هيئة الإشراف على الانتخابات أو هيئة المهمة المستحيلة (3): انتخابات في ظلّ ال cash economy


2022-12-27    |   

هيئة الإشراف على الانتخابات أو هيئة المهمة المستحيلة (3): انتخابات في ظلّ ال cash economy

تبعا لانتخابات 2022، رصد عدد من المراقبين الدوليين والمحليين أداء هيئة الإشراف على الانتخابات، في معرض النظر في مدى ديمقراطية الانتخابات. “المفكرة” عملت من جهتها على الإحاطة بكيفية أداء الهيئة دورها في هذه الانتخابات، على ضوء إمكاناتها والهامش المتروك لها لأداء مهمتها. ننشر هنا المقال الثالث والأخير بشأن دور هيئة الإشراف على الانتخابات في مراقبة الإنفاق الانتخابي، علما أننا كنا نشرنا سابقا مقالين: الأول حول إشكاليات تكوين الهيئة ومواردها، والثاني حول دور الهيئة في مراقبة الإعلام والإعلان الانتخابيين (المحرّر). 

يعتبر الإنفاق الانتخابي عنصرا أساسيا لقيام أي حملة إنتخابيّة. غير أن الانفاق المتحرر من أيّة ضوابط يتحوّل سريعاً إلى أداة تخلّ بالمساواة بين المرشحين. فالمستويات المتفاوتة في القدرات الماديّة للمرشحين تؤدّي إلى سيطرة بعضهم على المجال الإعلامي والدعائي بحملات انتخابيّة مبالغ بها، تحرم بقية المرشحين الأقل يسراً من إمكانية بروز حملتهم وإيصال أفكارهم إلى الناخبين. إذ أنّ المساواة الواجبة في الإنفاق الانتخابي بين المرشّحين هي الضمانة للناخب بأن يكون على بيّنة من جميع المشاريع والأفكار المطروحة في الحملات الإنتخابية بشكل متساوٍ، وأن يتمكّن من تكوين قناعاته بشكل مستقلّ من دون أن تصبح خياراته السياسية رهينة الإمكانيات المادية للمرشحين. 

جراء ما تقدم، يصبح جليا أن قانون الانتخابات يهدف إلى تنظيم الإنفاق الانتخابي بحيث يضمن قدر الإمكان المساواة بين المرشّحين وذلك عبر الحدّ من التفاوت في إمكانياتهم الماديّة. لذلك أناط القانون بهيئة الإشراف على الانتخابات مهمّة السهر على احترام ضوابط الإنفاق الانتخابي. لكن الممارسة في هذا الشأن كشفتْ في انتخابات 2018 و2022 عن نواقص كبيرة أدّتْ إلى خلل بالمساواة بين المرشحين وفوضى في الإنفاق الانتخابي ما أدى إلى التشكيك بنزاهتها ومدى ديمقراطيتها.

ولا شكّ أن المشرّع  يتحمّل جزءًا مهماً من المسؤولية الناتجة عن هذا الخلل في القانون، إذ نستشفّ أنه أهمل عمداً تشديد الضوابط في موضوع الإنفاق كونه مثلا منع الهيئة من إمكانية الكشف مباشرةً على حسابات الحملات، وهذا ما سنتناوله لاحقاً. كما حرم الهيئة من الأدوات لملاحقة مخالفات الإنفاق الانتخابي وسلّم أمر المعاقبة إلى المحاكم التي أظهرت بدورها بطءاً شديداً في إصدار الأحكام. هذا فضلاً عن أنّ القانون سمح بتلقي المرشحين واللوائح مساهمات من أشخاص معنويين (لبنانيين فقط) ما يفتح الباب أمام تضارب المصالح بين المرشحين والممولين، ويتيح المجال أمام ضغوطٍ محتملة على المرشحين تفقدهم استقلاليتهم.

من جهة أخرى، تتحمل الحكومة جزءًا أيضا من المسؤوليّة في الفوضى المالية الانتخابية. إذ حرمت هيئة الإشراف من الإمكانيات الماديّة الكافية لتكوين ملاك من المتخصصين يُمكّنها من القيام بواجباتها على وجه الكمال وأغفلت بشخص وزير الداخلية ملاحقة الرشاوى وردع المخالفين وفرض الغرامات في موضوع حساب الحملة النهائي بالرغم من طلب الهيئة ذلك بموجب القانون وفقا لما أعلنه رئيس الهيئة القاضي نديم عبد الملك في حديثه مع المفكرة القانونية بخصوص انتخابات 2018 و2022.

لكن ذلك لا يعني أن أداء الهيئة لم تكن تشوبه بعض النواقص إذ هي تأخّرت في نشر السقوف الانتخابية كي يتمكّن الرأي العامّ من الاطّلاع عليها. كما تمنّعت عن التواصل مع المواطنين فلم تشرح العراقيل التي تواجهها ولم تصارح اللبنانيين بحقيقة التحديات التي تعترض عمدا طريقها، هذا فضلا عن عزوفها عن نشر أسعار الظهور الإعلامي التي حصلت عليها من وسائل الإعلام، الأمر الذي يمكن اعتباره بمثابة تفسير ضيق ومحافظ  لقانون الانتخابات من قبلها في هذه المواضيع.

سنستعرض في الفقرات التالية السلطات الأساسية التي مارست من خلالها هيئة الإشراف دورها في مراقبة التمويل الانتخابي إذ يمكن لنا أن نحددها في المجالات التالية: سلطة وضع قواعد عامة وملزمة، سلطة تفسير القانون بما يتصل بصلاحياتها، سلطة تنظيمية مباشرة، سلطة الرقابة لضمان التزام وسائل الإعلام بالأحكام القانونية وتوجيهاتها، سلطة المساءلة والملاحقة، سلطة الكشف عن المخالفات التي تم رصدها وأخيراً سلطة التذكير بالقانون.

1- سلطة وضع قواعد عامة وملزمة

لم يفوّض قانون الانتخابات هيئة الإشراف صراحةً بوضع قواعد عامة وملزمة للمرشحين أو اللوائح أو الناخبين في موضوع الإنفاق الانتخابي. إلّا أن الهيئة اضطرت بسبب الأزمة الاقتصادية أن تتدارك موضوع انهيار سعر صرف الليرة وتشرح كيفيّة احتساب النفقات الانتخابية بالليرة اللبنانية. فما صدر عنها بهذا الشأن، بوصفه تنظيما موحدا على جميع المرشحين واللوائح الالتزام به، يمكن اعتباره من ضمن القواعد العامة الملزمة وإدخاله في هذه الخانة. ينطبق الأمر نفسه على المستندات التي صدرت عن الهيئة على شكل ملاحق والمتعلّقة بنماذج يجب على اللوائح والمرشحين اعتمادها. وهذا ما سنقوم بتبيانِه أدناه. 

تعليمات حول طريقة احتساب سعر صرف الدولار

قامت الهيئة أيضاً بإصدار تعليمات حول طريقة احتساب سعر صرف الدولار لمتوجبات البيان الحسابي الشامل، بالنظر إلى تعدد أسعار صرف الدولار أثناء الحملة الانتخابية، ما يشكّل صعوبة لم يتطرّق إليها القانون. وإذا كان من الطبيعي عدم معالجة هذه الإشكالية في القانون كونه أقر سنة 2017 قبل اندلاع الأزمة الحالية، لكن من المستغرب أن مجلس النواب الذي أدخل تعديلات مهمة على القانون سنة 2021، لا سيما بخصوص الإنفاق الانتخابي، لم يتطرق لهذه المشكلة مجددا ما يشكل إهمالا كبيرا من قبل المشترع لا يمكن تبريره.  

ففي الأول من نيسان 2022 أصدرت الهيئة بياناً يحمل الرقم 8 تستند فيه على رأي هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل الصادر بتاريخ 28 آذار 2022، اعتبرت فيه أن المصاريف الانتخابية الداخلة ضمن البيان الحسابي الشامل النهائي يتوجب التصريح عنها بالليرة اللبنانية حصراً. وانطلاقا من موجب التصريح بالعملة الوطنية، ذهبتْ الهيئة إلى التأكيد أنّه في حال تمّ الإنفاق بالعملة الأمريكية يتوجب إثبات سعر الصرف الذي تم اعتماده بمستندات صادرة عن مصرف أو عن صراف أو عن شركة قد تم التعامل معها من أجل تحديد مقدار الإنفاق الذي تم بالليرة اللبنانية ما يضمن فعالية رقابة الهيئة بشكل شفاف ويمنع على المرشحين واللوائح من استغلال تعدد أرقام الصرف لمخالفة القانون.

إصدار نماذج وملاحق

تسهيلاً لعملها الرقابي اللاحق على الإنفاق الانتخابي، قامت هيئة الإشراف بإصدار أربعة نماذج هي نموذج البيان الحسابي الشامل للمرشح، نموذج البيان الحسابي الشامل للائحة، ملاحق تحصي مصاريف مختلفة يقوم بها المرشح أو تقوم بها اللائحة ونموذج لأسعار الإعلان والدعاية الانتخابية. غير أنّ هذه النماذج، بفرضها أطرا معيّنة في التصريح عن الأسعار والنفقات والمداخيل، وبما أنها فنّدت أبواب المصاريف مثلاً، بشكل أوسع مما ذكره القانون في المادة 58، تكون قد أضافت على القانون قواعد جديدة تلزم المرشح أو اللائحة بأن يتقيّدا بها لتكون بياناتهما الحسابية الشاملة مقبولة. فتكون الهيئة بهذا الشكل قد توسعت في تفسير صلاحياتها المنصوص عليها في القانون كي تراعي البيانات الحاسبية الحد الأدنى الضروري من أجل التدقيق بها إذ تكون قد أخضعتها لمعايير موحدة تضمن الحصول على المعلومات نفسها من جميع المرشحين واللوائح.

2- سلطة تفسير القانون بما يتصل بصلاحياتها

يحقّ لهيئة الإشراف في سياق قيامها بمهامها أن تفسر القانون في كل ما يتصل بممارسة صلاحياتها تمهيدا لاتخاذ الخطوات المناسبة. وبالطبع، يبقى تفسيرها للقانون في هذا الخصوص قابلا للطعن طالما أنه يعكس اجتهاداً منها من دون أن يكون لها أيّ تفويض تشريعي بذلك. إنّ هذه القدرة على التفسير التي تتمتع بها هيئة الإشراف هي الأداة الأساسية التي تمتلكها لتوسيع مفاهيم قانون الانتخاب بهدف جعله أكثر دقّة أو فعاليّة في كلّ ما ينظّمه من شؤون تتعلق بالانتخابات النيابية، لاسيما في موضوع الإنفاق الانتخابي.

ولكن كما تبين من خلال التجربة السابقة أن الهيئة الإشراف لم تستخدم هذه الإمكانية إلا نادرا، بل هي اتّبعت قراءة قريبة من النص ولا تساهم في تفعيله كي يتأقلم مع الظروف المتغيّرة. فالهيئة اتّخذت موقفاً متحفّظاً، تخلّت فيه عن امكانيّة التفسير التي تسمح لها بتدارك نواقص القانون أو تسهيل تعقيداته التي يكون قد وضعها المشرّع سهوا أو عمدا، علما أن توسعها في تفسير صلاحياتها كان سيؤدي أيضا لدخولها في صدام مباشر مع المرشحين والقوى السياسية التي تقف خلفهم. فالوضع الهشّ الذي وجدت فيه الهيئة من ناحية التمويل والتكوين، وإمكانياتها المتواضعة لجهة المراقبة، سيحدان لا محالة من حريتها على اتّخاذ خطوات جريئة كالشروع في تفسير القانون بشكل يعزز من دورها الرقابي.

3- سلطة تنظيمية مباشرة

إلى ذلك، منح القانون الهيئة سلطة تنظيمية مباشرة في موضوع تحديد سقوف الإنفاق الانتخابية للمرشحين واللوائح :

فقد قامت هيئة الإشراف بنشر بيان يحمل الرقم 14 بتاريخ 27 نيسان 2022، يتضمن جداول بالسقوف الانتخابية للمرشحين واللوائح في كافة الدوائر. وبالرغم من عدم ذكرها للسند القانوني المعتمد في احتساب هذه السقوف، إلّا أنه من الأكيد أنّ الهيئة استندت على المادة 61 المعدّلة في تشرين الثاني 2021 بالقانون النافذ حكماً رقم 8، والتي رفعت السقوف الانتخابية لكي تتماشى مع انهيار سعر صرف الليرة. وللتذكير، فإن سقف المبلغ الأقصى الذي يجوز لكل مرشّح إنفاقه أثناء فترة الحملة الانتخابية هو قسم ثابت مقطوع قدره سبعمائة وخمسون مليون ليرة لبنانية، يضاف إليه قسم متحرّك مرتبط بعدد الناخبين في الدائرة الانتخابية الكبرى التي يُنتخب فيها وقدره خمسون ألف ليرة لبنانية عن كل ناخب. أما سقف الإنفاق الانتخابي للّلائحة فهو مبلغ ثابت مقطوع قدره سبعمائة وخمسون مليون ليرة لبنانية عن كل مرشح فيها. فيكون مثلاً سقف الإنفاق للمرشح في دائرة بيروت الأولى (الأشرفية، الرميل، المدور، الصيفي) 7،491،250،000 ليرة لبنانية، أي ما يوازي تقريباً 374،562 دولار أمريكي على سعر صرف 20،000 ليرة لبنانية للدولار الواحد الذي كان رائجاً حينها، بينما سقف إنفاق لائحة “معكم فينا للآخر” في جبيل التي تضم 8 مرشحين فكان 6 مليارات ليرة أي ما يوازي 300،000 دولار أمريكي وذلك أيضا على سعر صرف 20،000 ليرة للدولار الواحد. 

تجدر الإشارة هنا إلى أنّ الهيئة قد انتُقدت على نشرها المتأخر لهذه السقوف الانتخابية لاسيما من منظمة لادي في تقريرها حول هيئة الإشراف على الانتخابات[1]. فالسقوف نشرت في 27 نيسان أي قبل أقل من شهر من تاريخ الإنتخابات العامة. وكان لنشرها باكراً في الحملة الانتخابية أن يمكّن المنظمات المتخصصة من القيام بمراقبة أكثر دقّة وموضوعيّة لإنفاق المرشّحين أثناء الحملة.

4- سلطة الرقابة لضمان التزام وسائل الإعلام بالأحكام القانونية وتوجيهاتها

تتولى الهيئة مراقبة مدى التزام المرشحين واللوائح بالإنفاق ضماناً لاتخاذ الإجراءات اللازمة عند الاقتضاء. وفي حين فرض القانون على اللوائح والمرشحين تزويد الهيئة ببيانات معينة تسهيلاً لعملها الرقابي، فإنه أتاح بطبيعة الحال لها ممارسة رقابتها التلقائية. تتجلى أيضاً هذه الرقابة التلقائية في عدد من الأمور نستعرضها في هذا الفصل، وهي عدم تمكن الهيئة من الكشف المباشر على حسابات الحملات، وتعطّل أداة المراقبة من خلال حسابات الحملات بسبب توسّع الإقتصاد النقدي وعدول المرشحين واللوائح عن استخدام القنوات المصرفية في مقبوضاتهم ومدفوعاتهم، وتشريع الرشوة المقنّعة في المادة 62 من القانون وجعل مهمة درس البيانات الحسابية النهائية صعبة على الهيئة بسبب المهل الضيّقة.

  • عدم تقديم مدققي الحسابات للتقارير الشهرية لهيئة الإشراف

يتوجب على مدقق الحساب الانتخابي المعتمد من قبل المرشح أو اللائحة، وبالاستناد إلى المادة 63 من القانون، أن يقدم بيانا شهريا للهيئة “يبيِّن فيه المقبوضات والمدفوعات والالتزامات المالية للشهر المنصرم ويرفق به كشفاً بالحساب المصرفي العائد للحملة الانتخابية صادراً عن المصرف المعتمد”.

غير أن رئيس هيئة الإشراف أفادنا أن عدداً قليلاً من مدققي الحسابات لدى المرشحين واللوائح قد التزموا بتقديم البيان الشهري، لاسيما لعدم وجود نص يعاقب مخالفة هذا الموجب. وأعرب لنا رئيس الهيئة عن مطالبته بتعديل القانون لتمكين هيئة الإشراف من تغريم مدقّق الحسابات عند مخالفته لواجباته، معرباً في الوقت نفسه عن شكّه بإمكانية القيام بهذا التعديل أو غيره من التعديلات التي تعزز تطبيق القانون، لحتميّة اصطدامها بمصلحة اللاعبين السياسيين المستفيدين من ضعف القانون. 

  • منع الهيئة من الكشف على حسابات الحملات مباشرة بعكس قانون 2008

في هذا الموضوع، تشير هيئة الإشراف على الانتخابات في تقريرها الصادر عقب انتخابات 2018 إلى الانتقاص من صلاحياتها في مراقبة الإنفاق الانتخابي في القانون الصادر سنة 2017. إذ إنّ قانون 25/2008 كان يسمح للهيئة في المادة 60 البند الثاني بالاطلاع على حساب الحملة الانتخابية حين تشاء ممّا يسمح لها بالمراقبة الحثيثة لهذا الحساب، ومقارنة المعطيات التي تمكنت من جمعها مباشرة من المصارف مع البيان الحسابي الشامل المقدم في نهاية الانتخابات. غير أن قانون 2017 لا يأتي على ذكر هذا الحق بل يوكل مدقق الحسابات المعيّن من قبل اللوائح والمرشحين بإطلاع الهيئة بشكل دوري على حركة الأموال في الحساب علما أن الالتزام بهذا الموجب كان محدوداً أيضا.

يبقى أن حساب الحملة غير خاضعٍ للسرية المصرفية بحسب القانون الحالي في مادته التاسعة والخمسون. فعند سؤالنا رئيس الهيئة عن فعالية رفع السرية المصرفية، كان الجواب بأن الهيئة في الوضع الحالي لم تتمكن حتى أن تطّلع على تحريك هذه الحسابات، بل فقط على ميزانيّة الحساب المجرّدة من أية تفاصيل، وأشار إلى أن المصارف تمارس اعتباطيّة وتفرّدا في موضوع الإفصاح عن المعلومات التي قد تطلبها الهيئة منها.

في كلّ الأحوال، تبقى السريّة المصرفية سدّا منيعا بوجه هيئة الإشراف على الانتخابات إذ أنها تمنعها من الوصول إلى حسابات المرشح الشخصية أو حسابات أقاربه المقرّبين، ما يفتح المجال لاستعمال هذه الحسابات لدفع أموال تتخطى السقوف الإنتخابية دون الخضوع لأيّة مراقبة. 

  • عدم إمكانية ضبط الإنفاق الانتخابي من خلال القنوات المصرفية وتفلّت الاقتصاد النقدي (cash economy)

يهدف قانون الانتخاب إلى حصر التمويل الانتخابي في جمع التبرعات كما في إنفاق الأموال بالقنوات المصرفية لما تؤمّنه من إمكانية تتبع للأموال المرصودة والمنفقة على الحملة الانتخابية. غير أن الأزمة الاقتصادية الراهنة في لبنان التي دفعت بالمواطنين إلى اللجوء إلى استخدام العملة النقدية والابتعاد عن القنوات المصرفية قد انسحبت أيضاً على ادارة الأموال في الحملة الانتخابية. أدّى ذلك إلى تجاهل المرشحين للعديد من الضوابط التي يضعها قانون الانتخابات على الإنفاق الانتخابي والتي تحتّم المرور بحسابات مصرفية والدفع بالشيكات لتمكين هيئة الإشراف من ترصد حركة الأموال، مما أدّى في نهاية الأمر إلى جعل مهمة مراقبة الإنفاق صعبة وتشوبها نواقص كبيرة، وأدّى ذلك إلى تفلّت كبير في الإنفاق الانتخابي.

فبعدما عرّف القانون الإنفاق الانتخابي في المادة 58 على أنها الأموال المنفقة من المرشح أو اللائحة أو لحسابهما او مصلحتهما من قبل أي شخص طبيعي أو معنوي أو حزب أو جمعية، شرط أن تتعلق بالعملية الانتخابية، أتت المادة 59 من القانون كي تنص على أنّه يتوجب على كلّ مرشح فتح حساب انتخابي في أحد المصارف اللبنانية من أجل إيداع جميع المساهمات ودفع جميع النفقات عبره حصراً خلال كامل فترة الحملة الانتخابية على ألا يكون خاضعا للسرية المصرفية.

كما فرضت المادة 59 عدم قبض أو دفع أي مبلغ يفوق المليون ليرة إلّا بموجب شيك. وهو موجب سيتجاهله أكثريّة المرشحين إن لم نقلْ جميعهم، لأسباب عديدة أحياناً خارجة عن إرادتهم بسبب العوائق التي باتت المصارف تفرضها اعتباطيا نتيجة الأزمة الاقتصادية الحادة التي يعيشها لبنان، وما نتج عن ذلك من عدم إمكانيّة العديد من المرشحين تحريك حسابهم الانتخابي. فالاقتصاد اللبناني الذي أصبح اقتصاداً نقديًّا بشكل كبير جعل من استخدام وسيلة للدفع كالشيك أمرا مستبعدا لا يمكن الاعتماد عليها من أجل تأمين المتطلبات المالية للحملة الانتخابية.

وتأتي المادة 59 على ذكر تفاصيل أخرى كواجب كلّ لائحة أو مرشح بتعيين مدقق لحساب الحملة يتكفّل بإدارة هذا الحساب، كما تفتح مجالاً أمام من يتعذّر عليه فتح حساب مصرفي في الاستعانة بصندوق عامّ يتم انشاؤه في وزارة المالية ويقوم مقام الحساب الانتخابي. وهذه الإمكانية الأخيرة هي لتدارك احتمال وجود مرشح يخضع لعقوبات أجنبية لا تتيح له التعامل مع المصارف اللبنانية ما يفرض عليه الاستعانة بخيار الصندوق المستحدث في وزارة المالية. 

أمّا المادة 60 من القانون، فهي تسمح للمرشح باستخدام ماله الخاص في الحملة وتعرّف عن المال الخاص بأنه أيضاً مال الزوجة أو مال أي من الأصول والفروع، وتخضعه لسقف الإنفاق. كما تنص المادة على إمكانية استلام المساهمات بينما تمنع ذلك في حال كان مصدر المال شخصيات طبيعية أو معنوية أجنبية.

ولا شك أن السماح باستلام المساهمات من الأشخاص المعنويين شرط أن يكونوا لبنانيين يتشابه مع ما يعمل به في الولايات المتحدة إذ إن التمويل الانتخابي فيها يتّكل بشكل كبير على مساهمات ضخمة لشركات أميركية. إلّا أنّ الوضع في فرنسا مغاير إذ يمنع استلام المساهمات من الأشخاص المعنويين لأيّ جنسيّة انتموا. ويعود السبب في ذلك إلى منع أي تضارب مصالح بين المرشح وهذه الشركات خصوصاً في حال وصوله إلى سدّة الحكم، ما قد يوثّر سلباً على خياراته ويفقده استقلاليته بسبب خضوعه للتمويل من جهة معيّنة.

ومن المعلوم أن مساهمة الأشخاص المعنويين في تمويل المرشحين يتفوق على مساهمات الأفراد، غير أنّ تأثيراته السلبيّة على أداء المرشح تكون أكبر، فضلاً عن إمكانيّة التضارب بين مصالح الأشخاص المعنويين الممولين ومصالح المواطنين الأفراد التي قد تُهمل من قبل المرشحين في حال استفادوا من مساهمات ضخمة من شركات ومؤسسات معينة.

وتضيف المادة 60 على أنه “لا يجوز أن تتجاوز المساهمة المقدمة من قبل شخص لبناني طبيعي أو معنوي واحد لأجل تمويل الحملة الانتخابية لمرشح أو للائحة، مبلغ 50% من سقف الإنفاق الانتخابي” مع تشديدها على ضرورة أن “تكون دوما بموجب عملية مصرفية (حوالة، شيك، بطاقة ائتمانية…)”. وأخيراً تمنع المادة قبول مساهمة تتخطى سقف الإنفاق الانتخابي وقبول مساهمات عن طريق وسيط.

  • تشريع للرشوة المقنّعة

يعاني قانون الانتخابات، في إطار ضبطه للرشاوى الانتخابية والإنفاق الانتخابي، من تفخيخ مقصود لمضمونه عبر ثغرات تتيح للمرشحين أن يتهرّبوا من موجبات القانون ومن ضرورة التصريح عن نفقاتهم الانتخابية للشروع في تقديم الخدمات والأموال والمساعدات على الناخبين لاستمالتهم. في هذا الإطار، تبرز المادة 62 من القانون الإشكاليّة بامتياز، إذ إنّها تضع استثناءً على منع التقديمات كافة والتي تعتبر رشوة انتخابية، فتبيح هذه التقديمات في حال كانت “بذات الحجم والكمية بصورة اعتيادية ومنتظمة منذ ما لا يقل عن ثلاث سنوات قبل بدء فترة الحملة الانتخابية”، ما يفتح باب الرشاوى الانتخابية على مصرعيه.

قد ذكر تقرير بعثة المراقبة الأوروبية أن جزءاً كبيراً من الإنفاق الإنتخابي تمّ على شكل المساعدات العينيّة والإعانات من مرشحين استفادوا من هذه الإمكانيّة القانونية للاستمرار بتوزيع المساعدات خارج نطاق سقوف الإنفاق التي يمكن للهيئة مراقبته. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الهيئة صرّحت في تقريرها الصادر عام 2018 أنها لم تتمكّن من مراقبة هذا الإنفاق المسموح به بموجب الفقرة الثانية من المادة 62 بسبب تعذّر حصولها على سجلات وقيود المؤسسات المعنيّة. فالقانون الذي نظّم مسألة الإنفاق الانتخابي عبر وضع ضوابط لها عاد وأدخل استثناءً عليها من دون تحديد آلية شفافة تسمح بمراقبة ما قد يدخل ضمنه. وقد طالبت حينها الهيئة بتعديل القانون لتمكينها من أداء هذه الرقابة بشكل فعال لكن توصياتها لم يتمّ الأخذ بها حتى الآن. وفي سؤالنا له، أفادنا رئيس الهيئة أنّ هذه السجلّات بقيت خارج متناول الهيئة في انتخابات 2022 أيضاً.

يأتي إذاً نص القانون هذا ليشكل تشجيعا واضحا للمستثمرين في السياسة بأن ينشئوا منظمات خدماتيّة تستمرّ في ترسيخ شبكة الزبائنية التي أضحت من سمات العمل السياسي في لبنان. وفي حديثنا مع رئيس هيئة الإشراف، اعتبر أنّ هذه التقديمات غير المحتسبة “هي رشوة مقنّعة، فالمادة 62 تفتح مجالاً للفساد في الانتخابات.” وأعرب رئيس الهيئة عن ضرورة إلغاء هذه المادة.

  • تكبيل الهيئة بدراستها للبيانات خلال مهلة تعجيزية

بالرجوع إلى المادة 64 من قانون الانتخابات، يتبيّن أنّ البيان الحسابي الشامل يتوجب إعداده بعد انتهاء العملية الانتخابية، على أن يتضمن “بالتفصيل مجموع الواردات المقبوضة والمساهمات العينية، بحسب مصادرها وتواريخها، ومجموع النفقات، المدفوعة أو المترتبة بحسب طبيعتها وتواريخها، منذ بدء الحملة الانتخابية.” كما تنص هذه المادة على ضرورة تقديم هذا البيان إلى الهيئة خلال مهلة 30 يوما بعد انتهاء الانتخابات.

في هذا الإطار، ينص البند السادس من المادة 64 على أن البيان الحسابي الشامل الذي يقدمه المرشح أو تقدمه اللائحة يعتبر مقبولاً في حال انقضاء مهلة  الثلاثين يوما على بداية دراسته من قبل الهيئة دون أن تكون هذه قد أبدت رأيها فيه. ولا شك أن هذه المهلة قصيرة جداً، وهذا ما عبّرت عنه الهيئة في تقريرها لانتخابات 2018 حيث ذكرت أن هيئة الإشراف سنة 2009 استفادت من مهلة مفتوحة لدرس البيانات، مع توفير لها إمكانات أوسع ومع عدد مرشحين أقل، بينما هيئة سنة 2018 لاقت استحالة في إتمام دراسة البيانات مما أجبرها على الاستعانة بمدققي حسابات مجازين لإتمامها كما ذكرناه سابقا. وفي حديثنا معه، وصف رئيس الهيئة هذه المهلة ب”الهرطقة القانونية” و”تقييد لعمل الهيئة” الذي يشي بنية مبيتة لإفشال الهيئة ومنعها من القيام بعملها الرقابي. وبالمقارنة، فإن المهلة المعطاة في فرنسا لهيئة مراقبة الإنفاق الإنتخابي هو ستة أشهر لإتمام التدقيق في الحسابات.

وقد نشرت الهيئة قراراً يحمل الرقم 10 تفصح فيه عن استعانتها بموظفين من ديوان المحاسبة للتدقيق بالبيانات الحسابيّة لكي تتمكن بالحد الأدنى من تحقيق دراسة البيانات الحسابية في هذه المهلة القصيرة، لاسيما بسبب شح الإمكانيات المادية والبشرية التي بحوزتها لإتمام هذه المهمة.

5- سلطة المساءلة والملاحقة

تمتلك الهيئة أدوات محدودة في الملاحقة، فيقتصر دورها في موضوع الإنفاق الانتخابي في الطلب من وزارة الداخلية والبلديّات بتغريم المخالفين، كما الإحالة إلى النيابة العامة في حال تبيّن لها وجود مخالفة معاقب عليها قانوناً. غير أنّه كاد أن يكون للهيئة صلاحية مهمّة في ملاحقة مُخالفي قواعد الإنفاق والتمويل الانتخابي لولا تدخل المشرّع وتعديل مواد القانون، بحيث جرّد هيئة الإشراف والمجلس الدستوري معاً من إمكانية ملاحقة المخالفين ما لم يوجد طعن في صحة الانتخابات من قبل مرشح خاسر.

وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنّ القانون لا يعطي الهيئة سلطة تنبيه للمخالفين على عكس ما ورد في موضوع الإعلام والإعلان الانتخابيين حيث تعطي المادة 81 هذه الصلاحية للهيئة.

أمّا فيما يخصّ تلقّي الشكاوى، فقد أبدتْ الهيئة في بداية الحملة الانتخابية عن استعدادها لتلقي الشكاوى من خلال إعلان رقم 9 أشارت فيه إلى هذا الموضوع. غير أنها لم تشارك العموم من خلال منشوراتها الرسمية على موقع الانتخابات الإلكتروني بتلقّيها أيّ شكوى في أيّ موضوع لاسيما موضوع الإنفاق الانتخابي. علماً أن التيار الوطني الحرّ كان قد أعلن على الإعلام عن تقديم شكوى ضدّ حزب القوات اللبنانيّة متّهماً إيّاه بتخطي النفقات الإنتخابيّة من دون أن تقوم الهيئة بأيّ تصريح أو تحرّك علنيًّ في هذا الشأن توضيحاً ما إذا كانت هي الجهة التي تلقت أو قد تتلقى هذه الشكوى. 

  • محدودية أدوات الهيئة لردع المخالفات: عدلت سقوف الإنفاق تبعا لانهيار العملة الوطنية من دون تعديل غرامات تجاوزها

تتجلى في مضمون المواد 65 و 66 و 67 من القانون محدودية أدوات الهيئة لردع المخالفات المتعلّقة بالإنفاق الانتخابي.

فللهيئة بحسب البند الأول من المادة 65 التي تتحدث عن الشكاوى والملاحقات الجزائية المتعلّقة بالإنفاق الانتخابي، أن “تحيل مخالفة أحكام هذا الفصل إلى النيابة العامة المختصة إذا تبيَّن لها أن هذه المخالفة ينطبق عليها وصف الجرم الجزائي”. وينص البند الثاني أنّه “يعاقَب كل من يقدم عن قصد على ارتكاب مخالفة وفقاً لأحكام الفقرة الأولى بالحبس لمدة أقصاها ستة أشهر وبغرامة تتراوح بين خمسين مليون ليرة لبنانية ومائة مليون ليرة لبنانية أو باحدى هاتين العقوبتين وذلك دون المساس بالعقوبات التي تتناول جرائم جزائية منصوص عليها في قانون العقوبات وفي القوانين الجزائية الخاصة”. كما ينص البند الثالث أن الإنفاق الممنوع والمنصوص عليه في المادة 62 أي التقديمات على أنواعها تعتبر بمثابة جرم الرشوة المنصوص عليه في قانون العقوبات.

أمّا في المادة 66، فيتبيّن أنّ القانون يفرض غرامات عن المرشحين المخالفين لموجبات البيان الحسابي الشامل. فيتوجب على المرشح الذي لم يقدم البيان الحسابي الشامل دفع غرامة قدرها مليون ليرة لبنانية عن كل يوم تأخير، أمّا المرشح الذي تجاوز سقف الإنفاق فيتوجب عليه دفع غرامة توازي ثلاثة أضعاف قيمة التجاوز لصالح الخزينة ويُحال الملف من قبل الهيئة إلى المجلس الدستوري. وتنص المادة 67 على تطبيق العقوبات نفسها على المرشحين غير الفائزين.

من الملفت هنا أن التعديل الاستثنائي لقانون الانتخابات الذي صدر في تشرين الثاني 2021 قد عدّل سقوف الإنفاق الانتخابي تداركاً لانهيار سعر الصرف، إلّا أنّه لم يتطرّق إلى مقدار الغرامات المفروضة في القانون التي بقيت على حالها، أي أن هذه الغرامة لم تعد تشكل رادعا حقيقيا نظرا لقيمتها الزهيدة اليوم، ما يشجع المرشحين على مخالفة القانون والاكتفاء بدفع مبالغ بسيطة في حال تم تغريمهم.

يتبيّن من خلال قراءة هذه المواد أنّ الكلمة الفصل في فرض العقوبات والملاحقة في موضوع التمويل الانتخابي هي في قبضة النيابة العامة ووزارة الداخلية، فيما القانون يحصر صلاحية هيئة الإشراف على الانتخابات بالطلب والإحالة ولا يعطيها أدوات مباشرة لتمارس الملاحقة بنفسها.

في الواقع، أشار رئيس الهيئة في حديثنا معه أنه في سنة 2018، طلبت هيئة الإشراف من وزارة الداخلية تغريم المرشحين واللوائح بسبب عدم تقديم البيانات الحسابيّة لكن ذلك لم يحصل. وقد تكرر الأمر ذاته مع انتخابات 2022 إذ لم يتم تغريم المخالفين. فقد أشارت الهيئة إلى أنها قدمت إحالات إلى وزارة الداخلية بهدف فرض غرامة مليون ليرة عن كلّ يوم تأخير في تقديم البيان الحسابي الشامل على 16 لائحة لم تقدّم البيان الحسابي ولائحة قدمته متأخرة، و356 مرشحا لم يقدموا بياناتهم الحسابية و22 خارج المهلة.

  • تجريد هيئة الإشراف والمجلس الدستوري من إمكانية معاقبة تخطي سقف الإنفاق في حالات معيّنة

إن الصياغة الأولية للمادة 66 كانت تنص على أن “يُعاقب المرشح الذي لم يقدم البيان الحسابي ضمن الشروط والمهلة المنصوص عليها في المادة 64 أو الذي تجاوز سقف الإنفاق الانتخابي بإبطال انتخابه من قبل المجلس الدستوري. يُعلن المجلس الدستوري بناءً على إحالة الملف إليه من قبل الهيئة بطلان انتخابه حكماً”. لكن الصياغة أثارت حفيظة بعض النواب في المجلس، إذ اعتبر النائب نقولا فتوش في جلسة نقاش القانون في المجلس النيابي أن قرار المجلس الدستوري جرّاء هذا النص يحمل فقط الصفة الإعلانية (effet déclaratif)، ما يجرّده من صلاحيته بتقرير صحة النيابة أو عدمها، فتنتقل عمليا في هذه الحالة الصلاحية للهيئة، التي لها أن تقرر إبطال النيابة انطلاقاً من دراستها للبيان الحسابي ومن ثم ترسل الملف للمجلس الدستوري للإعلان فقط. بالتالي، ورفضاً أن تعطى الهيئة هكذا صلاحية، عمل النواب على تجريدها منها. فاقترح النائب أحمد فتفت أن يستبدل الإبطال بغرامة قدرها مليون ليرة تفرض على المتأخر عن تقديم البيان، وغرامة مضاعفة على من تجاوز سقف الإنفاق وأن يحال الملف إلى المجلس الدستوري، من دون أن يذكر موضوع الإبطال في النص، وهذا ما عمل به. وكان النائب غسان مخيبر قد اعترض حينها معتبراً أن تجاوز سقف الإنفاق الانتخابي هو بمثابة رشوة انتخابية يجب أن تكون عقوبتها الإبطال لكن لم يتم الأخذ بملاحظاته[2]

غير أنّه تبيّن لنا من خلال قرارات المجلس الدستوري الأخيرة المتعلّقة بالطعون الانتخابية والصادرة عقب الانتخابات النيابية التي حصلت سنة 2022، لا سيما القرار المتعلق بالطعن المقدم من المرشح إيلي شربشي بوجه النائبة المعلن فوزها سينتيا زرازير (القرار رقم 8/2022 تاريخ 3/11/2022)، أن المجلس الدستوري، وبالرغم من سؤاله هيئة الإشراف عن حسابات الحملات للمرشحين والاطلاع عليها في إطار دراسته للطعن، لكنه في الوقت عينه أعلن صراحة أنه ليس “مقيّداً بمضمونها وبنتائجها ويبقى له الحرية الكاملة ليكوّن قناعته”[3].

وقد ظهر ذلك جليا في الطعن المذكور إذ حصل المجلس على بيانات هيئة الإشراف المتعلّقة بالإنفاق الانتخابي للمرشحين، إلّا أنّه قام بتحقيقاته الخاصة في هذا الموضوع واستند على معلومات قد جمعها بنفسه بعد الاستماع إلى المعنيين وحصوله على مستندات قد طلبها من المرشحين ومحطات التلفزيون التي تبث الإعلان المدفوع.

بالنظر إلى ما تقدم، يتبيّن أن حجّة النائب فتوش بأن المجلس الدستوري ملزم بقرارات وخلاصات هيئة الإشراف، أي أنّه يتحوّل إلى مجرّد غرفة تسجيل وإعلان لقرارات الهيئة ليس صحيحاً. فالمجلس الدستوري استشهد في قراره بالتجربة الفرنسية التي تعتبر أن هيئة الإشراف على حسابات الحملات هي هيئة إدارية مستقلة وليست سلطة قضائيّة، أي لا تلزم قاضي الانتخابات بقراراتها، فله كامل الحرية بإعادة النظر بها. وإن المجلس الدستوري اللبناني قد احتفظ أيضاً لنفسه بحقّ عدم الأخذ بخلاصات هيئة الإشراف على الانتخابات وممارسة رقابته وإصدار خلاصاته بكل حريّة واستقلاليّة.

وهكذا تنتفي الحجّة المطروحة من قبل النائب نقولا فتوش حول إشكالية انتقاص صلاحيات المجلس الدستوري والتعديل الذي حصل على قانون الانتخابات لمنع هذا الانتقاص، والذي أدّى إلى خلل في قدرة المجلس الدستوري على معاقبة المخالفات الانتخابية. فكان من الأجدى أن تبقى لهيئة الإشراف صلاحية الطعن بصحة انتخاب مرشح بسبب تخطيه للإنفاق الانتخابي، على أن يرسل الملف إلى المجلس الدستوري الذي تبقى له كامل الحرية بالأخذ بالطعن أو ردّه.

انطلاقاً من النصّ الحالي، في حال أحيل ملفّ ما إلى المجلس الدستوري بسبب تخطّي سقف الإنفاق، وإذا ترافقت هذه الإحالة بطعن من مرشح خاسر ضدّ المرشح الرابح صاحب الملف، يكون للمجلس الدستوري الحق بالنظر في النيابة المطعون بها، ويكون حق إبطال النيابة متاحاً للمجلس بشكل يخلو من أيّ التباس. لكن السؤال الذي يبقى من دون إجابة هو معرفة مصير الملف الذي تحيله الهيئة إلى المجلس الدستوري في حال لم يتمّ الطعن بنيابة المرشح الفائز صاحب الملف، فهل يحقّ للمجلس حينها أن ينظر بصحّة النيابة وأن يعلن الإبطال؟

من المعلوم أن المجلس الدستوري في لبنان لا يملك الحق بالتحرّك عفواً (auto saisine) والنظر بصحةِ نيابةٍ دون طعنٍ مقدّم أمامه. وإن نص المادة 66 بصياغته الحالية مبهم، فهو لا يعطي حق التحرّك عفواً للمجلس ولا يعطي حقّ الطعن بصحّة النيابة لهيئة الإشراف. فتضحي إذاً مخالفة تخطي سقف الإنفاق الانتخابي، في حال عدم وجود طعن، غير مرتّبة لأيّ نتيجة على نيابة المرشح الفائز.

بالتالي فإن النصّ الحالي للمادة 66 يشوبه الغموض ما يؤدي إلى الحد من فعاليته، لاسيما بالنظر إلى مقدار الغرامة الزهيد المفروض على المرشح المخالف. لا بدّ هنا على المشرّع إن كانت لديه النيّة بتفعيل القانون حقا لجهة احترام سقف الإنفاق الانتخابي والحدّ من الرشوة الانتخابية، أن يعطي هيئة الإشراف الحق، وبشكلٍ واضحٍ، بالطعن بنيابة المخالفين أمام المجلس الدستوري، وقد تعتبر الإحالة نفسها بمثابة الطعن، ما يفتح المجال أمام المجلس لإبطال النيابة في حال وجد أن المخالفات المرتكبة تستأهل ذلك. وليس ما يمنع أن تعدّل المادة بحيث يكون للهيئة الحقّ بالإحالة والطعن ليس فقط لتخطي سقف الإنفاق الانتخابي، إنما أيضاً لعدم تقديم البيان الحسابي للمرشح، وهي من المخالفات الشائعة بحسب تصريح الهيئة في بياناتها[4]

  • غياب الملاحقة للمرشحين الغير فائزين في حال تخطيهم لسقف الإنفاق الانتخابي

ولا بدّ في هذا الإطار من مراجعة المادة 67 التي تعالج إشكالية المخالفين لموجب تقديم البيان الحسابي ولتخطي سقف الإنفاق الانتخابي من غير الفائزين. في هذا الشأن، تفرض المادة 67 غرامة مليون ليرة عن كلّ يوم تأخير في تقديم البيان الحسابي وغرامة في حال تخطي سقف الإنفاق توازي ثلاثة أضعاف قيمة التخطي. غير أن هذه العقوبات بيّنت عدم فعاليتها في ردع المخالفين.

من النافع هنا الاستفادة من التجربة الفرنسية في هذا الموضوع. فهيئة الإشراف على حسابات الحملات والتمويل السياسي الفرنسية هي التي تستلم البيانات الحسابية للمرشحين. في حال وجدت الهيئة إشكاليّة في هذه الحسابات، تحيلها إلى قاضي الإنتخابات لكي يتخذ الإجراءات الملائمة كما نقرأ في تقريرها المنشور[5]. إن قانون الانتخابات الفرنسي يعطي قاضي الانتخابات وهو المجلس الدستوري في حالة الانتخابات النيابية، الحق في فرض عقوبة التجريد من حق الترشح لمدّة معيّنة على المرشح الذي لم يقدم بيانه الحسابي أو تخطى سقف الإنفاق أو تم رفض بيانه الحسابي[6]. لا بدّ للمشرع اللبناني الاستلهام من هذه التجربة وتعديل القانون، فيُعطى الحق للمجلس الدستوري بصفته قاضي الانتخابات في لبنان، أن يجرّد المخالفين من حقّ الترشح، على أن توسّع هذه العقوبة لتشمل الفائزين في الانتخابات، فترفق العقوبة بإبطال نيابتهم. 

  • سلطة الكشف عن المخالفات التي تم رصدها

نشرت هيئة الإشراف بياناً بعد انتهاء الانتخابات النيابية أي بتاريخ 28 تموز 2022 أعلنت فيه عن تحويلها عدداً من المخالفات في الإعلام والإعلان والإنفاق الانتخابي إلى النيابة العامة والطلب من وزير الداخلية تغريم بعض الوسائل الإعلامية.

ففي موضوع الإنفاق الانتخابي بالتحديد، أشارت الهيئة إلى أنها أحالت 25 شكوى إلى النيابة العامة “تتضمن رشاوى وعرقلة العملية الانتخابية وغيرها من جرائم جزائية”. كما أعلنت في موضوع الإنفاق أنها طلبت من وزير الداخلية فرض الغرامات على 16 لائحة لم تتقدم ببياناتها الحسابية الشاملة ولائحة واحدة تقدمت خارج المهلة، كذلك طلبت بفرض الغرامة على المرشحين الذين لم يتقدموا ببياناتهم الحسابية الشاملة إذ بلغ عددهم 356 مرشحا وأيضا الذين تقدموا بالبيانات خارج المهلة وبلغ عددهم 22 مرشحا. غير أن الهيئة لم تفصح في بيانها عن طبيعة الشكاوى والمرشحين أو اللوائح المعنية، كما لم تفصح عن هوية اللوائح والمرشحين المخالفين في موضوع البيان الحسابي الشامل. يتضح من الأرقام استهتار عدد لا يستهان به من المرشحين بتقديم بياناتهم الحسابية الشاملة، خصوصاً بالمقارنة مع الذين تقدموا خارج المهلة، أي أنّهم حاولوا تسوية أوضاعهم تجاه القانون ولو متأخرين. ويدلّ هذا الرقم المرتفع إلى فشل القانون في ردع مخالفات الإنفاق الانتخابي لاسيما تجاه الموجب الأساس وهو التصريح عن كامل الأموال التي تم استخدامها في العملية الانتخابية من خلال البيان الحسابي الشامل.

وتعتبر البيانات الحسابية الشاملة المقدّمة من المرشحين أمراً جوهريًّا لاستقامة الانتخابات تأمينا لنزاهتها وشفافيتها. وتولي السلطات الرقابية الفرنسية مثلاً أهميّة كبيرة لهذه البيانات التي قد تؤدّي إلى إبطال نيابات ومنع الترشّح مجدّداً للمخالفين، وقد ناقشنا هذا الموضوع في القسم السابق. وإن غياب مثل هذه العقوبات في القانون اللبناني كما غياب الأدوات الفعالة والقدرات البشرية لهيئة الإشراف لإتمام رقابة جديّة على البيانات الحسابية الشاملة تؤدّي إلى هذه المخالفات الفاقعة لأبسط قواعد الانتخابات النزيهة.

في سياق متّصل، من المفيد الإشارة إلى أن الهيئة، فضلاً عن تحفظها بنشر معلومات واضحة عن المخالفات التي رصدتها والاكتفاء بالأرقام، قد تحفّظت أيضاً عن نشر حسابات الحملات للمرشحين واللوائح. فعلى الرغم من أن القانون اللبناني لا يوجب على هيئة الإشراف أن تنشر حسابات الحملات للمرشحين واللوائح، غير أن ذلك لا يحول دون أن تقوم هي بذلك. ومن المؤكّد أن نشر هذه الحسابات وتمكين الناخبين وجمعيات المجتمع المدني المتخصصة من الإطلاع عليها يعزّز الشفافيّة ويعطي صورة دقيقة وحقيقية عن أداء المرشحين واللوائح. لكن يبقى أن الهيئة تتردّد حتى الآن في نشر هذه البيانات علما أن هيئة الإشراف الفرنسية مثلا تنشر حسابات الحملات بموجب قانون الانتخاب[7]  كما تنشر دليلاً للمرشح والمفوّض بحساب الانتخابات تفصّل فيه القوانين التي ترعى الانفاق الانتخابي ومهام مفوّض الحساب في الإنفاق وتحصيل الأموال للحملة الانتخابية وكيفيّة التعاطي مع هيئة الإشراف على الحسابات والقواعد التي ترعى عمل الهيئة وتفصيلاً عن قراراتها.

  • سلطة التذكير بالقانون

من تجلّيات ضعف قدرات هيئة الإشراف على الانتخابات في ردع المخالفات والتصرف مباشرةً في موضوع الإنفاق الانتخابي هو لجوئها إلى البيانات التذكيرية بشكل واسع. يتّضح هنا أن الهيئة، وبظلّ عدم تمكّنها من ردع المخالفين وبظلّ ضعف الملاحقة من قبل وزارة الداخلية والمحاكم (مراجعة مقالنا السابق في موضوع هيئة الإشراف حول بطء محكمة المطبوعات في البت في المخالفات)، قد لجأت إلى الوسيلة الوحيدة المتاحة لها بشكل واسع وهي نشر البيانات للتذكير بمضامين القانون لعلّ هناك من يستجيب إلى نداءاتها من المرشحين واللوائح. وفي ما يلي تفصيلاً حول البيانات التذكيرية التي نشرتها هيئة الإشراف.

  • –         التذكير بمضمون المادة 62 بشأن التقديمات الممنوعة وتلك المسموحة :

أصدرت الهيئة بتاريخ 24 آذار 2022 و7 نيسان 2022 بيانين تذكيريين يحملان الرقم 6 و9، حيث تطرّقت فيهما إلى موضوع المادة 62. ففي البيان رقم 6، قامت الهيئة بتذكير المعنيين في الحملات الانتخابية بعد ورود معلومات عن تقديمات عينية ومساعدات ودفع مبالغ للناخبين، بموجبات المادة 62 التي تحظّر مثل تلك التقديمات. فالهيئة سلّطت الضوء في بيانها الأول هذا على البند الأول من المادة 62 الذي يتحدث عن منع المساعدات العينية ويحظّرها أثناء الحملة، معتبرةً أنّ هذه المساعدات المحظورة هي بمثابة جرم الرشوة المعاقب عليه في قانون العقوبات. وقد ذكرت الهيئة بشكل سريع بالاستثناء الموجود في البند الثاني. أمّا في بيانها الثاني الذي يحمل الرقم 9، سلّطت الهيئة الضوء على الجانب الثاني من المادة 62 وهو الاستثناء الموجود في البند الثاني منها، التي تبيح التقديمات ضمن شروط معينة. فقامت الهيئة بذكر هذه الشروط المنصوص عليها قانوناً والتي ذكرناها أعلاه، أي أن تكون متّسمة بالديمومة على فترة 3 سنوات وبالتطابق في النوع والحجم وفي المصاريف التي تنشأ عنها، كما ألقت الهيئة عبء إثبات احترام هذه الشروط على الجهة المقدّمة واحتفظت لنفسها بحق المراقبة على هذه التقديمات. وأنهت الهيئة بيانها بالتذكير أن المخالفات في هذا الشأن تعتبر بمثابة جرم الرشوة.

  • –         التذكير بموجبات مدققي الحسابات بشأن البيان الحسابي الشهري الذي عليهم تقديمه إلى الهيئة

في سياق تذكيرها بمواد القانون لاسيما تلك التي تتضمن موجبات على عاتق المرشحين واللوائح، أصدرت هيئة الإشراف منشورين متعلقين بمضمون المادة 63 من القانون التي تتحدث عن موجبات مدقق الحسابات المعتمد من اللائحة أو المرشح. تفرض هذه المادة على مدقق الحسابات أن يرفع إلى الهيئة دوريًّا وبمهلة أسبوع من انقضاء كل شهر من أشهر فترة الحملة الانتخابية بياناً حسابيًّا شهريًّا يبيّن فيه المقبوضات والمدفوعات والالتزامات المالية للشهر المنصرم مع بعض المستندات المرفقة. فأصدرت الهيئة أولاً إعلاناً يحمل الرقم 5 بتاريخ 10 آذار 2022 تعيد فيه التذكير بموجبات المادة 63، موضحةً أن هذا الموجب يسري على المرشح أو اللائحة عند فتحهما الحساب المصرفي المختص بالحملة ومباشرة تلقيهم المساعدات وصرفهم للنفقات. غير أن الهيئة، وبعد سبعة أيام على إعلانها الأول، أي في 17 آذار، ألحقت هذا الإعلان ببيان توضيحي يحمل الرقم 5 أعادت فيه التذكير بموجبات المادة 63، مضيفةً أنه بعد ورود عدد من الاستفسارات إليها حول موجبات مدقق الحسابات، وبالنظر إلى غموض المادة 63 حول مهلة تقديم البيان الحسابي الدوري، فإنها تفيد بأن البيان الشهري يتوجب تقديمه عند تقديم طلب الترشيح وفتح الحساب المصرفي المتعلق بالانتخابات ولا يمكن تقديمه قبل هذه المهلة إذ إنه موجب شخصي ولا يمكن أن يرتبط بفترة الحملة الانتخابية بشكل مطلق. وأضافت الهيئة أن هذا البيان يُقدّم على همّة المدقق من دون اعتماد نموذج معيّن.

  • –         تعليمات حول البيان الحسابي الشامل

أصدرت الهيئة بتاريخ 13 أيّار 2022 بياناً يحمل الرقم 6 أوضحتْ فيه النفقات الانتخابية التي يجب أن يتضمنها البيان الحسابي الشامل للمرشحين واللوائح.

يتضمن أولاً هذا البيان توضيحاً بشأن المصاريف الناتجة عن نقل وتنقل الناخبين. إذ تعتبر الهيئة أن تكبّد المرشحين هذه المصاريف يوجب عليهم إدراجها في بيانهم الحسابي الشامل، أمّا في حال تكبّد اللائحة أو الحزب هذه المصاريف، فيتوجب تقسيمها بالتساوي على أعضاء اللائحة. كما ذكرت الهيئة أن القانون لا يفرّق في نفقات تنقل المرشحين بين تنقلهم داخل لبنان أو من الخارج إلى لبنان. وفي الإطار نفسه، اعتبرت الهيئة أن الدعوات التكريمية ومآدب الطعام تعتبر مساهمة من الجهة الداعية، لذا يجب التصريح عنها للهيئة وتقدير الكلفة الناتجة عنها والتصريح عنها في البيان الحسابي الشامل. 

تطرق البيان ثانيًّا إلى احتساب نفقات الدعاية والإعلان الانتخابيين. ففنّد الأمور التي تعتبر داخلة ضمن احتساب نفقات الدعاية والإعلان أي الواجب إدخالها إلى البيان الحسابي الشامل للمرشح، وهي أي إعلان يظهر فيه المرشح بالصورة أو النص أو الإثنين معاً، أو ورود اسم اللائحة التي ينتمي إليها المرشح ولو لم يتم ذكره تحديداً، أو ورود اسم الجهة السياسية التي ينتمي إليها المرشح ولو لم يتم ذكره تحديداً أو ذكر أي قيادي من هذه الجهة السياسية أكان مرشحاً أو غير مرشحاً، أو ورود إعلان يُستخدم فيه شعار الحزب الذي ينتمي إليه المرشح أو لون الحزب أو رمز من رموز الحزب، أو أي إعلان فيه إئتلاف أحزاب أو تيارات سياسية ينتمي إليها المرشح، وأن كلّ هذه الإعلانات تأخذ في الحسبان أينما وجدت في لبنان. ويضيف البيان إلى أن مواقع التواصل الاجتماعي المتعددة تدخل ضمن تصنيف وسائل الإعلام وتخضع للإنفاق الانتخابي.

تطرّق البيان ثالثاً إلى عدد من النفقات التي يعقدها المرشح أو تعقدها اللائحة خلال الحملة الانتخابية. فينص البيان أن الأطعمة والمرطبات المقدّمة للمندوبين والمتطوعين تدخل ضمن السقف الانتخابي للمرشح. كذلك ينص البيان على أن الصور والملصقات المتعلّقة بالمرشح والمعدّة والمدفوع قيمتها في مرحلة تسبق الحملة الانتخابية تحتسب ضمن سقف الإنفاق الانتخابي إذا تم استخدامها ضمن الحملة. يعتبر أيضاً البيان أن بدلات الإيجار عن المكاتب الانتخابية المستخدمة يجب أن تذكر في البيان الحسابي (منذ تاريخ تقديم الترشيح حتى اقفال الصناديق الانتخابية)، بالإضافة إلى المكاتب المقدّمة على أساس أنها مساهمة تحتسب في البيان الحسابي الشامل. كما أعاد البيان ذكر موضوع التقديمات المسموح بها في المادة 62 من القانون والتي ذكرناها أعلاه، دون أي تعديل في المضمون. وأخيراً اعتبر البيان أنّ أي هبة أو تبرع أو هدية نقدية أو عينية أو قرض أو سلفة أو دفعة مالية أو أي شيء له قيمة مادية يقدم إلى المرشح أو اللائحة يعتبر بمثابة مساهمة بمفهوم قانون الانتخاب فيجب إدراجها في البيان الحسابي الشامل.

أخيراً، اعتبر البيان في فقرته الرابعة أنه على المرشح أن يدرج ضمن بيانه الحسابي الشامل النفقات على الدعاية والإعلان التي قامت بها أحزاب أو جهات سياسية أو لوائح انتمى اليها هذا المرشح لاحقاً، إذ إنها تحتسب من ضمن سقفه للإنفاق الانتخابي وإن لم يكن قد أعلن عن انتمائه إليها في تاريخ عقد هذه النفقات. إلّا أن المرشح يتحمل هذه النفقات منذ تاريخ ترشيحه.

  • –         توضيح للهيئة حول مهلة تقديم البيانات الحسابية والمرشحين المعنيين

أصدرت هيئة الإشراف بمناسبة انتهاء العملية الانتخابية وصدور النتائج الرسمية بياناً بتاريخ 16 أيّار 2022 يحمل الرقم 17، ذكّرت فيه بموجبات المرشح في تقديم البيان الحسابي الشامل مع التذكير بالمهلة في تقديم هذا البيان انطلاقاً من المادة 64 من القانون. تضمن البيان نقلاً حرفيًّا لدقائق المادة 64 من القانون التي تتحدث عن طبيعة البيان وما يشمله (واردات ومقبوضات ومساهمات عينية)، كما مهلة الثلاثين يوما التي تلي الانتخابات التي يجب تقديم البيان فيها، كما التصريح الصادر عن المرشح الذي يقرّ فيه بصحّة البيانات الموجودة في البيان الحسابي. وقد ذكّرت الهيئة في بيانها على وجوب تقديم شهادة من مدقق الحسابات حتى لو لم يتضمن البيان الحسابي أي واردات أو نفقات انتخابية. كما أشارت الهيئة في بيانها هذا إلى العقوبات المنصوص عليها في المادة 66 من القانون وهي مليون ليرة عن كلّ يوم تأخير في تقديم البيان الحسابي الشامل، وثلاثة أضعاف قيمة تجاوز السقف الانتخابي إن حصل، على أن تذهب هذه الأموال لصالح الخزينة.

  • –         تحديد مفهوم التطوع وما يجب إدخاله في حساب النفقات

نشرت الهيئة بيانًا يحمل الرقم 10 بتاريخ 7 نيسان 2022 أوضحت فيه موضوع التطوّع وخدمات المندوبين وتحذّر فيه من توسيع موضوع التطوّع للتهرّب من إدراج الأموال المدفوعة للمندوبين ضمن النفقات الانتخابية، بما أن البند الرابع من المادة 60 لا يعتبر عمل الأفراد المتطوعين مساهمة تدخل في حساب النفقات الانتخابية. غير أن إهمال المرشحين لموجب الإنفاق من خلال الحساب الانتخابي واعتمادهم على الإنفاق بالعملة النقدية، وفي ظلّ عجز الهيئة عن مراقبة هذا الإنفاق النقدي، يزيد بشكل كبير التشكيك  في مدى التزام المرشحين واللوائح لهذا الموجب، كما يفقد البيانات الحسابية الشاملة المقدمة في نهاية الانتخابات مصداقيتها إذ تصبح مجرد إجراء شكلي يساهم للمفارقة في منح المخالفين حصانة قانونية تفيد باحترامهم سقف الإنفاق الانتخابي انطلاقا فقط من الحساب المصرفي الخاص بهم.

خلاصة

في ظلّ الانهيار الاقتصادي الكبير الذي يشهده لبنان وفقدان قيمة الأجور نظراً لتدهور سعر صرف العملة الوطنيّة، يأخذ موضوع الإنفاق الانتخابي أهميّة كبرى لما للمال الانتخابي اليوم من قدرة على شراء الأصوات والرشوة بأزهد الأثمان نظراً لحالة اليأس والعوز التي وصل إليها العديد من اللبنانيين. إنّ هذه القدرة الضاغطة للمال السياسي في لبنان لم تجابه في الانتخابات النيابية التي حصلت في عام 2022 بأدوات فعّالة للجمها والحدّ من تسلّطها على الحملة الانتخابية. فكما تمّ شرحه في المقال، أخفق مجلس النواب في إرساء إطار فعّال لضبط الإنفاق الإنتخابي، والحكومة جرّدت هيئة الإشراف الانتخابي من القدرات المادية والبشرية للقيام بعملها ضمن صلاحياتها المنقوصة أصلاً، والهيئة نفسها شاب عملها نواقص كونها التزمت تفسيراً ضيّقاً للقانون كان من الممكن التخلي عنه لأجل فعاليّة أكبر في العمل. 

إن قانون الانتخابات نفسه يفسد الغاية من مراقبة الإنفاق وضبطه، إذ إنه في المادة 62 منه يشرّع الرشوة ويكرس الممارسات الزبائنية ويفتح بابا واسعا للتهرب من سقف الإنفاق الانتخابي، عندما يسمح بالتقديمات من قبل المؤسسات التابعة لمرشحين تحت ذريعة استدامتها بالمدة والكمية والنوعية. فأين المنطق في استثناء لا تقدر هيئة الإشراف على مراقبة ممارسته بسبب عدم وصولها لسجلات الجمعيات؟ وأي تضارب بين إنفاق انتخابي محصور بحساب انتخابي وسحب شيكات لمبالغ تتخطى المليون ليرة، إذا كان هناك إمكانية في التحرر من كل هذه الضوابط من خلال استثناء المادة 62؟ 

بالإضافة إلى ذلك، فإن الجزء الخاضع لمراقبة هيئة الإشراف في موضوع الإنفاق بقي أيضاً متفلّتاً، إذ أن موجب دفع المبالغ التي تتخطى قيمتها المليون ليرة الذي ذكرناه بقي في أكثرية الأحيان حبراً على ورق، وموجب تقديم بيان حسابي شهري عن المقبوضات والمدفوعات في حساب الحملة الانتخابية لم يتم الالتزام به ووقفت الهيئة عاجزة عن ردعه بسبب غياب الوسائل القانونية التي تسمح لها بمعاقبة هكذا تصرف. ومن المعلوم أنّ معظم الأموال في الحملات الانتخابية دفعت نقداً ما أفقد الهيئة القدرة على مراقبة هذه العمليات النقدية التي تمت دون المرور بالمصارف، هذا فضلا عن البيان الحسابي الشامل الذي تخلّف العديد من المرشحين عن تقديمه، أو قدموه متأخراً أو مغلوطاً. 

وتبرز هنا إشكاليتان، الأولى هي الوقت الضيّق والتعجيزي الذي فرضه المشرّع على الهيئة لإتمام دراسة بيانات الحسابات وهو شهر فقط، وتجريد الهيئة من الكادر البشري والتمويل لإتمام هذه العملية، على أن تعتبر البيانات مقبولة إذا تعذّر على الهيئة البتّ بها. وهو أمر يطرح علامات استفهام ويشي بوجود نية مضمرة لتكبيل الهيئة وعرقلة عملها في دراسة بيانات الحسابات كي لا تتمكن من البت بها خلال المهلة القانونية، ما يسمح للمرشحين الذين لم يحترموا سقف الإنفاق الانتخابي من الإفلات من العقاب. 

أما الإشكالية الثانية فهي عدم وجود تبعات جديّة لمخالفة قواعد الإنفاق الانتخابي. إذ كما فسّرنا أعلاه، في حال وجود مخالفة في الإنفاق، وفي حال عدم وجود طعن بصحّة النيابة وفق الأصول، فإن الهيئة لا تملك حق الطعن والمجلس الدستوري لا يمكنه أن يتحرّك عفواً، فيبقى المرشح المنتخب نائباً ويبقى المرشح الخاسر قادراً على الترشح مجدداً بالرغم من مخالفتهما لقواعد الإنفاق. 

إن القانون بنزعه حق الهيئة بالاطلاع المباشر على حسابات الحملات الانتخابية قد ساهم أيضاً في ضبابية المشهد الانفاقي وفي قدرة الهيئة على المراقبة. وفي هذا الإطار، تبين لنا أن رفع السريّة المصرفيّة عن حساب الحملة بموجب القانون لم يأتِ بالشفافية المطلوبة لاسيما بسبب استنسابية المصارف في تسليم المعلومات للهيئة. 

في ظلّ الكشف عن نواقص القانون ومساوئه، تجدر الإشارة أيضاً إلى السماح بتمويل الحملات من قبل الأشخاص المعنويين (وإن كانوا لبنانيين) وما يحمل هذا الأمر من تضارب في المصالح وضغوط على المرشحين وكنّا قد أشرنا في بداية المقال إلى خطورة هذا الأمر وإلى منعه في فرنسا مثلاً، حمايةً لاستقلالية المرشحين. 

لا بدّ في النهاية من الإشارة إلى أن هيئة الإشراف، بالرغم من ضعف إمكانياتها القانونية والمادية والبشرية التي أثرّت بشكل كبير في مراقبتها للإنفاق الانتخابي، كان بإمكانها أن تشرك الإعلام والرأي العام بشكل أكبر في دورها أوّلاً من خلال الإفصاح المبكر عن السقوف الإنتخابية، وثانيًا بإطلاع الرأي العام على مشاكلها في المراقبة والتعاطي مع المرشحين واللوائح والمصارف ومدققي الحسابات لزيادة توعية الناخب على الممارسات الخاطئة التي كانت تحصل في الحملة.

وقد تجلى ضعف هيئة الإشراف أيضا في قرار المجلس الدستوري الذي اعتبر بموجبه أن التقرير الصادر عن الهيئة غداة انتهاء العملية الانتخابية والمتضمن المخالفات التي تم رصدها ومن بينها تلك المتعلقة بشراء الأصوات ” لا يمكن الاستناد إليه كونه جاء شاملا وعاما ولم يحدد دائرة انتخابية معينة أو مرشح بعينه” (قرار رقم 15 تاريخ 24/11/2022). فالقانون أراد أن تكون الهيئة شريكة المجلس الدستوري من أجل ضمان ديمقراطية الانتخابات ونزاهتها بينما تبين من خلال قرار هذا الأخير أن مراقبة الهيئة للعملية الانتخابية لم تساعده في تكوين المعطيات الضرورية التي تساعده على اتخاذ القرار المناسب بخصوص الطعون الانتخابية.

أخيراً، إن القدرات المالية المتفاوتة للأحزاب بظلّ غياب أيّ تمويل رسمي للعمل السياسي في لبنان يضمن إمكانيات ماديّة للأحزاب الناشئة تسمح لها بالتنافس الديمقراطي مع الأحزاب المترسّخة، بالإضافة إلى الفوضى في تنظيم الإنفاق الانتخابي، يؤدّي إلى النتيجة التي رأيناها في الانتخابات النيابية الأخيرة التي كرست سطوة المال والزبائنية وعززت منهما لا سيما في ظل الانهيار الاقتصادي الذي يعيشه لبنان واضمحلال الدولة، إّذ يمكن لنا القول أن الانتخابات غدت مسرحيّة استخدمتها السلطة لتجديد شرعيتها وتأمين استمرارية هيمنتها على المؤسسات الرسمية والمجتمع.


[1] حول تقييم أداء هيئة الإشراف على الإنتخابات، جمعية لادي

[2] الدور التشريعي الثاني والعشرون، العقد الإستثنائي 2017 – محضر الجلسة الأولى 16 حزيران 2017

[3] صفحة 35 من القرار المذكور

[4] في هذا الإطار، من المفيد الإشارة إلى العلاقة  بين المجلس الدستوري وهيئة الإشراف على الانتخابات كما ظهرت  في ظلّ دراسة المجلس للطعون الإنتخابية. ففي القرار الصادر عن المجلس الدستوري بتاريخ 20 تشرين الأول 2022 بخصوص الطعن المقدم بوجه النائبان شربل مسعد وسعيد الأسمر، تطرّق المجلس في ملاحظة عرضية له إلى موضوع السقوف الانتخابية  فاعتبرها “مرتفعة جداً لا تراعي مبدأ تكافؤ الفرص بين المرشحين وبين اللوائح”، كما تبيّن أنّ المجلس الدستوري قد سأل هيئة الإشراف عن الإنفاق الانتخابي للنائبين المطعون بفوزهما التي أفادته أن مراجعة البيانات الحسابية العائدة لهما أظهرت أنهما لم يتخطيا السقف القانوني ما دفع المجلس الدستوري إلى رد الطعن ضدهما. وكانت المفكرة قد علمت أن الهيئة، بناء لطلب المجلس الدستوري وكسبا للوقت، قامت بإعطاء الأولوية من أجل تزويد هذا الأخير  بالملفات المتعلّقة بالمرشحين الذين طعن في صحة نيابتهم.

[5]  Lorsque la Commission rejette un compte de campagne, constate l’absence de dépôt de ce dernier ou son dépôt hors délai au regard des dispositions de l’article L. 52-12 du code électoral, elle a l’obligation de saisir le juge de l’élection en application de l’article L. 52-15 du code électoral. Si le juge considère que la Commission a statué à bon droit et s’il constate une volonté de fraude ou des manquements d’une particulière gravité aux règles relatives au financement des campagnes électorales, il peut prononcer l’inéligibilité du candidat (article L. 118-3), Rapport 2021 de la commission nationale des comptes de campagne et des financements politiques, p.25.

[6] لمادة LO 136-1 من قانون الانتخابات الفرنسي

[7] Article L. 52-12, alinéa 4 du code électoral : IV.-La Commission nationale des comptes de campagne et des financements politiques assure la publication des comptes de campagne dans un standard ouvert, aisément réutilisable et exploitable par un système de traitement automatisé, et assure leur publication au Journal officiel. Elle indique notamment les montants consolidés des emprunts souscrits par le candidat ou le candidat tête de liste pour financer cette campagne, répartis par catégories de prêteurs, types de prêts et pays d’établissement ou de résidence des prêteurs, ainsi que l’identité des prêteurs personnes morales.

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد البرلماني ، البرلمان ، لبنان ، مقالات ، دستور وانتخابات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني