الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد تصدر تقريرها الأول: نموذج عن تعثّر الهيئات المستقلة اللبنانية


2023-09-15    |   

الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد تصدر تقريرها الأول: نموذج عن تعثّر الهيئات المستقلة اللبنانية
رسم رائد شرف

تشكّل الهيئات المستقلّة ظاهرة جديدة وغير مألوفة في هيكلّية الدولة اللبنانية،لا تزال تسعى إلى إثبات وجودها وفعاليّتها حتّى اليوم. ولم تتردد المفكّرة القانونية في دراستها لقوانين إنشاء هذه الهيئات في مقالات سابقة من الإشارة إلى محدودية صلاحيات هذه الهيئات، يضاف إليها العراقيل الناتجة عن تعامل السلطة السياسية بكافة تجلياتها (مجلس النواب أو الحكومة أو حتى القضاء) مع هذه الهيئات.

في هذا الإطار، يقع التقرير الأول الذي نشرته الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد منذ تشكيلها وحلف أعضائها اليمين القانوني، في العدد 36 من الجريدة الرسمية الصادر بتاريخ 31 آب 2023، ليؤكّد مجددا أن السلطة السياسية من جهة تشرف على إنشاء مؤسسات جديدة يناط بها تحقيق أهداف بالغة الأهمية، في موازاة الحدّ من صلاحياتها القانونية وحرمانها من الوسائل المادية والبشرية التي تسمح لها بالقيام بواجبها.

ولا شك أن تقرير الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد يعكس صورة عن هيئة لا تزال منقوصة الفعالية بشكل كبير، إذ إنها عالقة في صراع قانوني يؤخّر الموافقة على نظامها الداخلي ما يوقف إمكانية تفعيل كامل صلاحياتها وهو أكبر مشاكلها، فضلًا عن أنها تفتقر إلى المقومات الأساسية للعمل، أي المال والقدرات البشرية، لا سيما بسبب غياب نظامها الداخلي. فباتت الهيئة تكتفي بإتمام القليل من صلاحياتها أي استلام تصاريح عن الذمم المالية للأشخاص المحددين قانونًا والتدقيق بها، ونشر الثقافة القانونية.

غياب النظام الداخلي يشلّ عمل الهيئة

يشكّل النظام الداخلي لهيئة مكافحة الفساد عنصرًا أساسيًّا لانتظام عملها إذ يتبيّن من التقرير أن عددًا من وظائف هذه الهيئة غير مفعّل بسبب التأخر في إقرار هذا المستند الأساسي. وبالعودة إلى قانون إنشاء الهيئة، يتبيّن من المادة التاسعة البند “أ” أن الهيئة تضع نظامًا داخليًّا ضمن مهلة ثلاثة أشهر من صدور مرسوم تعيينها، يتضمن القواعد والأصول التفصيلية التي ترعى تنظيمها وسير العمل لديها وإدارتها المالية بما فيها صلاحيات كل من الرئيس ونائب الرئيس وغيرها من الوظائف. وتنص المادة القانونية أيضًا على أن هذا النظام الداخلي، بعد التصويت عليه من قبل الهيئة نفسها، يخضع لموافقة مجلس شورى الدولة.

وبالفعل، فقد صدر مرسوم تعيين هيئة مكافحة الفساد في 28 كانون الثاني 2022 (المرسوم رقم 8742)،  وقد التزمت الهيئة إعداد نظامها الداخلي (المتضمن نظامها المالي وهيكليتها والملاك) ضمن المهلة القانونية حيث أنها بحسب التقرير قد أحالته إلى مجلس شورى الدولة بتاريخ 7 نيسان 2022 للموافقة عليه. ومنذ ذلك الحين لا يزال هذا النظام ينتظر الحصول على الموافقة النهائية لمجلس شورى الدولة. وتقدم الهيئة تفسيراً لا يخلو من الإبهام في تقريرها حول هذا التأخير، حيث أنها تعزوه إلى قرار مجلس شورى الدولة باستشارة مجلس الخدمة المدنية كما وزارة المالية حول هذا النظام كلّ بحسب وظيفته. وبعد تأخر مجلس الخدمة المدنية في تقديم ملاحظاته، تقول الهيئة في تقريرها أن النظام بات عالقًا عند وزارة المالية التي لم تبدِ ملاحظاتها بعد كون مجلس الشورى كان قد طلب مجددا أخذ رأي هذه الأخيرة بخصوص النظام المالي. إلا أن  مصادر مطلعة مقربة من رئيس مجلس شورى الدولة طلبت عدم الكشف عن اسمها أعلمت المفكرة أن النظام الداخلي تشوبه إشكالية حول كيفيّة تلقّي الهيئة الأموال والمساهمات الخارجية، أي غير تلك التي ترصد لها في موازنة الدولة، حيث يدور خلافٌ بين مجلس شورى الدولة والهيئة في هذا الشأن. كما أشارت هذه المصادر إلى خلاف آخر مع الهيئة على ملاحظات مجلس الخدمة المدنية حول كيفية التوظيف فيها. وبانتظار التحقّق من تفاصيل الخلاف الحاصل بين المرجعيْن، يسجل بقلق عميق مؤشرات على تأبيده وإطالة أمده من دون أي أفق، مع نتيجة حتمية: تعطيل الهيئة والوظائف الهامّة المناطة بها وتحويلها إلى مجرد ديكور في النظام اللبناني.

وبالعودة إلى التقرير، فإن غياب النظام الداخلي للهيئة قد أثر سلبًا في عملها حيث أفادت بأنها لم تتمكن من تطوير الهيكلية الإدارية وتعيين أيّ موظف لمعاونتها ما شكّل العائق الأساسي لانطلاق عمل الهيئة الفعلي. وقد أوردت الهيئة في تقريرها أنها لم تتمكن من مباشرة أعمالها في معظم المهام الموكلة إليها بانتظار موافقة مجلس شورى الدولة على نظام الهيئة الداخلي ونظامها المالي ومدونة السلوك الإلزامية.

كما أدّى غياب نظام داخلي إلى عدم وجود حسابات مدققة للهيئة لنشرها في التقرير السنوي الحاضر لعدم وجود تدقيق داخلي وتدقيق مستقل من قبل مكتب متخصص حسب ما ورد في التقرير. 

الهيئة لا تتلقى إلّا جزءا ضئيلا من مستحقاتها المالية

تلقى هيئة مكافحة الفساد مصير نظيرتها في الهيئات وهي هيئة الإشراف على الانتخابات التي تكلّمنا عنها مطوّلًا في مقالات عدّة حيث تعاني الهيئتان من شحّ التمويل ويتجلى في هذا الموضوع الإهمال أو نوايا العرقلة الموجودة لدى السلطة السياسية تجاه الهيئات المستقلة على اختلافها التي تم تبرير استحداثها بخطاب إصلاحي كبير لم يقترن حتى الآن بالجدية المطلوبة لتفعيل دورها كي تتمكن من ممارسة صلاحياتها وتحقيق الغاية من وجودها. 

وقد حرمت الهيئة من المستحقات المتوجبة لها والملحوظة في المادة 15 البند “د” من قانون إنشائها التي نصت على أنّه يُفتح اعتماد إضافي في الموازنة العامة للسنة التشغيلية الأولى بعد دخول هذا القانون حيز التنفيذ، قيمته عشرة مليارات ليرة لبنانية. ويفيد التقرير في هذا المجال أن الهيئة لم تحصل إلّا على ملياري ليرة لبنانية في نهاية عام 2022 من أصل ستة مليارات مرصودة لها بعد مراجعات إدارية طويلة وحثيثة، وقد أصبحت قيمة هذه الاعتمادات متدنية جدًّا نظرًا لإنهيار سعر صرف الليرة اللبنانية. وقد تم إنفاق نصف هذا المبلغ تقريبا كرواتب وأجور لأعضاء الهيئة للفترة الممتدة من شباط حتى نهاية عام 2022. وهكذا تبقى في رصيد الهيئة فعليا أقل من مليار ليرة وهي لم تحصل حتى اليوم على كامل الاعتمادات المخصصة لها قانونا سواء الأربعة المليارات التي رصدت للنفقات الجارية (لم يتم تحويلها بعد) أو الأربعة مليارات المتبقية أيضا من أصل العشرة مليارات التي تشكل مجموع موازنة الهيئة. 

وتفيد الهيئة في تقريرها أنها اضطرّت إلى اللجوء إلى الهيئات الدولية، تمامًا كهيئة الإشراف على الانتخابات، لتنفيذ مشاريع وأعمال تأسيسية ضرورية، يتبيّن من التقرير أن جزءا منها كان تأهيل مكاتب الهيئة المستأجرة من قبل الدولة.

وأشارت الهيئة أيضا أنها لم تتمكن من الالتزام بالنص القانوني الذي يفرض عليها نشر حساباتها المدققة بسبب عدم دخول نظامها الداخلي ونظامها المالي حيز التنفيذ وعدم قدرتها بالتالي على التعاقد مع مؤسسة تدقيق وفقا للأصول القانونية.

استلام تصاريح الذمم المالية من دون التدقيق فيها؟ 

في ظلّ قدراتها المادية والبشريّة المحدودة، اقتصر عمل الهيئة على وظيفتين فقط، إحداهما استلام تصاريح الذمم المالية فضلا عن نشر ثقافة النزاهة وهي المهمة التي نتناولها في الفقرة اللاحقة. وقد أنيطت  مهمة تلقي التصاريح المنصوص عليها بالهيئة بموجب قانون الإثراء غير المشروع (رقم 189 تاريخ 16 تشرين الأول 2020) في مادته الخامسة، إذ يفيد التقرير أن هيئة مكافحة الفساد قد تلقت التصاريح من قبل النواب المنتخبين والمنتهية ولايتهم بعد إجراء الانتخابات النيابية ضمن المهلة القانونية، بالإضافة إلى الموظفين والأشخاص الخاضعين لموجب التصريح دون توضيح ما إذا تخلّف أحدهم عن موجبه. وقد بلغ عدد المصرحين حسب الهيئة 194 شخصًا يتوزعون وفقا للتالي: رئيس سابق للجمهورية، 51 نائبا سابقا[1]، 128 نائبا حاليا، 14 موظفا. ورغم أن هذا الرقم متدنّ جدًّ بالنسبة إلى العدد الكبير من الموظفين المتوجب عليهم تقديم هذا التصريح، فإن الهيئة لم تفسر محدودية هذا العدد، وإن كان ربما يعكس محدودية التوظيف. كما تجدر الإشارة إلى أن الهيئة قد اكتفت في تقريرها بالإشارة إلى استلام التصاريح وعددها، من دون إعطاء أي معلومة بشأن التدقيق فيها، وهي المهمة التي يفرضها قانون إنشائها[2].

اعتبرت الهيئة في هذا الشأن أن أداء هذه الوظيفة المفروضة عليها كان ضروريًّا بالرغم من عدم امتلاكها الموارد اللازمة نظرًا لارتباط هذه الوظيفة بصلاحيات حصرية للهيئة ومهل مسقطة كون المادة الخامسة من قانون الإثراء غير المشروع تجعل من تلقي تصاريح الذمم المالية صلاحية خاصة في هيئة مكافحة الفساد بينما تنص المادة السابعة على اعتبار كل متلكئ في تقديم التصريح المفروض مستقيلا، ما حتم على الهيئة تلقي هذه التصاريح رغم إمكانيتها البشرية المحدودة. 

افتخار الهيئة في تعزيز ثقافة النزاهة: “إنجاز”

أما الوظيفة الثانية التي أتمّت الهيئة فيها” إنجازاً” وفقا للتقرير فتتعلق في نشر ثقافة النزاهة في الإدارات العامة والمجتمع حيث أطلقت في لقاء عام بمناسبة اليوم الدولي لمكافحة الفساد مجموعة تتضمن النصوص القانونية والتنظيمية الأساسية في موضوع مكافحة الفساد، أرفقتها بمختارات من القرارات والاجتهادات المتصلة بالشأن عينه. لكن من الملفت أن هذه المجموعة غير متوفرة على أي موقع إلكتروني أو منصة، حيث يتأتى من التغطية الإعلامية لحفل إطلاق المجموعة أنها وزّعت فقط على المشاركين في الحفل دون ذكر أي وسيلة للحصول عليها. ولا شكّ في أنّ هذا الأمر يتضارب مع وظيفة “نشر ثقافة النزاهة” إذ إن النشر الفعلي لم يتعدّ الأشخاص الذين حصلوا على المجموعة ورقيًّا. كما شرحت الهيئة أنها تعمل حاليا على إنشاء موقع إلكتروني خاص بها كما على تعزيز تواصلها مع الإعلام والرأي العام.

التنسيق مع الجهات الداخلية والدولية

يستعرض التقرير سائر صلاحيات الهيئة المحددة في القانون ويقدم الانجازات التي تحققت خلال السنة المنصرمة. لكن مراجعة تلك الانجازات تظهر أن عمل الهيئة انحصر فعليا في التنسيق مع النيابة العامة التمييزية التي تم استحداث مكتب لديها لتلقي كشوفات الفساد وذلك بهدف إيجاد الإطار اللازم الذي يسمح بالتنسيق بين الهيئة والمكتب المذكور لتلقي الشكاوى وحماية كاشفي الفساد.

ويشدد التقرير على أهمية دور برنامج الأمم المتحدة الإنمائي من أجل تطوير خطة عمل مفصلة تسمح للهيئة بتنفيذ مهامها المتعلقة بالسهر على احترام تطبيق الحق في الوصول إلى المعلومات ودعم الشفافية في قطاع البترول وإبداء رأيها في التشريعات وسائر النصوص المتعلقة بمكافحة الفساد. كما طلبت الهيئة الانضمام إلى مجموعة “Globe Network” التابعة للأمم المتحدة والمختصة بتنسيق الجهود من أجل مكافحة الفساد والعمل على استرداد الأموال المنهوبة.

في الخلاصة، يتبين أن أهم إنجاز تحقق في مسيرة الهيئة وفقا للتقرير هو استلام تصاريح الذمم المالية وتأمين مقر لها من قبل الحكومة والعمل على تجهيزه عبر هبات من دول ومنظمات دولية مختلفة، كما على تخصيص طابق لمديرية استرداد الأموال تتم صيانته وإعداده من مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة. لكن إطلاق العمل في المكتب وتعيين الكادر الضروري مرهون بإقرار النظام الداخلي للهيئة. لذلك يصبح جليا أن مسألة النظام الداخلي باتت محورية كون الهيئة تعتبر أن عرقلة غالبية صلاحياتها باتت مرتبطة بالخلاف المندلع مع مجلس شورى الدولة، علما أن التقرير لا يشرح ماهية هذا الخلاف ولا يقدم معلومات كافية حول سبب رفض هذا الأخير للنظام الداخلي والمالي المقترح من الهيئة. فالتقرير يسهب في استعراض تفاصيل عمل الهيئة لكنه يفشل في شرح حقيقة الخلاف الذي أدى إلى تجميد النظام الداخلي وشل الهيئة عن ممارسة غالبية صلاحياتها وتأدية دورها كما يجب.    


[1] وبالإطلاع على لائحة أعضاء مجلس النواب لدورتي 2018 و2022 يتبيّن أن الخارجين من المجلس، باستثناء المتوفين، يبلغ عددهم ال52 نائبًا. ما يعني أن هناك عضو واحد مجهول الهوية لم يقدم تصريحه إلى الهيئة.

[2] الفقرة الأولى من البند ج من المادة 18 من قانون إنشاء هيئة مكافحة الفساد رقم 175 تاريخ 8 أيار 2020

انشر المقال

متوفر من خلال:

مؤسسات عامة ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني