الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً “تصارح” الأهالي: نحن منزل من دون أبواب


2022-12-16    |   

الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً “تصارح” الأهالي: نحن منزل من دون أبواب

فاضت قاعة نادي الصحافة بأعداد الوافدين لحضور المؤتمر الأول للهيئة الوطنية  للمفقودين والمخفيين قسراً بعد عامين ونصف على تشكيلها، الذي انعقد يوم الأربعاء 14 كانون الأول 2022. شكّلت النساء الجزء الأكبر من الحاضرين، كيف لا وهنّ أخوات وأمهات وبنات المفقودين. أتين حاملات صور مفقوديهنّ الذين مرّ على اختفاء بعضهم أكثر من أربعين عاماً. وهو مشهد يُعاد في كل حدث مرتبط بأهالي المفقودين منذ انتهاء الحرب اللبنانيّة عام 1990، مشهد لم يهزّ عروش قادة الحرب في الماضي زعماء السياسة في الحاضر. 

والهيئة التي أُنشئت في تمّوز 2020، لا تزال اليوم “منزلاً من دون أبواب” على حدّ وصف نائب رئيسها (بالإنابة) زياد عاشور. فهي تحتاج إلى مقرّ، وميزانية خاصّة، وعدد أعضائها الحالي هو ثمانية فقط بدلاً من عشرة أي أنّها تحتاج بعد إلى عضوين إضافيين من الجسم القضائي. ويعود هذا النقص إلى استقالة أحد القضاة (رئيس الهيئة القاضي سليم الإسطا) مؤخراً لأسباب صحية، واعتذار آخر عند صدور مرسوم تعيينه عن استلام مهامه، وتنتظر الهيئة أن يقوم مجلس الوزراء من جديد بتعيين العضوين. الأهم من ذلك مقاربة السلطة لهذه القضية والقائمة على الإهمال والاستمرار في “السلام المشوّه” منذ إقرار وثيقة الوفاق الوطني عام 1990، وإنهاء الحرب وطمر حقائقها ومعها مصير آلاف المفقودين والمخفيين قسراً.

مقاربة السلطة يعاكسها توجّه الأهالي والهيئة الوطنيّة للكشف عن مصير المفقودين والمخفيين قسرا رغم تحديّات شديدة الصعوبة، هذا غير سباقها مع الزمن الذي يأخذ كل يوم رفيقا من أهالي المفقودين والمخفيين قسرا وهو متعطّش للمعرفة. 

الوقت يُهدّد مسار الكشف عن الحقيقة

أمام الحضور الكثيف وعدسات الإعلام، اصطفّ الأعضاء الثمانية للهيئة الوطنيّة للمفقودين والمخفيين قسراً، تتوسّطهم ممثلة الأهالي ورئيسة لجنة المفقودين والمخفيين وداد حلواني. أكّدت وداد أنّ “القانون/ الإنجاز أبصر النور نتيجة نضال شاقّ طويل للجنة الأهالي وحلفائها”. وأضافت: “إنّ الهيئة، ابنة هذا القانون، على وشك ختم عامين ونصف من عمرها، إلّا أنّها لا تزال تواجه عقبات شتّى لافتقارها للحد الأدنى من مقوّمات نصّ عليها قانون إنشائها”. 

“ليس لدينا مكان للاجتماع، ولا خزانة لنضع فيها المستندات، كنّا نجتمع في بيت أحدنا أو في الكافيهات، إلى أن قدمت لنا نقابة المحامين في بيروت مكاناً لنجتمّع” بحسب نائب رئيس الهيئة زياد عاشور. وعلى الرغم من التحدّيات، لفت عاشور إلى الجهود التي بُذلت خلال العامين والنصف السابقين: “جهدنا في الهيئة من أجل استكمال البناء المؤسسي للهيئة عبر إقرار النظام المالي، ومن ثم النظامين الإداري والداخلي، وقواعد الأخلاقيات والسلوك ووضع الموازنات، وإقرار خطة استراتيجية للأعوام الثلاثة المقبلة”. وشرح أنّ الهيئة حددت أهدافاً مهمة وأساسية تذهب في اتجاهين، الأول بناء قاعدة بيانات مركزية لها تتعلق بـ المفقودين والمخفيين قسراً، والاتجاه الثاني، هو حماية الأماكن المحتملة لوجود رفات المفقودين، أي جمع بيانات المقابر الجماعية من أجل حفظها وحمايتها. ولفت إلى أنّ الهيئة في سباق مع الوقت فـ “كل يوم نخسر واحداً من ذوي المفقودين والمخفيين قسراً ونبتعد أكثر عن الأمل، كما أنّه في كل يوم هنالك أشغال أو عمران في مكان ما قد يبعثر أثراً أو دليلاً يرشدنا إلى عزيز مفقود. وبشكل خاص العبث المقصود أو المبني على الإهمال بالمقابر الجماعية”. 

مراحل قضيّة يشوبها البطء الأقرب إلى الجمود

وبحسب عاشور، فإنّ المؤتمر هو “لمصارحة الأهالي بالدرجة الأولى، والرأي العام بالدرجة الثانية، وهو موجّه بشكل عام إلى كل من يعبّر عن اهتمام ودعم وتبنّي لهذه القضية الإنسانية”. وتلا عاشور بياناً مفصّلاً ذكر فيه “أبرز الأحداث والإنجازات التي بحثت عن مكان لها في مستنقع من الإهمال والظلم واللامبالاة.. وهي عبارة عن ثلاث مراحل أساسية” مرّت بها هذه القضية، بحسب تعبيره. المرحلة الأولى بدأت مع اندلاع الحرب اللبنانية في العام 1975 وتفاقمت مع مرور السنين حتى العام 1990، ونتج عنها 17 ألف مفقود ومخفي قسراً. واعتبر عاشور أنّ هذه القضية ليست قضية عائلات وأصدقاء المفقودين والمخفيين فقط بل قضية كل لبناني. وشرح أهميّة ارتباط ما نمر به اليوم مع الماضي، قائلاً إنّ “ما نشهده اليوم من أزمة معقدة ومركبة هي نتيجة طبيعية لهذه الخطيئة التي ارتكبت منذ أكثر من ثلاثين عاماً”. 

المرحلة الثانية، بدأت عشية إقرار وثيقة الوفاق الوطني (اتفاق الطائف) وحتّى إقرار قانون المفقودين والمخفيين قسراً (105/2018) في 30 تشرين الثاني 2018، أي 28 عاماً من الإهمال لهذه القضيّة الإنسانية اختتمت بإقرار القانون. أكّد عاشور أنّها مرحلة “كنّا ننتقل فيها ببطء يشبه الجمود من أقصى الخيبة إلى بداية الأمل عبر نضال الأهالي المفقودين، نضال يخوضونه عبر مسلك ضيّق ومتأرجح، ويلفّه شعور مؤلم أنّ ضحايا الحرب من المفقودين والمخفيين قسراً وذويهم متروكون لمصيرهم في هذا الوطن”. 

واستغرب عاشور “صمت دعاة السلام الذي وصفه بالسلام المشوّه (الذي بدأ مع اتفاق الطائف)، وبشكل خاص المجتمع المحلي والدولي والإقليمي وكذلك السلطة والرأي العام المحلي”. 

وأشار عاشور إلى المرحلة الثالثة، وهي المرحلة التي تلت إقرار القانون 105 عام 2018، “هي الخطوة الرسمية التي فتحت مسار العدالة الانتقالية في لبنان، فأقبلنا من خلالها على الضحايا وذويهم بهذا القانون وعلّقنا آمالهم المشتتة على الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً، التي أبصرت النور في تموز 2020. ولكن للأسف هذه الهيئة لا تزال منزلاً من دون أبواب”. 

مع كلّ هذا البطء في تعامل السلطة اللبنانيّة مع هذه القضية، رأى عاشور “أهمية هذا القانون في كونه أعاد إلى المجتمع حقه الطبيعي في البحث عن أشلائه واستعادة مفقوديه وكرامته الإنسانية، بعد سنين كثيرة على انتهاء الحرب، حيث ساد نهج من الإهمال واللامبالاة والتهميش تجاه ضحايا الاختفاء القسري وذويهم”. 

واعتبر أنّ “هذا القانون كفِل للهيئة أن تكون مرجعية وطنية مؤتمنة على إرث ثقيل جداً من انتهاكات حقوق الإنسان”. وأضاف: “هو إطار يعطي للهيئة الوطنية الولاية الإنسانية التي تتمثل في البحث عن مصير المفقودين والمخفيين، بغض النظر عن المسؤوليات والأحداث والسرديات المختلفة لفصول الحرب الأهلية”. وشدد على أنّ “الهيئة الوطنية لا يمكن لها، ولا تريد، ولا ترى مصلحة، في أن تنظر في الماضي إلّا بالقدر اللازم لكشف مصير المفقودين والمخفيين”. 

رسالة إلى المسؤولين: جانب أساسي من هذه الحقيقة موجود عندكم

وتوجّه عاشور إلى الأهالي برسالة أكد فيها أنّه “حتى الآن لم نُعطَ الإمكانات المادية واللوجستية والتنظيمية التي ينصّ عليها القانون للقيام بمهمتنا”، واعداً بالاستمرار “في بناء المرجعية التي سوف تخرجكم من هذه المعاناة عبر الكشف عن مصير كل مفقود من عائلاتكم”. وفي رسالة إلى الرأي العام، قال إنّ “دعم الدولة خجول جداً ويكاد يكون منعدماً، وهو تهرّب من تحمل المسؤولية. تتفهم الهيئة الوضع الاقتصادي الذي نمرّ به ولكن علينا أن ندرك أنّ عدم التعامل مع الماضي هو أيضاً السبب وراء الوضع الحالي في مجتمعنا”. 

وشدد في رسالة إلى المسؤولين في السلطة، على أنّه “من غير المقبول أن تستمرّ الهيئة من دون مقرّ مناسب لها، ومن دون إصدار المراسيم اللازمة ومن دون تأمين الدعم المالي والنفقات التشغيلية”. وأضاف، “في سعينا وسعي الأهالي إلي كشف الحقيقة، فإننا نعلم جميعاً أن جانباً أساسياً من هذه الحقيقة موجود عندكم، قادة أحزاب ومسؤولين رسميين وقادة أجهزة ومؤسسات معنية”. “ندعوكم إلى مغادرة الحذر والتحفّظ، وأن تتعاونوا مع الهيئة الوطنية في التفاهم على الآليات المناسبة وفق مندرجات القانون 105 وموجب السرّية الذي ينص عليه”. 

رسالة الهيئة الأخيرة كانت إلى المجتمع الدولي،  إذ أكد عاشور على أنّ “أي كلام عن إصلاح قد يشكّل أفقاً للخروج من هذه الأزمة سوف يكون مبتوراً أو عاجزاً ما لم تكن المعالجة السليمة لقضية المفقودين والمخفيين قسراً في لبنان مكوّناً علنياً و ملزماً تتضمّنه خطة النهوض والتعافي”. 

قصص الأهالي ليست “مخفية”

حاولت ممثلة الأهالي في الهيئة وداد حلواني أن توجّه النقاش في المؤتمر للإضاءة على عمل الهيئة وإمكانياتها والتحديّات التي تواجهها، “أنا معكم ومنكم” توجهت بهذه العبارة للأهالي. وطلبت منهم أن يكونوا ولو للمرّة الأولى مستمعين لهذه المصارحة التي تقوم بها الهيئة مع الرأي العام وفتح المجال لأعضائها للتعبير عن التحديات التي يواجهونها لتحقيق هدف الأهالي بالكشف عن مصير أولادهم. 

ثم أردفت: “لسنا هنا لنبكّي الناس” محاولة ألّا تحوّل المؤتمر إلى حالة درامية يلهث إليها الإعلام ويُضيّع بوصلة المؤتمر. وحين أصرّت إحدى الصحافيّات على سماع الأهالي، ردّت وداد شارحة أنّ على الإعلام أن يبذل المجهود لسماع الأهالي الذين لم يكلّوا عن قول قصصهم منذ أكثر من ثلاثين عاماً، لا أن ينتظر مؤتمراً صحافياً لسماع هذه الروايات. وأكدت أنّ قصص الأهالي غير مخبّأة، وهي موجودة، وهم في أي وقت مستعدون لقول قصصهم التي لا يُمكن اختصارها في مؤتمر زمنه ساعة واحدة. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، إقتراح قانون ، اختفاء قسري ، الحق في الحياة ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني