اليسار التونسي: قراءة في جيولوجيا الزمن


2023-05-15    |   

اليسار التونسي: قراءة في جيولوجيا الزمن

“التاريخ هو العلم الوحيد الذي نعرفه ونعترف به”

                                                    كارل ماركس

يعيش اليسار التونسي شتاءه الأسخن: أزمة تلِد أزمات، تشظي أحزاب إلى حزيبات، سباق زعامات قديم جديد، مواقف متناقضة من قضايا سابقة وآنيّة، تصريحات وبيانات مُضادّة، تَشرذم مَواقِعي في الخارطة السياسية. وأخيرا لا “مُنقذ أعلى” كما أوصى نشيد الأممية. فمنذ قرن وعامين من بروز أول نواة شيوعية في تونس وبعيدا عن قصور الأحلام المشيّدة، تكاد كل العائلات البيولوجية لهذا اليسار تتفق -إلا في بعض الاستثناءات الراجعة إلى الانغلاق الإيديولوجي- بأنه مع كل هذه المُراكمات السياسية والنضالية والاجتماعية والثقافية أصبح اليسار يسكن بعيدا عن الشعب أو بكلمة أكثر قسوة يجلس على اليمين.

من نواقيس القلق التي يدقها البيت اليساري في تعامله مع إرث الـ100 عام: مدى تحمّله مشاغل ديناميكية هذا اليسار المبثوث سياسيا مدنيا وثقافيا وطلابيا وتحولاته طيلة كل هذه المدة الطويلة، ومواصلة فتح الأغلال التي كبّلت تنظيماته إيديولوجيا لعقود بمفتاح القراءات الهادئة، حتى يُمكن وضعه موضع التشريح التحليلي والفكري وتبيّن أي يسار وقف ويقف الآن وراء الباب. ثمّ التعرف على مكامن الخلل والصواب في قراءته السياسية والاجتماعية والثقافية، أوما أطلق عليه الناشط اليساري عزيز كريشان “معالجة اليقين الاستراتيجي” لليسار التونسي.

[1]

إن هذا الطّرح يتفرّع عنه تشريح للتاريخ عبر تحقيب يأخذ أهم هذه الفواصل المصيرية لليسار التونسي وتفكيك طروحاته واستذكار نتائجها وما بعدها. فالحدث يذهب والمعنَى يبقى. والتاريخ يتقدّم عبر صراع الاتجاه والاتجاه المضاد. لنكون بذلك أمام “أوانات يسارية ” تجتمع كالتالي:

–  أَوَان اليسار الأول ممثلا في الحزب الشيوعي التونسي بداية من عشرينات القرن الماضي.

–  أوان اليسار الثاني أو الجديد ممثلا في ” تجمع الدراسات والعمل الاشتراكي في تونس” المعروف اختصارا بآفاق أو برسبكتيف (Perspectives) والتنظيم اليساري “الشعلة” انطلاقا من الثلث الأول للستينات وبداية السبعينات.

-أوَان هذه اليسارات مُجتمعة لتصوير المُنحنَى العام الممتد من التأسيس مرورا بالتفرّع والتعدّد. وُصولاً إلى حركتها التنظيرية ومراجعاتها أو تنازعاتها الإيديولوجية ومواقفها التحليلية من قضايا محلية ودولية.

الحركة الشيوعية في تونس تنبُت من أرض فكرية  

لم يكن الشيوعيّون في تونس سوى نتاج واقع تاريخي بعد انغراس الاستعمار وظهور “شتات” من الحركات السياسية والمدنية والنقابية بداية القرن العشرين. فقد تأسست جمعية قدماء الصادقية سنة 1905 وتنظّمت حركة الشباب التونسي بقيادة علي باش حانبة في العام 1907. ثم أسّسَ عبد العزيز الثعالبي الحزب الحر الدستوري في مارس 1920 وأخيرا وُلدَ أول تنظيم نقابي عربي عن طريق محمد علي الحامي في نوفمبر 1924 تحت تسمية “جامعة عموم العملة التونسيين “، التي ضمّت عناصر شيوعية أو مُقرّبة من الفكر الشيوعي يتقدمها أحمد ميلاد والمختار العياري والطاهر الحدّاد وأحمد توفيق المدني .

أمّا دوليّا فقد ارتفعت الراية الحمراء في موسكو إثر ثورة أكتوبر 1917 التي أعلنت الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي وأطلق البيان الأوّل للأممية الشيوعية مقولة: “بداية عصر جديد، عصر تنهار فيه الرأسمالية وتعفّنها الداخلي، عصر الثورة الشيوعية البروليتارية”. ومن هذه البيئة ستكُون الحركة الشيوعية في تونس من الحركات القليلة التي تقاطَع فيها الاجتماعي مع الفكري والسياسي والثقافي. أدّى تشكّل هذا “الوعي التاريخي” إلى ظهور أوّل نواة شيوعية في تاريخ تونس في مدينة فيري فيل (تدعى مدينة “منزل بورقيبة” حاليا وهي تابعة لولاية بنزرت) إثر انعقاد المؤتمر الفيديرالي الخاص بالبلاد التونسية للفرع الفرنسي للأممية الشيوعية بإشراف المؤرخ شارل أندري جوليان في 27 مارس 1921 وحضور نوّاب منحدرين من أعراق وجنسيات مختلفة (تونسيون، فرنسيون، إيطاليون، مسلمون، مسيحيون، يهود) ثم عقد الحركة الشيوعية لأول مؤتمراتها بضاحية حلق الوادي في 18 ديسمبر 1921. ولعلّ هذا ” الخليط المحيّر”[2] من المناضلين في بلد مستعمر لم يكن مُمكنًا لولا وجود رابط جامع لأفراده، أساسه الفكر الشيوعي.

بادَرت الجامعة الشيوعية بإطلاق ذراع إعلامي بلسانين عربي وفرنسي. فحوّلت إدارة جريدة “المستقبل الاجتماعي” إلى ناطق باسم الجامعة الشيوعية بتونس وأصدرت صحيفة “حبيب الأمة”. وكانت علاقات الشيوعيين بنظرائهم في الحزب الحر الدستوري بقيادة الثعالبي ثم الحبيب بورقيبة ورفاقه جيدة ومؤيدة للمطالب التحررية من الاستعمار ومنادية ببرلمان تونسي. أكثر من ذلك سَاروا وطنيّا عكس الأحزاب الشيوعية الأوروبية التي نشأت كتعبيرة طبقية عن الصراع ضد الرأسمالية والبورجوازية. ونزَعوا أي صفة “تمدينية” عن هذا الاستعمار. لكن الانتماء إلى الشيوعية كان في فترات عدة وفق القيادي التاريخي للحزب الشيوعي التونسي محمد حرمل عبارة عن سباحة ضد التيار “نظرا لجملة من الظروف الموضوعية والأخطاء التي تراكمت، أهمها المتعلقة بالقالب السياسي الوطني”.[3]

 الحزب الشيوعي و”عُقدة” التونسة 

رغم تميّز الحركة الشيوعية في تونس بطرح فكرة الاستقلال مُبكّرًا كطريق للبروليتاريا التونسية “للاستيلاء على السلطة من أجل تشييد المجتمع التونسي”[4] -وقد تسبَّب هذا الموقف في تجميد نشاطها طيلة عشر سنوات- فإن تخلّيها عن هذا المطلب لصالح شعار “الجبهة المعادية للفاشية” وتسييج تحرّكها بمربعات الصراع الطبقي والأممية البروليتارية على حساب المسألة الوطنية قد “قصم الظهر” الجماهيري لحركة تنشد الانتشار زمن حظر نشاط الحزب الحر الدستوري الجديد وملاحقة قياداته.

وإن دَافعت زعامات شيوعية فيما بعد على غرار محمد النافع ومحمد حرمل عن هذا “التحول التكتيكي” أوما سُمّيَ بمراجعة سلّم الأولويات، فإن تهمة ” التفرنس الشيوعي” و” التَّسَفيُت العقائدي” (نسبة للاتحاد السوفياتي) ظلّتا تُلاحقان الحركة الشيوعية رغم تصعيدها لقيادة تونسية في شهر جوان من العام 1936 واختيار علي جراد على رأس قيادة جماعية، ثم إقرار استقلالية التنظيم الشيوعي بتونس ليًصبح “الحزب الشيوعي بالقطر التونسي” في العام 1938 بعد انفصاله عن الأممية الشيوعية الفرنسية وانتخاب علي جراد على رأس الأمانة العامة.

إن هذه “العقدة” التي استغلّها الخصوم السياسيون تفطّن إليها فيما بعد عدد من القادة الشيوعيين، من بينهم علي جراد نفسه الذي طُرِد من الحزب في أعقاب المؤتمر الثالث المنعقد سنة 1948 بتهمة “التعصب القومي”. ومع حصول انسحابات أخرى وفقدان الحزب لرصيده الشعبي، سيُحاول الشيوعيون فكّ العزلة ولو بشيء من التأخير، لكن دون نجاح واضح في نزع وصم “التبعية العمياء”. حول هذا “المأزق” أو ما سمّاه بـ”التطبيق الغريب للأممية”، يقول محمد حرمل في اعتراف واضح: “طرَح الحزب القضية الطبقية والاجتماعية. لكنه فَعلَ ذلك على حساب وجهه الوطني. فعندما طرَح القضية الطبقية طرَحها دون شكلها الوطني أي أن تكون القيادة التونسية بحتة سواء في النقابات أو الحزب. وقد استطاع الحزب أن يُضفي الطابع التونسي على نفسه. وعند الاستقلال أصبح للحزب الوجه الوطني وقَضينَا على الالتباس الذي أضرّ بمسيرته ونفوذه وخسرنا بسببه الكثير”.[5] 

يسهُل الاستنتاج أن معركة “كسر الحواجز” لم تكن سهلة. فرغم محاولات “غسل الذنب الوطني” وتغيير الأولويات فإن العقل الشيوعي التونسي ظلّ تحت وقع “الغريزة اللينينية” يدور حولها. لينين نفسه يقول بـ”ضرورة الارتباط بالمهام المطروحة في الميزان العالمي”. وهذا ما جَعل الحزب -إلى حدود الوصول إلى مفاوضات الاستقلال الداخلي- في حالة غُربة داخلية وشبه عزلة لتفويته فرصة الانقضاض على أم القضايا وهي القضية الوطنية، بدل شغل النفس بالهم الأممي .قادَ ذلك  إلى تأسيس ثان للحزب الشيوعي التونسي أو إعادة ترتيب للبيت ليتواصل “مسار تونَسَة الحركة الشيوعية الطويل والمعقد، والمتناقض أحيانا، بعد أن عرف في بداية الاستقلال حركة نقدية داخِلَه قام بها عدد من أعضائه المثقفين مثل عبد الحميد بن مصطفى ونور الدين بوعرّوج والحبيب عطيّة. رغم أن الفكر السائد وقتها يقول إن الحزب الشيوعي لا يخطئ”.[6]

بريسترويكا سابقة لأوانها 

اندلعت حركة نقدية جذريّة صلب الحزب الشيوعي مباشرة بعد الاستقلال. لتَبلغ أوجها في المؤتمر السادس للحزب المنعقد في ديسمبر 1957. فبعد أن كان الصّراع مع الحزب الحر الدستوري الجديد أثناء الاستعمار مُغلّفا بما كان يسمّيها الحبيب بورقيبة “الوحدة القومية الصماء”، سيكون الحزب الشيوعي أمام اختبار موقفه الجديد من “البورجوازية الوطنية” وتحديد رؤيته من مجمل التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية التي ستعرفها تونس المستقلة. وبعد تأييد نقدي في بداية العشرينات لحزب الثعالبي سنكون أمام تأييد نقدي ثان لحزب الاستقلال الذي اتّجَه إلى توسيع حزامه المدني بتحالف مُعلن مع الاتحاد العام التونسي للشغل ومنظمة الأعراف. وهنا ستسمح مساحة النقد الذاتي التي أطلقها الحزب واعترفَ فيها بجملة أخطاء قاتلة بالقفز فوق تناقضات النظام الوليد بقيادة الرئيس الحبيب بورقيبة. إذ شارك في انتخابات المجلس القومي التأسيسي سنة 1956 ثم عَارض النظام الرئاسي والتوجه الليبيرالي الأوّل قبل الانحناء أمام التجربة التعاضدية التي أيّدَها بجملة من المحاذير.

فَتَحت لحظات المصارحة القاسية وما عُرف بـ “بيان النقد الذاتي” لمؤتمر 1957 الباب للحزب الشيوعي التونسي ليرسّخ قدمه في المشهد السياسي الجديد. إلا أن المحاولة الانقلابية لسنة 1962[7] -رغم عدم دعمه للجناح اليوسفي في صراعه مع الجناح البورقيبي- سَرّعت بحظره ودخُوله النشاط السري لمدة 18 عاما. وهكذا انضمت البلاد رسميا إلى نادي الحزب الواحد والزعيم الواحد. فقد رأى بورقيبة دفاعا عن القرار أن الشيوعيين ساهموا في”المؤامرة” بكتاباتهم وبياناتهم و “خَرّْطُوا عْلِينَا النّاس” (جَعلُوا الناس أكثر جسارة ضدنا).[8] لكن عصارة الفكرة الأساسية المستخلصة بعد أربعة عقود من بروز الحركة الشيوعية في تونس حسب الأستاذ في علم الاجتماع عبد العزيز لبيب أن “كل حركة يجب أن تكون وليدة العجينة الثقافية الحضارية لمحيطها. وأن اليسار الأوّل في البلاد قام أساسا على فكرة سياسية اجتماعية نقابية”.[9]

هذه الفكرة -رغم أن المهمة المطروحة أمامها هي النضال الوطني لنيل الاستقلال- اصطدمت بصخور الواقع حسب الناشط اليساري في تنظيم آفاق- العامل التونسي والصحفي أبو السعود الحميدي، الذي قال: “هذا الوضوح النظري لم يكن دائما مساهما في النهوض بهذه المهمة ليتم الانكفاء على المهمة الاجتماعية التي هي نظريا مهمة ثانوية وترتبط معالجتها بمآل المهمة الرئيسية. فضلا عن أن المهمة الثانوية حتى لو أنجِزت على أكمل وجه لا يمكن أن تؤدي إلى تبوؤ الحركة التقدمية مرتبة القيادة في الحركة الوطنية”.[10] وهو ما تَمّ فعليا حين ذهبت قيادات في البلدان المستقلة حديثا إلى منهج الحزب والرأي الواحد ومركزة القرار السياسي ومصادرة الحريات عبر استغلال الشرعية النضالية والسلطة .

هذا التحوّل نحو الحكم الآحادي الذي حَاول الحزب الشيوعي مُحاصرته بالدفع أن “الديمقراطية كل لا يتجزأ” وقيمة في حد ذاتها عند “مركَستَها ” في محيطها، سيؤدي إلى التقاط شبيبة طلابية ناشطة في فرنسا ومسلّحة بأدوات التحليل اللحظة لتشكيل حائط تنظيمي راديكالي ضد النظام و”إقامة معارضة تحدّ من غلواء السلطة القائمة وتدفع المدافعين عنها إلى التبصر وسعة الأفق” حسب أبو السعود الحميدي. فتمّ الإعلان عن ميلاد “تجمع الدراسات والعمل الاشتراكي في تونس” المعروف اختصارا بـ”برسكتيف” أو “حركة آفاق” استنادا إلى عنوان النشرية التي أصدرها التنظيم أثناء المرحلة التأسيسية.

سيكون ميلاد برسبكتيف إيذانا ببدء “محنة” الحزب الشيوعي المحظور وانطلاق الأوان الثاني لليسار أو ما أطلق عليه اليسار الجديد. وفي أوّل فصوله فَتحَ مسار من “التراشق الفكري”. ليصل إلى حدّه عندما قال محمد حرمل في بعض كتاباته “إن مقولة أنجلز وماركس أن الدولة هي التعبير على مصالح الطبقة الاقتصادية والأقوى المهيمنة لم تكن صحيحة 100% في المثال التونسي ولم توجد إلا بعد الاستقلال”. ليجيبه الناشط ببرسبكتيف وقتها عزيز كريشان بكراس عنوانه “إجابة عن التحريف الحرملي”.[11] هذا “التنابز بالألقاب الإيديولوجية” أخذ عنوانين بارزين انحصرَا في رمي الحزب الشيوعي بالتحريفية. وردّ الشيوعيون على البرسبكتيفيين بتُهمة “اليسراوية”.

 ميلاد “برسبكتيف الأم “

بعد إجهاز بورقيبة على ما تبقى من “فلول” المعارضة اليوسفية، وشنّ اعتقالات واسعة في صفوف قيادة الحزب الشيوعي وشحذ سكاكين التحجيم بحق الاتحاد العام التونسي للشغل بقيادة أحمد التليلي وهيمنة الحزب الحاكم، أُعلِنَ من فرنسا عن تشكيل أوّل تنظيم يساري في تونس غير منحصر خطيا أو حزبيا بعد نقاشات طويلة بين تياراته السياسية وأفراد جيل مُعبر عما أسمته الكاتبة التونسية هالة الباجي بـ”خيبة الأمل الوطنية”. فقد احتضن “تجمع الدراسات والعمل الاشتراكي في تونس” جملة روافد ماوية وتروتسكية وبعثية وناصرية ثورية وماركسية ومستقلين مع “زحف” طلابي واسع من الاتحاد العام لطلبة تونس الذي كان قبلها “دستوري الهوية والهوى”. وتقدّمت عناصر من الجيل الأوّل والثاني للتبشير بـ”الثورة البروليتارية العاجلة” والالتحام بالعمّال للنضال ضد النظام البورقيبي “الرجعي والبرجوازي والعميل” وفق الأدبيات التحليلية السائدة للتنظيم بعد أن استوفت “صراعها الهادئ” معه بادئ الأمر. تتسع لائحة هذه العناصر إلى أسماء كثيرة من جيلي برسبكتيف لعبت دورا مهما في الحياة السياسية والحقوقية والثقافية والأكاديمية كنور الدين بن خذر وجلبار النقّاش ومحمد بن جنات ومحمد الشرفي وخميس الشمّاري وأحمد السماوي والهاشمي جغام ومحمد محفوظ والهاشمي بن فرج ومحمد صالح فليس وحفناوي عمايرية وأحمد نجيب الشابي وحمة الهمامي ومحمد الكيلاني وفتحي بلحاج يحيى وأبو السّعود الحميدي وعز الدين الحزقي وعزيز كريشان. والقائمة طويلة جدا…

كانت بذور النشأة في شهر سبتمبر من العام 1963. وقد تزامَنت مع انفتاح عقول عدد كبير من الطلبة في فرنسا على ثورات وطنية مسلّحة في الجزائر وفلسطين وفيتنام والكونغو وكوبا. رأى فيها هذا الجيل “أحلامه وشبابه ” وبدأ “غليان المرجل” ضد عدّة ملفات سياسية واقتصادية واجتماعية اتضحت ملامح تسخيرها لخدمة مصالح الطبقة البورجوازية رغم وجهها الاشتراكي التعاضدي الجميل. وقد أنذر فوز تحالف الفصائل اليسارية (شيوعيون وتروتسكيون واشتراكيون عرب وتقدميون مستقلون) في انتخابات فرع باريس من الاتحاد االعام لطلبة تونس بالاتجاه نحو “بلشفة المنظمة الطلابية”. وتحسبا لذلك، سارع المكتب التنفيذي للاتحاد إلى حلّ هذا الفرع “المتمرّد” ليجري انتخابات نواب مؤتمر اتحاد الطلبة الذي آل مرة أخرى إلى فوز ساحق لطلبة اليسار. عندها انتهى الأمر بما عُرف تندّرا لدى الطيف الطلابي ب ـ”واقعة الصندوق” الذّي هربت به عناصر دستورية من باريس نحو تونس وأجرت فرزا عجائبيا لنتائجه أسفر عن نجاح كل نواب الحزب الدستوري .

 جاء اختيار كلمة “التجّمع” وعدم تحويل الحركة الطلابية في أغلب عناصرها إلى حزب.، إثر نقاش واسع باعتبار أنه “من غير المجدي تكوين حزب سياسي في المهجر”[12]. بل “الاقتصار على ائتلاف سياسي بين نفس الأطراف التي ساهمت بشجاعة في التحالف النقابي”.[13]  فغاية المؤسسين كانت بعيدة عن طموحات الحكم لكنها مُجتمعة حول قضايا الحريات العامة والحكم الفردي والاهتمام بأمور جوهرية تستدعي تحليلا لظواهرها “لأجل تونس أفضل في الحريات والتعددية” مثلما حمله شعار أول عدد من نشرية برسبكتيف في ديسمبر 1963 .

من هنا ستكون حركة برسبكتيف بمثابة الحاضنة لإعادة هندسة المشهد السياسي. ولتَرسيخ حضورها أكثر تمت “مركَزة” نشاطها في تونس بدل فرنسا والانتقال من الهيكلة الأفقية إلى العمودية بعد لقاء قرية الشراحيل في ضواحي مدينة المكنين الذي عُرف بـ”مؤتمر الخمسين”. وتمّ وضع قيادة مركزية قبل تدشين مرحلة الاختبارات النضالية المحلية بهدف بعث جيل جديد متسيّس من “الأنتلجنسيا”، ينطلق في تحاليله من الواقع الموضوعي ويبتعد قدر الإمكان عن “الصرامة الإيديولوجية” و”تعاليم الماركسية” بما هي مرشد للعمل وفق العبارة اللينينية.

رغم كل هذه “المجملات” يَرَى أبو السعود الحميدي أن “ظهور برسبكتيف جاء إيذانا بنوع جديد من المعارضات الراديكالية. فقد ظهرت على يسار الحزب الشيوعي التونسي الذي كان موقفه المساندة النقدية للسلطة. هذه الراديكالية تَشكّلت على الأرضية التي قامت عليها تجربة النضال الوطني والاستقلال وبدايات بناء الدولة الوطنية الجديدة. وكانت تسعى إلى تعميق هذه التجربة وتجذيرها ودفعها نحو آفاق أعمق وأرحب”. ومن هذا المنطلق الراديكالي بَقِي “فخ” التعدد الفكري والإيديولوجي عالقًا إلى حين بروز اختبارين حقيقيين آنيين أمامه: 

أوّلاً اختبار الموقف من المسألة القومية عامة والقضية الفلسطينية خاصة. وثانيا اختيار البعض من قيادييه المذهب الماوي وتبنّي أطروحات الحزب الشيوعي الصيني.

يد ماو مع الجماعة 

فيما يتعلّق بالاختبار الأول رفض البرسبكتيفيون أوّل الأمر الطرح القائل بوجود أمة عربية ودافعوا بشدة عن فكرة “أمم عربية” حد مناصبة العداء للقومية العربية باعتبارها من “الترّهات الرجعية التي تقوم على أخوة الدم والعرق والدين”. بل مَضى الكراس الثاني للمجموعة إثر هزيمة جوان 1967 تحت عنوان “المسألة الفلسطينية في علاقتها بتطور النضال الثوري في تونس” في تبنّي فكرة إنشاء دولة بروليتارية على أرض فلسطين بقيادة الطبقة الشغيلة الفلسطينية واليهودية على حد سواء وتجاوز الإشكالات القومية من الطرفين”.[14] وعُرِفَ ذلك بــ”الكرّاس الأصفر” نسبة إلى لون غلافه. 

أما بعد نكسة 1967 فقد تحوّلت “كعبة الحج الثوري” إلى فلسطين تحت وقع مظاهرات الشارع ومراجعات الجغرافيا. إذ قامت “حركة تصحيح” دوّنت وثيقة مضادة للنشرية الصفراء “أعادت فيها التذكير بتعريف “الرفيق” ستالين لمفهوم الأمة الذي تم سحبه على الأمة العربية والاستنتاج أن ما ورد في الوثيقة الصفراء “السيئة الذكر” انحراف تروتسكي لا صلة له بالماركسية والفكر الشيوعي الحنيف”.[15]

ساهمت “الهجرة العكسية ” لقيادات الخارج نحو الداخل لشد أزر الرفاق في محنتهم إثر محاكمات العام 1968 في بلورة نقاشات أوسع مع بدء الرحلة السجنية.  فبعد “الهجرة نحو الشرق” فيما يتعلق بحسم المسألة القومية العربية والتلاقي مع الرؤية البورقيبية حول مفهوم الأمة التونسية حَسم التنظيم اعتماده على المدخل الماوي عنوانا نحو الثورة التي لم تكتمل في المجتمع التونسي، كمرحلة لبناء الاشتراكية على النّمط الصيني .إن ذلك سيملأ مجدّدا الكأس الفائض من الخلافات بين معسكرين في برسبكتيف. وسيعجّل في انشطار التنظيم كنوع من الفرز العقائدي الجديد، الذي سُمّيَ بثورة الأبناء على الآباء. ليُسرع بميلاد “برسبكتيف 2″ أو ما وَصفه المناضل اليساري والصحفي الهاشمي الطرودي بـ”التخميرة الثورية” التي لم يشعر بها الرفاق. أما الناشط في التنظيم فتحي بلحاج يحيى فقد أرجع نقطة الخلاف الرئيسي حينها إلى الجمود العقلي للتنظيم ورسم حدود الثورة داخل الوطن التونسي في ارتباطها ببعدها الاشتراكي العالمي”.[16]

يختصر الباحث في علم الاجتماع السياسي المولدي قسّومي كل هذه السيرورة بالقول إنه عند ولادة تنظيم برسبكتيف “صار هناك خطان يساريان: واحد ينحدر من الحزب الشيوعي وآخر من برسبكتيف ومشتقاتها فيما بعد. وسيتواصل ذلك فيما بعد إلى أن التقيا في أحداث الحوض المنجمي سنة 2008 ثم الثورة في 2011، فجبهة الإنقاذ سنة 2013. ليتفرقا مجددا”.[17]

وفي المجمل حَسَمت جملة عوامل في انتهاء تجربة برسبكتيف الأولى. فالظرفية التاريخية المُمتدة من الثورات الفيتنامية والكوبية والحرب العربية الإسرائلية، مرورا بالخلاف الصيني السوفييتي وآثاره على الحركة الشيوعية العالمية، ثم تباين القراءات للواقع التونسي، والضربات الأمنية لتجفيف منابع “الجراثيم” حسب التوصيف البورقيبي لنشطاء اليسار وتوسّع النقاش حول ترتيب البيت الداخلي، كلها عوامل سرّعت بتفجير التناقضات والحسم التنظيمي الذي سيُعلن عن نهاية مرحلة وميلاد مُنظّمة جديدة تقطع مع ماضي “التجمع” باتجاه “حزب يجمع الطبقة الكادحة ويستطيع توجيه المعارك التي نخوضها وجهة ثورية شاملة”.[18]              

برسبكتيف- العامل التونسي أو “برسبكتيف البنت  

لم تكن برسبكتيف الأم حركة “مُنبتة” أو غريبة عن مُحيطها. لكن الضّربات الأمنية وتفكيك نسيجها ثم المحاكمات القاسية أمام محكمة أمن الدولة نهاية الستينات مثّلت جزءًا من وصولها إلى نهايتها الدرامية سنة 1975، بغض النظر عن نهاية الوعي الجنيني لقياداتها بمسألة الخصوصية في إطارها التنظيمي المفتوح على كل الحساسيات. ولم ينزعج بورقيبة حين قرّرت التحول إلى نواة حزب بروليتاري ماركسي لينيني بل انزعج حقا حين راهنت بعد “دروس” معتقل برج الرومي على “منح اليسار هوية وطنية”.[19]

هذا التمفصل التاريخي المهم سرَّع من آليات الفرز داخل الحركة. كما شكّلَ فرصة لإنضاج أفكار جديدة تتعلق بالأحزاب والتنظيمات الشيوعية كأداة “ليخرج اليساريون من تجربة آفاق التي كانت تعتبر تغييرا راديكاليا للحركة اليسارية التونسية بمفهوم جديد للعمل السياسي وقراءة أخرى لقضايا ومعضلات المجتمع التونسي”.[20] ومن هنا تمّ إنشاء تنظيم العامل التونسي المرتكز في أدبياته على الموروث الماوي والتروتسكي وإعلان وجود اليسار الماركسي في تونس .

يقول أبو السعود الحميدي عن هذا التحول: “جاء نتيجة لاستخلاص التنظيم الجديد أن الإشكال ليس سياسيا بتبني هذه الأطروحة أو تلك. بل في افتقاره إلى بناء إيديولوجي خاصّ به يسعى من خلاله إلى صياغة هويته الإيديولوجية والإسهام بالتالي في توطين الفكر الماركسي في تونس على أساس ما اكتسبه من تجربة متفردة”.[21] وهو الأمر الذي مضت فيه عناصر من التنظيم بغاية إحداث “ثورة داخل الثورة ” و”إيجاد وعاء تنظيمي سياسي يتبنّى الماركسية صيغة عامة، وينظّم نضالات شعبية في المعركة مع النظام”.[22] ومع شروع التنظيم في اتباع تكتيك الدعاية لبرسبكتيف-العامل التونسي وترويج العقيدة الماركسية اللينينية والأفكار الماوية وسياسة “القرب النصي” مع البروليتاريا بتوزيع أعداد من نشرية العامل التونسي بالدارجة التونسية في المهجر والداخل “بَاشْ تِخدم الطبقات الكادحة وتْعرّف بْكِفاح العمّال التّوانْسَة وِينْ كَانُوا”[23] نجح في تركيز نشاطه في الوسطين العمالي والطلابي، ما جعله يُبلور “اتّجاهًا ديمقراطيّا عميق الجذور صلب الحركة الطلابية التونسية وفي قاعدة الحركة النقابية العمالية. الأمر الذي كان له تأثير مباشر على تجذّر النضال الديمقراطي في الجامعة التونسية في صفوف الطلبة الذين قاموا بانتفاضة عارمة في 5 فيفري 1972”.[24] بذلك ضربت برسبكتيف-العامل التونسي عصفورين دعائيين وتعبويين بحجر واحد. وراوحت بنجاح واضح بين تكتيك الدعاية واستراتيجية الانتشار.

بركان الخلافات المقيد في العامل التونسي 

رغم تواصل استراتيجية “نتواجد حيثما تُوجد الجماهير” إلى حدود أواسط السبعينات وافتكاك التنظيم كل مربعات النشاط الطلابي والسياسي المعارض، فإن الخلافات المؤجّلة لم تأخذ كثيرا من الوقت ولخّصها المؤرخ التونسي عبد الجليل بوقرة في نقطتين أساسيتين :

  1. مسألة استراتيجية غير عاجلة وهي طبيعة الثورة المقبلة في تونس. هل تكون اشتراكية عمّالية أم ثورة وطنية ديمقراطية للعمّال وفقراء الفلاحين؟
  2. مسألة تكتيكية وعاجلة وهي الاستمرار في الدعاية  أو الانتقال إلى تكتيك التحريض .

من المسألتين نبع اتجاهان: الأول يُمثل الدعاة المؤسسين للعامل التونسي المرتبطين بفكر برسبكتيف والذين يرون أن هذا المجتمع رأسمالي تابع وأن الثورة المقبلة اشتراكية يتم فيها افتكاك السلطة من قبل البروليتاريا وهو منهج إيديولوجي أدّى إلى تأسيس حزب العمال الشيوعي التونسي وبقية تفرّعاته. أما الاتجاه الثاني فيستخلص أن المجتمع التونسي شبه مستعمر- شبه إقطاعي لم تكتمل فيه مرحلة الثورة، بل إن الثورة الوطنية الديمقراطية هي مرحلة ضرورية للانتقال إلى الثورة الاشتراكية وهو تقييم أدى إلى بروز الخط الوطني الديمقراطي (الوطد وبقية مشتقاته).

إن ما اعتُبِر عجزا عن بعث قوة طليعية سيُلقي بظلاله مرة أخرى على برسبكتيف-العامل التونسي بعد نقاشات السنوات الممتدة على طول الرحلة السجنية الثانية أواسط السبعينات. وكأن الأقدار تَضع دوما غياب الوعي المُطابق للواقع التونسي كمطب يقع فيه كل تنظيم يساري جديد، وبذرة انقسام مزروعة أساسها المجادلة بالنصوص حول فكرة أن البلاد ناضجة للعمل الثوري. وبعد نعي “برسبكتيف 1” ستذهب “برسبكتيف 2” أو العامل التونسي إلى منتهاها الطبيعي. لتَتَناسل منها تنظيمات أخرى أو تنبت على تُخومها. ومن هنا ستنتهي إلى أحزاب وتيارات وأذرع طلابية وحقوقية وثقافية بعد أن تأثرت بضربات النظام البورقيبي المتعاقبة والانقسامات القاتلة حدّ وصولها طيلة مسارها إلى “ثلاث منظمات على شاكلة جيش مكسيكي: ضباط من دون جنود”. [25] 

تنظيم الشعلة: الانحياز بين قطبين 

مَثّلَت السبعينات ربيع الحركة الشيوعية في تونس، بتفرّع الشجرة السياسية لبرسبكتيف واليسار عموما ببروز تيار “الشعلة” بعد وحدة عضوية بين مجموعتين هي: التجمع الماركسي اللينيني التونسي والحلقات الماركسية اللينينية التونسية، التي أصدرت لسان حالها السري جريدة الشعلة في جويلية 1973. ثم أطلقت أوّل برنامج لها في العام 1976، الذي انبثق عن حلقاته الخط الوطني الديمقراطي. وتختلف المدونّة الشفوية والمكتوبة والمحفوظة لعدد من الفاعلين حول عدة وثائق ونصوص تهمّ حلقات الشعلة وجملة أحداث ارتبطت بها، بالنظر إلى طبيعة العمل السري وبعض الذين “يلوون يد” التاريخ حسب توصيفات متطابقة لعدد من أفرادها. لكن جلّ الشواهد التاريخية تُجمع أن أدبياتها وعملها التنظيمي بقيا “منطقة ظل” لابد من  تنويرها عبر جمعها ونشرها لحفظ جزء مهم من الذاكرة السياسية الوطنية .

نافست “الشّعلة” منذ بدايتها تجربة العامل التونسي -التي كانت تنعتها بالانحراف التروتسكي- في الحقول الشبابية والطلابية والثقافية والنقابية. وأسّس هذان التنظيمان معًا للمرحلة الأخصب في تاريخ التطارح الفكري والصراع النظري لليسار حول طبيعة المجتمع والثورة والقضايا القومية والدولية. والتقيا في المقابل على فكرة تأسيس حزب الطبقة العاملة واتخاذ الماوية “ديانة” مع اتجاه أكثر راديكالية للشعلة لبناء الحزب الماركسي اللينيني تحت “نيران العدو” وعلى ضوء النظرية الثورية، وبإفراز من الحركة الجماهيرية نفسها وليس بشكل فوقي.

وعن الخطوط الاستراتيجية العامة للتيّار، بالإمكان حصرها كالآتي:

  • تحديد طبيعة المجتمع كـ” شبه شبه ” والتي ذكرناها سابقا، أي شبه مستعمر-شبه إقطاعي. 
  • تحديد طبيعة النظام كنظام لا وطني ولا ديمقراطي. وهكذا فإن طبيعة الثورة والمرحلة هي الثورة الوطنية الديمقراطية .

وللوصول إلى الهدف الأسمى لإرساء الديمقراطية الشعبية وبناء الاقتصاد الوطني، فإن التنظيم سيكون أمام مهمّة إنجاز تحالف واسع بين الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء والبرجوازية الوطنية وكل القوى والفئات المعادية للامبريالية بقيادة الحزب الشيوعي ممثل الطبقة العاملة. وهو تقريبا استنساخ مباشر للتقييم الذي استخلصه الحزب الشيوعي عن الصين في عشرية الأربعينات. وتذهب دراسات أن التنظيم “تميّز بكونه لم يُشكّل تفرّعًا عن منظمة آفاق العامل التونسي، بل تأسيسا لتجربة ستُفرز هي أيضا تفرعاتها الخاصة بها. وتُشكّل الشعلة تيارا موازيا للعامل التونسي إلى حدّ أن حركة المرور من هذا التيار إلى ذلك نادرة جدا وتقتصر على بعض العناصر دون وجود تداخل بينهما”.[26]  في حين يؤكد الباحث في التاريخ رضا مقني أن “إنتاجها الفكري والسياسي والعملي (منظمة الشعلة) تميَّز بغزارة مُلفتة للانتباه تجسدت بالخصوص في نص حمل عنوان تاريخنا وتاريخهم”.[27] وانتقدت فيه مراحل مهمة من تاريخ البلاد السياسي والاقتصادي والاجتماعي الحديث .

أما نقطة الاختلاف الرئيسية مع العامل التونسي فقد تمثلت بالمسألة القومية والأمة العربية التي هي “بصدد التشكل”. فقد حدّدها تنظيم الشعلة في نص أوّل حول حرب أكتوبر 1973 وفكّكَ فيه الصراع العربي الصهيوني والتطورات السياسية العربية بحسم: هل هذه الحرب وطنية أم لا؟ وكان تعاطيه معها بالذهاب فيها نحو ما بعد الأقصى البعثي والناصري برفع شعار التنظيم العربي الموحد في المسألة القومية واعتبار الوحدة العربية هدفا استراتيجيا وطرح تحرير فلسطين من “النهر إلى البحر” عبر حرب شعبية طويلة الأمد، بدل الحرب النظامية وتأسيس جبهة تقدمية عربية مناهضة للهيمنة وضد الحلول الاستسلامية.

 منظمة الشعلة بين الطلابي والنقابي 

هذا اليسار السبعيني الجديد زَامن في توقيته حراكا طلابيا وتلمذيّا كبيرا وقمعا غير مسبوق من السلطة بعد محاكمات 1974، التي مسّت عناصر من الشعلة، ثم أعقبتها محاكمات 1975. ممّا سرّع في عودة الكوادر الناشطة في الخارج إلى تونس بعد نجاح التنظيم في بناء ذراع مهجري فاعل (اتحاد العمال المهاجرين التونسيين) والنشاط بفعالية في اللجان النقابية المختلطة لمزيد “الالتحام بالجماهير والوصول إلى القاعدة الاجتماعية والطلابية”. إذ أنتجَ هذا الاهتمام بالحقل الطلابي في بداية السبعينات (1973، 1974، 1975) تأسيس حركة الطلبة الوطنيين الديمقراطيين سنة 1976 كإطار جماهيري وَضع ميثاقا خاصا به وتبايَن مع الخط السائد للهياكل النقابية المؤقتة. ومن هنا “تنطلق نشأة التيار الوطني الديمقراطي يعني مجموعات الوطنيين الديمقراطيين “وطد” والوطنيين الديمقراطيين بالجامعة “وطج ” وغيرها من المجموعات التي عرفتها الجامعة وتعود كلها إلى البحر الأصلي أي الشعلة”.[28] 

حَصلَ المنعرج في 26 جانفي 1978. إذ أنه بعد معركة ليّ الذراع بين الاتحاد العام التونسي للشغل والنظام، التي انتهت بخميس أسود[29] إثر إضراب عام، رفضت الشعلة خلافا لاستراتيجية العامل التونسي المبنية على “الافتكاك” التعامل مع الهياكل النقابية المُنَصّبة بقيادة التيجاني عبيد. وطرحت ما سُمّي بلجان المبادرة النقابية الوطنية لتطويق “الانقلاب” على أكبر تشكيل نقابي في البلاد. ووزّعت جريدة الشعب السرية عبر أول عدد لها في شهر جوان 1978. مما مكّنها من اكتساح أغلب المواقع القيادية النقابية وطنيا وجهويا وقطاعيا بعد عودة الهياكل الشرعية إثر مؤتمر قفصة 1980  .

أشار ذلك وقتها إلى نضج تجربة التنظيم وقدرته على إدارة المعارك مع النظام ونشر “تكتيكه النقابي”. لكنّ أحداث 26 جانفي 1978 كشفت في المقابل الشعلة وعناصرها القيادية “التي كانت في قلب تلك العاصفة. تُدافع عن الشرعية النقابية وتتعرض للهجمات من الخلف والأمام: من الأمام من البوليس السياسي الذي تعرّف على نشاطنا من خلال جريدة الشعب السرية ومن الخلف من العناصر الانتهازية المقيتة”.[30] هذه التجربة ستنتهي كسابقاتها تحت وقع الضربات الأمنية وتوسّع حلقات التيار الوطني الديمقراطي. لكنها طوّرت الركام المعرفي للتنظيمات الماركسية اللينينية التونسية حول قضايا تتعلق بتونس والمنطقة العربية والدولية. وكان الشعار الذي رفعته حول “تخصيص الماركسية على الواقع العربي”[31] مهما جدّا في إخراج الفكر الشيوعي من الدائرة البورجوازية الصغيرة وفتح آفاق رحبة أمام المناضلين من كل المستويات. لكن عادت هذه الحركة لتختفي شيئا فشيئا رغم محاولات إنعاشها إثر خروج عدد من قياداتها من السجن مع سنوات “الانفتاح” لحكومة محمد مزالي وإعادة تنظيمها تحت اسم المنظمة الماركسية اللينينية في تونس وإصدار صحيفة النجم الأحمر سنة 1986 .

 محاذير مضغ التاريخ 

بهذا المنحنى الذي انطلق من الحزب الشيوعي التونسي، مرورا ببرسبكتيف والعامل التونسي ثم الشعلة، تَكُون الحركة الشيوعية في تونس قد مرّت بتاريخ وجغرافيا سياسية مثلثة الأضلع والفكر في ثلث طريقها، قبل أن “تنفجر” حزبيا وتنظيميا وتغرق في الوضع التونسي إثر الثورة مع إقفالها قرنا من الزمن. فبعد حظر طويل عاد الحزب الشيوعي التونسي إلى النشاط عام 1981، ثم تفرقت خطوط العامل التونسي والشعلة إلى أحزاب تنشط تحت الأرض وفوقها وسط الثمانينات نهاية بسقوط حكم بن علي عام 2011 وما بعده كحزب العمال الشيوعي والتجمع الاشتراكي التقدمي الذي انتهى إلى جمهوري والحزب الاشتراكي والوطنيين الديمقراطيين الموحد والمسار الديمقراطي الاجتماعي. حيث تطول لائحة الأحزاب والكيانات اليسارية المتوالدة التي أعادت تشكيل الخارطة السياسية في تونس. ودخلَ بعضها في تحالفات وائتلافات سياسية وانتخابية كانت نتائجها “صفرية” في الأغلب. مقابل اختيار أخرى الانكفاء في العمل الحقوقي والإنتاج الثقافي والأكاديمي أو ما يطلق عليه مجازا” اليسار العميق[32]“. أما ما يهمّ الآن حسب استخلاصات جل الكتابات التقييمية وشهادات أجيال من السردية اليسارية، فهو إعادة قراءة هذا الموروث اليساري بشكل مُعقلن ودون “جعجعة طفولية” في أدبياته ووثائقه ونصوصه وعمله التنظيمي و”غابة” مطارحاته ومراجعاته ونقده الذاتي وأحواله التي يسأل عنها خصومه قبل مريديه. حتى لا يستقر مثلما يقول الأكاديمي والكاتب الأردني موسى برهومة على”هيئة واحدة تتمثل في مضغ التاريخ وتجشؤ الماضي “.[33]

لقراءة المؤلف الجماعي كاملا وتحميله، اضغط هنا


[1] عزيز كريشان. اليسار وسرديّته الكبرى: ‏‏من أجل فهم الإقتصاد الرّيعي (ترجمة فتحي بالحاج يحيى) تونس: منشورات جمعية نشاز، 2020.

[2] الحبيب رمضان. تراجم نشطاء الحركة الشيوعية في تونس زمن الاستعمار الفرنسي وبدايات عهد الاستقلال 1921- 1963. تونس: دار محمد علي الحامي، 2021.

[3] شهادة محمد حرمل في يوم الذاكرة الوطنية بمؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات. تونس: جوان 2005 .

[4]  منشورات فرع الفيديرالية الأممية الشيوعية الواردة في كتاب محمد كريم Nationalisme et syndicalisme en Tunisie 1918 – 1929.

[5] محمد حرمل. صحبفة النهج. أوت 1984.

[6] مقتطف من حديث صحفي للحبيب الكزدغلي. موقع الهامش، ماي 2022.

[7] هي محاولة انقلاب ضد نظام الرئيس التونسي السابق الحبيب بورقيبة اشترك في القيام بها مجموعة من العسكريين والمدنيين من مختلف التوجهات السياسية من مقاومين سابقين وعسكريّين ومدنيين معارضين للنظام وفيهم محسوبون على التيّار اليوسفي والقومي.

[8] من شهادة شفوية لمحمد حرمل لرفاقه في الحزب الشيوعي التونسي عن فحوى لقائه ببورقيبة في قصر صقانس بالمنستير يوم 18 / 07 / 1981.

[9]  محاضرة عبد العزيز لبيب بمؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات بعنوان: أي ذاكرة لأي مستقبل؟ أوت 2020 .

[10] هذه الشهادة من لقاء أجرته المفكرة القانونية مع أبو السعود الحميدي، ناشط سابق في صفوف برسبكتيف-العامل التونسي وصحفي ورئيس تحرير سابق بجريدة الصحافة.

[11]  الهاشمي الطرودي. أضواء على اليسار التونسي/ حركة آفاق نموذجا، شهادات وتأملات. تونس: دار محمد علي للنشر، 2014.

[12] شهادة عبد الحميد المزغني الواردة في كتاب: عبد الجليل بوقرة. فصول من تاريخ اليسار التونسي. تونس: دار آفاق للنشر، 2012.

[13] علي المحجوبي. مقدمة كتاب أضواء على اليسار التونسي (مرجع مذكور سابقا).

[14]  فتحي بالحاج يحيى. “الحبس كذاب والحي يروّح”: ورقات من دفاتر اليسار في الزمن البورقيبي، تونس: 2009. 

[15]  المرجع نفسه.

[16]  المرجع نفسه.

[17]  المولدي قسومي. مداخلة في لقاء فكري نظمته مؤسسة روزا لكسمبورغ بمناسبة 100عام عن ميلاد الحركة الشيوعية في تونس.

[18]  مجلة برسبكتيف، فيفري 1968.

[19] الهاشمي الطرودي. أضواء على اليسار التونسي (مرجع مذكور سابقا).

[20] المولدي قسومي. خارطة اليسار التونسي (ضمن مؤلف جماعي: خارطة اليسار العربي) منشورات مؤسسة روزا لكسمبورغ، 2014.  

[21]  من شهادة أبو السعود الحميدي للمفكرة القانونية (مرجع مذكور سابقا)

[22]  فايز سارة. الأحزاب والحركات السياسية في تونس 1932 – 1984 (دون ناشر) سنة 1986.

[23]  جريدة العامل التونسي جويلية 1971. هذه العبارة كتبت بالدارجة التونسية ومقابلها العربي “من أجل هدمة الطبقات الكادحة والتعريف بكفاح العمال التونسيون أينما كانوا”.

[24]  عزالدين المدني. المعارضة التونسية: نشأتها وتطورها. اتحاد الكتاب العرب: 2001.

[25]   عبد الجليل بوقرة. فصول من تاريخ اليسار التونسي (مرجع مذكور سابقا)

[26] سعيد الوجاني: الحركة الماركسية اللينينية التونسية. دراسة نشرها مركز الدراسات والأبحاث العلمانية في العالم العربي.

[27]  رضا مقني. محاضرة بعنوان: تجربة أخرى في اليسار التونسي، الشعلة والنجم الأحمر. موقع يوتيوب على الرابط التاليhttps://www.youtube.com/watch?v=31_aKRlyUzE

[28] المرجع نفسه.

[29] الخميس الأسود هو نعت بات يطلق في الذاكرة السياسية التونسية على يوم 26 جانفي 1978 يوم الإضراب العام الذي نفّذه الاتحاد العام التونسي للشغل. سَبِق الإضراب العام إضرابات عمالية قطاعية وقد شهدت تلك الفترة تعطّل قنوات التفاوض بين الحزب الحاكم والقيادة النقابية. وقد قرّر النظام المواجهة الدموية لتلك الحركة التي راح ضحيتها حوالي 400 قتيل حسب مصادر غير رسمية. وقام أيضا باعتقال قادة الإضراب بمن فيهم الأمين العام لاتحاد الشغل في تلك الفترة الحبيب عاشور.  

[30] طارق الكحلاوي. “شعلة” العربي عزوز. جريدة المغرب. 15 سبتمبر 2020.

[31]  رضا مقني (مرجع مذكور سابقا)

[32]  هذا المصطلح تعود استخداماته الأولى إلى الباحث التونسي هشام عبد الصمد، ويقصد به اليسار غير المرتبط بشكل عضوي بالأحزاب اليسارية الرسمية والفاعل في حقول أخرى مثل الثقافة والمنظمات الحقوقية والمجتمع المدني

[33] بسام ناصر. اليساريون العرب.. مراجعات للمبادئ والسياسات والمواقف. موقع عربي 21. بتاريخ 02 جوان 2020.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني