الهجرة غير النظامية في السينما المغاربية


2023-11-02    |   

الهجرة غير النظامية في السينما المغاربية
رسم عثمان سلمي

تعريب: محمد معالي

في البلدان المغاربية، وطيلة فترة طويلة، كانت عبارة المهاجرين غير النظاميين تعني أولئك الذين يسافرون بتأشيرة سياحيّة إلى أوروبا بنيّة الإقامة فيها بصورة غير قانونية. وقد تتبّع فيلم كريم صياد الوثائقي، ابن عمي الإنجليزي (2019)، مسار أحد هؤلاء استقر في بريطانيا منذ ما يزيد عن عشرين سنة، ولكنه لمّا فكّر في العودة إلى بلده أدرك المصاعب التي تحول دون تحقيق ما يسعى إليه. ومن بين هؤلاء المهاجرين غير النظاميين من سافر مستعملا وثائق مزورة، مثل ريم وكمال، بطلي الفيلم الروائي روما ولا انتوما (2006) للمخرج الجزائري طارق تقية.

لقد تصاعدت الهجرة على متن الزوارق وقوارب الصيد من البلدان المغاربيّة، على نحو لم يسبق له مثيل، في أواسط العشرية الأولى من قرننا الحالي. وواجه النظام الجزائري، في عهد بوتفليقة، هذه الظاهرة الجديدة بإجراءات قمعية. ومن أكثر هذه الإجراءات إجحافا تجريم اجتياز الحدود “غير النظامي” وتضمينه في قانون العقوبات سنة 2009. وبهذا يكون من يغادر التراب الجزائري سرّا، مُعرضا لا فقط لخطر الموت خلال العبور أو الاحتجاز في معسكر اعتقال عند وصوله إلى أوروبا، بل وأيضًا للسجن حال عودته إلى بلاده.

ركّزت السينما المغاربية اهتمامها، لدى معالجتها قضية الهجرة غير النظامية، على أولئك الذين تُطلق عليهم باللهجة الدارجة تسمية الحراقة، أي مواطني البلدان المغاربيّة الذين “يحترقون” أثناء محاولتهم مغادرة بلدانهم، بلا جواز سفر ولا تأشيرة، على قوارب متهالكة. ونظرًا لتعمد الخطاب الرسمي تشويه صورة المهاجرين السريين وتقديمهم في زيّ المجرمين، سعى بعض السينمائيين جاهدين إلى عكس هذه الصورة بالتزام أقصى قدر ممكن من الموضوعية في سرد قصص مصيرهم الكئيب والمأساوي. وحوّلت السينما الحراقة إلى أبطال جدد للأزمنة الحديثة.  

لا تذكر وسائل الإعلام إلا نادراً أسماء المهاجرين غير النظاميين وألقابهم ولا يَتَبيّن المرء من خلالها وجوههم كبشر. وهم حين يموتون لا يكونون أكثر من مجرد أرقام على قائمة الغرقى في عرض البحر. لهذا سعى السينمائيون إلى سرد حكايات تعيد ​​لهؤلاء المهاجرين إنسانيتهم. في سنة 2008، أعطت مريم عاشور بوعكاز الكلمة في فيلمها الوثائقي حارقين حارقين (2008) لأولئك الذين تحدّوا الموت المتربص بهم وحاولوا الهجرة لكنهم فشلوا. كما أتاحت لأسر الموتى والمفقودين فرصة للتعبير عن لوعتهم ومآسيهم. وبعد سنة، أخرج السينمائي الجزائري مرزاق علواش فيلم حراقة (2009). ينطلق الفيلم من مشهد انتحار الشاب عمر في مستغانم، ليروي وقائع رحلة الهجرة غير النظامية إلى إسبانيا التي خاضها صديقاه الحميمان ناصر ورشيد وأخته إيمان مع سبعة آخرين راغبين في الالتحاق بأرض الغربة. في هذه الحكاية الملتصقة جدا بالواقع، يصوّر الفيلم حياة المهاجرين بدقّة، حيث ينتشر الموت والنار في كل مكان، حتى كأنهما أصبحا المستقبل الوحيد المتاح أمام أناس لا يحترقون من أجل الهجرة فقط بل إن العديد منهم أصبحوا، منذ سنوات، يحرقون أجسادهم أيضا. في هذه الأفلام، يحرق الناس وثائق هوياتهم وبطاقتهم الانتخابية، و”يحرقون” إلى أرض أجنبية مجازفين بحياتهم، ويحرقون قواربهم الجانحة كي يجلبوا أنظار فرق الإنقاذ، ويحرقون أجسادهم يأسا.

أبدت سلطات المنطقة المغاربية، خلال السنوات الأخيرة، تشدّدا ملحوظا في مواجهة الهجرة غير النظامية من إفريقيا جنوب الصحراء، بتشجيع ودعم من الدول الأوروبية. وتتجلى سياسات الهجرة هذه في تسخير إمكانات كبيرة لحراسة الحدود الصحراوية، مما أدى إلى زيادة عمليات رد المهاجرين على أعقابهم وطردهم مع تصاعد اللجوء إلى العنف، على نحو ما أظهرته الأحداث الأخيرة في صيف 2023 بمنطقة صفاقس في تونس.

وهكذا شكلت الصحراء حاجزا داخل القارة الإفريقية نفسها بين الشمال وما يُعرف بإفريقيا جنوب الصحراء، كما شكّلت الصحراء أيضًا حدّا فاصلا بين الـ”نحن” و”الآخرين”، يجد جذوره في تقسيم موروث عن عهود الاستعمار والرقّ، وهو مؤشر من بين أشياء أخرى على أنه لم يتحقّق إلا النزر القليل من المراجعات النقدية الجماعية لتراث تجارة الرقيق عبر الصحراء الكبرى والتقسيم الكولونيالي بين “إفريقيا البيضاء” و”إفريقيا السوداء”. ويصور حسن فرحاني، في فيلمه الوثائقي 143 شارع الصحراء، حوارا بين بطلته مليكة، وعابِرَين وعمال من جنوب الصحراء. وسرعان ما يظهر توتر خلال الحوار الدائر باللغة الفرنسية، حيث سريعا ما تصل المعاملة الأبوية للرجلين سليمان ومحمد إلى أقرب ما يكون من العنصرية، إلى حدّ جعل المهاجريْن يشعران بأنهما مضطران إلى القول إن الجزائر تستقبلهما وتعاملهما معاملة جيدة. بينما كانت مليكة المدركة لحقيقة الوضع، تعبّر باللغة العربية هذه المرة، عن أسفها لطرد العمال وإجبارهم على العودة من حيث أتُوا عبر مركز عبور. وكان حسن فرحاني ونبيل جدواني قد صوّرا سنة 2009، على هامش المهرجان الإفريقي الخمسين في الجزائر العاصمة، الظروف المزرية التي يعيشها العمال القادمون مما يسمى إفريقيا جنوب الصحراء في الفيلم الوثائقي فندق أفريكا، حيث ظهرت نفس التصورات للحدود كخط فاصل مكاني وعنصري فعّال داخل العاصمة الجزائرية هذه المرة. وبعد مرور عشر سنوات، ظلت الظروف المعيشيّة للمهاجرين من جنوب الصحراء في حي آخر بالجزائر العاصمة أبعد ما يكون عن التحسن، حسبما وثقته كاميرا ليلى بيراتو وكاميل ميليران في فيلم درويشة (2018).

إذا كانت الحدود الصحراوية تشكّل بالفعل حاجزا في الخطاب الرسمي وفي التصورات داخل المنطقة المغاربية، فقد أعاد العديد من السينمائيين المغاربيّين صياغتها حتى لا تظل خطًا فاصلًا مكانيًا أو عنصريًا، بل مكانًا، يُتيح مجرد عبوره تحوّلا أبستيمولوجيّا وسياسيّا، ومعرفة جديدة وعلاقة مختلفة بالعالم تُلغي العنصرية بكل أشكالها.

للحدود حضورها الدائم في فيلم القبلة (2008) لطارق تقية، ذلك لأن الشخصية الرئيسية مالك، وهو مهندس طوبوغرافي، قد أرسل من مدينة وهران إلى منطقة جبال الضاية في مهمة إجراء دراسة طوبوغرافية حول جدوى مد خط كهربائي. هكذا وجد مالك نفسه فعلا على أبواب الصحراء وأن عليه توخي الحذر إزاء الاضطرابات الاجتماعية والفساد المؤسسي. للحدود هنا أيضا دورها في الفصل مع الشمال الجزائري، حتى وإن وُجِد شمال آخر، دائم الحضور، هي أوروبا التي تحاول الوصول إليها مجموعة من الرجال والنساء القادمين من جنوب الصحراء نراهم يسيرون في مشاهد ليلية انتقالية، على امتداد الفيلم. تعامل السلطات القادمين من مناطق جنوب الصحراء بازدراء، وتستجوب بفظاظة أحد الناجين من المجموعة بينما هو يخضع للعلاج في المستشفى. والتقى مالك بامرأة، لم يُذكر اسمها أبدًا في الفيلم، وهي ناجية أخرى من مجموعة قادمة من دولة إفريقية ناطقة بالإنكليزية، لم تُحدّد هي أيضًا. قرر مالك مساعدتها وسعى لإيجاد طريقة تمكّنها من الوصول إلى الحدود المغربية لتتمكن بعد ذلك من الذهاب إلى إسبانيا. لكنها تقول إنها مرهقة وتريد العودة إلى بلدها. يُدخل طارق تقية انقلابا أول للاتجاه هنا: ليجعل البوصلة تشير إلى الجنوب لا إلى الشمال. وخلال هذه الرحلة يمتلك مالك زمام نفسه أخيرًا، ويعترف في نهاية الرحلة أنه أضاع نصف حياته. لم يكن الخطاب وجوديا فحسب، بل كان سياسيا أيضا. لقد تخللت الفيلم مشاهد نقاش بين مناضلي حزب الطليعة الاشتراكية الذين كانوا يدعون في بداية الفيلم إلى تأسيس “حركة من أجل الحياة”. ما أدار مالك له ظهره موليا وجهه صوب الجنوب ومتوغّلا في الصحراء، هو هذا الاستغلال الرأسمالي للثروات الباطنية الذي يصوره تقية في مشهد طويل، لمد خط كهرباء لصالح مقاولين غامضين ومنتخَبين محليين، وهو هذا الشمال ونزعته الإمبرياليّة . إنه شمال يحيل على الماضي الاستعماري بالتأكيد ولكن مع التركيز على أيديولوجيته الرأسمالية الحاثة على استغلال الموارد الأحفورية.

يُحدِث المخرج التونسي علاء الدين سليم انقلابا مماثلا في فيلم آخر واحد فينا (2016). يروي الفيلم رحلة ن. وهو مهاجر من منطقة جنوب الصحراء، يحاول الوصول إلى الشمال عبر تونس. بعد غرق المركب في مكان غير محدد، يعيد بناء حياته ويكتشف ذاته من خلال إعادة اكتشاف الطبيعة، بعيدًا عن العالم المعاصر ومنطق السوق الذي يميزه. وهنا أيضا، يشكل نقد النظام الرأسمالي الخيط الرابط لموضوع الفيلم الذي يدعو إلى إعادة تعريف الحدود، على  الرغم من المسحة التشاؤمية التي يكتسيها بدءا من عنوانه الذي يحمل إيحاءات كوارثية.

إن اهتمام علاء الدين سليم بالحدود ليس جديدا، فهي حاضرة في أعماله. ففي سنة 2011، بينما كان الغضب يتصاعد في تونس خلال الثورة وكل كاميرات وسائل الإعلام مركّزة على العاصمة، اختار هو ورفيقاه إسماعيل ويوسف الشابي تصوير فيلمهم الوثائقي بابل (2012) في مخيم للاجئين على الحدود التونسية الليبية. وهم، باختيارهم عنوانا للفيلم كلمة بابل، التي تحولت في العربية إلى مرادف للفظة “مدينة”، يضعون فيلمهم مباشرة في سياق أسطوري وسياسي، بما أننا على موعد مع ولادة مدينة اللاجئين هذه. نلمس هنا تواضع أصحاب هذا العمل الذي يتجسد في اختيارهم تمكيننا من متابعة حكاية إنشاء هذا المخيم وهي تتجسد أمام أعيننا من دون فرض تفسيراتهم. إن التزامهم منذ البداية رفض تقديم ترجمة للغات المختلفة التي نسمعها على امتداد الفيلم (العربية، الإنكليزية، الفرنسية، البنغالية، إلخ) هو في خدمة عمليّة انغماس في الغيرية التي لا تقبل الاختزال، مع التأكيد في الآن ذاته على البعد الكوني للسلوكيات المصورة. إنه بالفعل نوع من برج بابل حديث يتشكّل أمام أنظارنا، مع أفراد بلا أسماء ولا وجوه أحيانًا، ولا كلمات تطرق الأسماع بوضوح أو تخاطب الأفهام بجلاء، بالنسبة لمشاهدين محدودي الإلمام باللغات إذ تتعدّد بالضرورة. ومع ذلك، لم يكن أي شيء مستعصيا عن الفهم، لأن موضوع هذا الفيلم الوثائقي هو الإنسان. ويظل هذا الفيلم حتى يومنا هذا من أبرز الأعمال السينمائية المغاربية التي تدين باستمرار تجريم المهاجرين غير النظاميين الأفارقة وتجريدهم من إنسانيتهم، سواء كانوا مغاربيين أو من جنوب الصحراء.

نشر هذا المقال ضمن الملف الخاص في العدد 27 من مجلة المفكرة القانونية – تونس

للاطلاع على العدد كاملا، إضغطوا هنا

انشر المقال

متوفر من خلال:

لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، مقالات ، تونس ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني