأوّل والأخير لشرعية الملكيّة الفردية، وإلى إعادة جرود الهرمل المحرومة إلى كنف الدولة. من هنا، ترتسم أيضًا ضرورة تفعيل التنظيم التعاوني في توزيع الرخص، وذلك لقدرته على حلّ عقدة التقسيم الفردي للأراضي والتراخيص، ليتخطّاها نحو تنظيم جماعي للإنتاج، بما يتلاءم مع البنية الاجتماعية العشائرية، ونظرًا إلى ما يحتويه التنظيم العشائري من أوجه شبه مع التنظيم التعاوني، من تعاضد اجتماعيّ وشدّ أزرٍ بين أبناء العشائر من ناحية، ومن تغليب المصلحة الجماعية على الفردية من ناحية أخرى.

على صعيد آخر، يمتلك التنظيم التعاوني مقوّمات إضافية يفتقر إليها حاليًّا التنظيم العشائري لإنتاج القنّب، والتي قد يعوّل عليها لإرساء شروط أكثر عدلًا للإنتاج والتوزيع، كترسيخ أفقي لمبادئ الديمقراطية بين المُنتجين، خلافًا للتنظيم العامودي السائد حاليًّا داخل العشائر، أو فيما بينها.

ونظرًا إلى فشل التجارب التاريخية السابقة للاقتصاد الموجّه من قبل الدولة، والامتعاض المتزايد من آليّات السوق التي تضاعف من تهميش الضعفاء مع تركيز الثروة في يد القلّة، يطرح النموذج التعاوني نفسه كحلّ بديل أو كقطع ثالث أو وسطي بين احتكار الدولة واحتكار السوق.   

وبالفعل، أظهر النموذج الاقتصاديّ اللبنانيّ ما بعد الحرب أنّ مجالات تدخّل الدولة في الاقتصاد غالبًا ما تشكّل فرصًا انتهازية للتوزيع الريعي والزبائني للوظائف والثروات؛ كما أثبتت تجارب الخصخصة أنّها تشكّل بوّابة مفتوحة لتسلُّط الفئات الحاكمة على المرافق العامة.

من هذا المنطلق، يصبح المسار التعاوني ضروريًّا لاختبار نموذج بديل يضمن إشراك العدد الأكبر من المعنيّين بصنع القرارات والتحكّم في سَير الأعمال باستقلالية عن النفوذ السياسي أو الحزبي، كما يضمن أن يكون القطاع الناشئ في مصلحة الاقتصاد الوطني من خلال آليّات ديمقراطية قادرة على المحافظة على المنفعة العامة. ويتحقّق هذا الهدف من خلال حصر التراخيص بالتعاونيات، مع إلزام شركات التصنيع أو التصدير بشراء المُنتَجات الزراعية حصرًا من التعاونيات الزراعية، بحيث يضمن هذا الإجراء أوّلًا عدم خضوع المزارعين لاحتكار الشاري أو المونوبسوني، كما هي الحال مثلًا مع الريجي، كذلك يضمن عدم اعتماد كارتيلات شرعية من شركات عالمية أو محلّية أو مجهولة المصدر كبديلٍ للكارتيلات الحالية من شبكات التهريب والتجارة غير الشرعية.

وبما أنّ شروط زراعة القنّب الطبّي مماثلة لشروط أيّ زراعة أخرى، تنطبق على تعاونيات هذا القطاع إذًا التوصيات نفسها التي تنطبق على سائر التعاونيات الزراعية، والتي سبق لنا نشرها في دراسة على حدة، وأهمّها الآتية:

– تقليص تدخّل الإدارة في شؤون التعاونيات لإعطائها هامش الاستقلالية والتحكُّم الديمقراطي للأعضاء في قرارات الجمعية مع تفعيل دور الرقابة المحاسبية وتنشيط دور التدريبات وبناء القدرات؛

– تعديل آليّة الإنشاء بما يسمح بتأسيس أكثر من جمعيّة في المنطقة أو المحلّة نفسها، حتّى وإن قلّ عدد سكّانها عن 20000 نسمة، على أن يترافق ذلك مع تعديل الحدّ الأدنى لعدد الأعضاء من عشرة أعضاء إلى 2 أو 3 كما في معظم الدول التي تنشط فيها الحركة التعاونية؛

– إعطاء الأولويّة للتعاونيات في عقود الشراء العام أو في العقود التي ترعاها الدولة اللبنانية مع الجهات المانحة أو في البرامج التنموية الموقّعة مع الدولة؛

– إدراج العاملين الزراعيين ضمن نطاق قانون العمل مع ضمان تأمين الحماية الاجتماعية للمزارعين الموسميين أو الموقّتين، من خلال غطاء العمل تحت مظلّة التعاونيات، أسوةً بما تؤمّنه نقابات عمّال المرفأ للمياومين مثلًا، من خلال إدراجهم في لوائح الضمان الاجتماعي إذا استوفوا عددًا محدّدًا من ساعات العمل. وقد لا يتطلّب ذلك تعديل قانون العمل بالذات، وإنّما يمكن أن تكتفي المراسيم التطبيقية بإلزام التعاونيات التي ترغب في الحصول على تراخيص بتأمين شروط العمل اللائق لموظّفيها، من لبنانيين أو سوريين، من عاملين بدوام كامل أو جزئي، مع التسجيل الإلزامي في الضمان متى تخطّى العامل عددًا معيّنًا من ساعات العمل.

للاطلاع على الدراسة بنسخة pdf

انشر المقال

متوفر من خلال:

تشريعات وقوانين ، استخدام المخدرات ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني