النوايا الحسنة في اصلاح القضاء: “اصلاح الزواريب” كبديل عن اصلاح المؤسسات


2012-10-31    |   

النوايا الحسنة في اصلاح القضاء: “اصلاح الزواريب” كبديل عن اصلاح المؤسسات

فتح مجلس القضاء الأعلى بالتوافق مع وزير العدل مؤخرا ورشة لوضع معايير موضوعية لاجراء التشكيلات، وذلك استجابة لمطلب قديم غالبا ما شكل عنوانا أساسيا لتحسين هذه العملية، على نحو يؤدي الى وضع الشخص المناسب في المكان المناسب. ومن هذه الزاوية، يبدو المسعى في منطقاته أكثر من ضروري بل حاجة وطنية ملحة. ولكن، اشكاليات هذا الاصلاح –وهي اشكاليات غير بسيطة- تكمن في الوسائل المعتمدة لهذه الغاية وبشكل من الأشكال في عدد من تفاصيله، والتي تؤدي برأيي الى ترجيح السلبيات الناتجة عنه على ايجابياته. فقد قام وزير العدل بالتنسيق مع مجلس القضاء الأعلى باصدار قرار (لم ينشر في أي مكان) بتكليف أحد القضاة من الدرجة السابعة (أي له خبرة اثني عشر سنة في القضاء) بالقيام بمهام احصائية داخل المحاكم كافة لقاء بدل مالي. ولعل أهم اشكاليات هذا التدبير هي التي يعكسها عنوان هذا المقال ومفادها لجوء المرجعين المذكورين الى ابتداع  آليات اصلاحية من خارج مؤسسات الدولة على نحو يشكل تجاوزا لصلاحياتها بل خروجا عن بعض المبادئ التي تقوم عليها، بما فيها مبدأ استقلالية القضاء. وهذا ما أود تسميته ب”اصلاح الزواريب” والذي يسوغ التعريف به من خلال المفهوم الذي يناقضه أي “اصلاح المؤسسات”. فما هي تفاصيل هذا الأسلوب في الاصلاح؟ وما هي الاشكالات الناتجة عنه؟ هذا ما سأحاول توضيحه أدناه.

اصلاح الزواريب:
المقصود هنا أمران:
الأول، أن التدبير “الاصلاحي” قد تم اتخاذه خارج المؤسسات من خلال استحداث آلية لم ينص القانون عليها للقيام بمهام ضمن مدة محددة ويبقى نفاذه مرتبطا بارادة أشخاص معينين (الوزير وأعضاء مجلس القضاء الأعلى) بحيث ينتهي العمل فيه بانتهاء مهامهم. وما يزيد هذا الاجراء فداحة أنه يشكل، بالنظر الى هوية الشخص المكلف (قاض)، مخالفة لقانون تنظيم القضاء العدلي الذي يمنع وزير العدل أو سواه تكليف أي قاض للقيام بأي مهمة خارج الحالات التي لم ينص عليها القانون. وعليه، يكون الزاروب المنشأ ليس فقط موازيا لسكك القانون بل أيضا مخالفا لها.
والثاني، أن هذا التكليف اتصل بمهمة (تقويم نشاط القضاة) كان القانون أنشأ مؤسسة خاصة، هي هيئة التفتيش القضائي للقيام بها وفق آليات وضمن ضمانات محددة قانونا. ومن هذه الزاوية، يكون المرجعان المذكوران قد آثرا اللجوء الى تدبير مؤقت واستثنائي ومن خارج المؤسسات على التصدي للخلل في عمل هذه المؤسسات وفيما يعنينا عمل هيئة التفتيش القضائي. واللافت أن هذا القرار قد اتخذ في مجلس القضاء الأعلى الذي كان يرأسه آنذاك رئيس هيئة التفتيش القضائي بنفسه (أكرم بعاصيري) في فترة شغور منصبي رئيس للمجلس والنائب العام التمييزي، على نحو تظهر معه بوضوح نية تخلي هذا الأخير ومعه الهيئة عن مسؤولياتهم في هذا المضمار بشكل فاقع. واللافت أكثر هو تغييب الهيئة تماما عن عمل هذا القاضي الذي ليس له أن ينسق خطواته معها أو أن يسترشد بملفاتها كما ليس عليه أن يعلمها بنتائج بحثه.
وبالطبع، بامكان البعض الدفاع عن مشروعية الاصلاح من خلال الزواريب على خلفية “سياسة الممكن” أو “أهمية المعايير المعتمدة ولو لمرة واحدة” أو أيضا ضرورة القيام بتجربة أولى في مجال وضع المعايير، لكن دفوعا مماثلة تعكس بالواقع عمق المشكلة وحجمها بمعزل عن مدى سدادتها. فسياسة الممكن (ومعها التسليم المتسرع باستحالة اصلاح المؤسسات) تثار هنا في ظل غياب أي مسعى الى اصلاح هيئة التفتيش القضائي، طالما أن مشروع القانون التعديلي لتنظيم القضاء العدلي الذي وضعته وزارة العدل في أيار 2012 لا يتضمن أي بند بخصوص هذه الهيئة. وتاليا، ومع التسليم بصدق النوايا، يعكس هذا الاجراء بدرجة أو بأخرى منطقا استسلاميا، يصبح معه الاصلاح محكوما بخطوات جد محدودة، براقة أحيانا وباهتة غالبا، من دون أن تتمتع في مطلق الأحوال بطابع الاستمرار. فالنظام نظام مجاملة ليس فيه أي مكان للمعارك.
وثم، وأهم من ذلك، وعلى فرض مشروعية اجراء مماثل في هذه المرحلة، يخشى أن يتحول “الزاروب” الذي يتم شقه وخصوصا حين يعتق الى مصدر شلل أو فساد اضافي داخل الدولة بل ربما الى أداة يتم اللجوء اليها في حالات قد لا يكون لها المشروعية نفسها بل تكون مجردة عن أي مشروعية، وذلك بهدف تجاوز مؤسسات قد تكون أصبحت أكثر فعالية من وزير العدل أو مجلس القضاء الأعلى. وللوقوف على خطورة هذا الموقف، حسب القارئ أن يتخيل ولو للحظة واقعا يتم فيه تعميم فكرة الزاروب فتنزع الوزارات الى شق زواريب عديدة داخل الدولة، ناقلة اليها أجزاء كبيرة من صلاحيات مؤسساتها التي هي تترهل وتنحسر وظائفها في تغذية المحسوبيات السياسية وخدمتها.

اصلاح المحاسبة الفوقية بمنأى عن اعتبارات الاستقلالية:
والى جانب اصلاح الزواريب، يستعيد التدبير المتخذ الخطوط العريضة التي ميزت السياسات العامة القضائية وخصوصا في السنوات الأخيرة، وهي السياسات الآيلة الى اكثار الحديث عن المحاسبة وما تشمله من تقويم أو تطهير أو تفتيش او تأديب الخ.. في موازاة تهميش كامل لاعتبارات الاستقلالية أو حتى على حسابها. وهذا مثلا ما سبق تسجيله مع الاعلان عن نوايا التطهير التي تقضي بعزل قاض من دون اعطائه حق الطعن أو حق الدفاع عن النفس[1]. وخلفية هذا النوع من الاصلاح تكمن في تظهير وزير العدل ومجلس القضاء الأعلى مظهر المصلحين الأوفياء لمصالح القضاء مع اظهار القضاة – الذين يفترض بهم أن يكونوا أكثر العاملين في الشأن العام استقلالية – مظهر المشكوك بنزاهتهم والذين يجدر دوما مراقبتهم واصلاحهم، والمتلقين للاصلاح من دون أن يكون لهم  أي دور فيه. ومن هذه الزاوية، لا بأس من وضع نظام تقويم للقضاة من دون استشارتهم رغم تعقيدات أعمال المحاكم وتنوعها، بل لا بأس من تقويم أعمالهم واستخدام التقويم لاجراء التشكيلات من دون تمكينهم من ابداء ملاحظاتهم بشأن هذا التقويم.
و أخطر ما في هذا الاجراء، أنه يولد بالواقع سابقة مفادها تمكين وزير العدل تكليف أي شخص يريده لتقويم القضاة بالتوافق مع مجلس القضاء الأعلى (الذي تعين السلطة التنفيذية 8/10 من أعضائه)، على نحو يجعله وزيرا ملكا صاحب يد طولى في القضاء اللبناني، كل ذلك في زمن تتجه فيه أكثرية الدول –وعلى رأسها الدول المحيطة- الى رفع هذه اليد “الثقيلة” عن هيئاتها القضائية. وهذه الروحية نجدها بشكل واضح في تصريحات الوزير قرطباوي للنهار والأخبار بل أيضا في حديثه التلفزيوني مؤخرا لمحطة الجديد (14/10/2012) والتي يفاخر فيها بعزمه على تقويم القضاة كما ونوعا من دون أي مراعاة ولو ظاهرية لمبدأ الاستقلالية[2].
ولا يرد على ذلك بأن موافقة مجلس القضاء الأعلى تزيل شبهة انتهاك الاستقلالية، وذلك على خلفية أن القانون أناط بالمجلس السهر على حسن سير القضاء واستقلاله وكرامته وذلك لأسباب أربعة على الأقل:  الأول، أنه على فرض صحة ذلك، فانه يكون على المجلس القيام بهذه المهمة (أي السهر على القضاء) بنفسه من دون تفويض الوزير أو قضاة آخرين القيام بها، فالصلاحية المحددة قانونا ولا سيما فيما يتصل بالقضاء لا تكون حقا انما مسؤولية لا يجوز التنازل عنها، والثاني، أن عبارة “السهر على حسن سير القضاء” لا بد أن تقرأ بشكل ضيق ولا سيما بما يتصل بعلاقة المجلس بالقضاة، وذلك تجنبا لتفسيرات قد تؤدي الى استباحة القضاة والقضاء بشكل كامل تحت حجة السهر عليهم. وهذا ما ارتكبته بالفعل مجالس أعلى للقضاء عدة في لبنان وفي دول محيطة، بحيث استخدمت صلاحياتها ليس لاداء مهامها الأصلية (الدفاع عن استقلالية القضاء عن السلطة) انما لتأطيره أو حتى تدجينه لصالح هذه السلطة. فاستقلالية القاضي ليست فقط استقلالية خارجية ازاء السلطات الحاكمة بضمانة من هذا المجلس، انما هي أيضا وبالدرجة نفسها، داخلية ازاء المؤسسات القضائية وعلى رأسها اياه. وهذا ما سعى القضاة المصريون الى التأكيد عليه في مناسبات عدة: فهم رفضوا مثلا أن يكون لمجلس القضاء الأعلى المصري أي صلاحية بمراقبة نادي قضاة مصر أو حتى أي صلاحية في مراقبة الجمعيات العمومية للمحاكم[3]، وذلك عملا بمبدأ استقلال القضاء. والثالث، أن تفسير هذه العبارة لا بد ان يأخذ بعين الاعتبار صلاحيات مؤسسات أخرى منشأة في القانون نفسه وعلى رأسها هيئة التفتيش القضائي التي هي تتولى من حيث المبدأ ما يتصل بتقويم عمل القضاء، أما الحجة الرابعة لرد هذا القول فمفادها أن مهمة السهر على حسن سير القضاء يجد ما يقابله في مهمة السهر على كرامة القضاء واستقلاله، وهما مصلحتان لم تلقيا أي اعتبار في التدبير المتخذ.
والى جانب هذه المخاطر على صعيد استقلالية القضاء ازاء وزير العدل ومجلس القضاء الأعلى، سجلت مخاطر قد لا تقل أهمية متصلة بكيفية اداء القاضي المكلف والذي فسر تكليفه على أنه يخوله مراجعة جميع الملفات في جميع الأقلام من دون أن يكون عليه مراجعة أي من القضاة المعنيين، لا بل قام بمهامه في فترة العطلة القضائية وتاليا بغياب هؤلاء عن محاكمهم. وسأل أحيانا كتابها بخصوص العلاقة بينهم وبين القضاة، وفيما اذا كانوا هم الذين يكتبون الأحكام التي يوقعها هؤلاء.

اصلاح ارتجال وهواة:  
والى جانب الاعتراضات المبدئية المشار اليها أعلاه، يسجل أمر لا يقل أهمية بل هو يصبح الأكثر أهمية لمن يرغب حقا في تطوير برامج التقويم مستقبلا على أساس تتجاوب مع مقتضيات اصلاح المؤسسات، أي مع مقتضيات الاستمرارية، ومبادئ الاستقلالية. والواقع أن هذا الارتجال يتماشى نوعا ما مع سياسة اصلاح الزواريب، طالما أنه بطبيعته مؤقت وليس له مقومات الاستمرار. فلماذا التفكير مليا والتمحيص في أدق التفاصيل للقيام بمهمة مؤقتة تبقى مرتبطة بشخص الوزير أو بأشخاص أعضاء مجلس القضاء الأعلى، وتنتهي مع انتهاء مهامهم؟ ومن أبرز الأسئلة على هذا الصعيد، والتي بقيت من دون جواب واضح، الآتية:

-ما هي المعايير التي يجري التقويم على أساسها؟ ولماذا تقتصر اليوم على التقومي الكمي وحده (عدد الأحكام المفصولة)؟ وألا يشجع ذلك القضاة في ظل غياب التقويم النوعي على الاسراع في فصل دعاويهم من دون تمحيص كاف للأدلة أو حتى للحجج والحجج المضادة أو حتى أيضا للقوانين والنصوص التي تنطبق عليها؟ وألا يثنيهم ذلك عن فصل الدعاوى الكبيرة حجما وهي عموما الدعاوى الأكثر خطورة؟ بل ألا يدفعهم ذلك الى تعجيل بت الدعاوى خشية تلقي علامات متدنية حتى في القضايا التي يفترض القانون فيها التأني والتمهل كما هي حال دعاوى الادمان على المخدرات حيث يقتضي حسب قانون المخدرات اعطاء القاضي الوقت الكافي لحث المدمن على العلاج والضغط عليه للمثابرة عليه؟ وهل يكون الاسراع في دعاوى مماثلة خطأ أم فضيلة؟

-ثم، ما معنى التقويم النوعي وما هي أكثر المعايير دلالة في هذا المجال؟ وكيف يمكن القيام به من دون التعرض لحق القاضي واستقلاليته في الاجتهاد؟ ثم، هل للتوجه الاستقلالي للقضاة، في أبحاثه أو أحكامه أو مواقفه (ومنها ربما تصديه لهذه المهمة أو مهمة مماثلة) أي وزن ايجابي في هذا الصدد أم أنها تحسب ضده عملا بالتهمة التي باتت الأكثر شيوعا لتحقير القضاة المستقلين أو التقليل من شأنهم (مكبر راس)؟

-هل تمت استشارة القضاة أو على الأقل الاستعانة بقضاة في المجالات المختلفة، على نحو يمكنهم من استخراج معايير التقويم لكل مجال؟ وهل تمت الاستعانة بخبرة هيئة التفتيش القضائي أو بتجارب دولية في هذا المجال؟

-وما هي المؤهلات والمواصفات الواجب توفرها للقيام بمهام مماثلة؟ وهل يقتضي القيام بها من قبل أفراد أم من قبل لجان مؤلفة من أشخاص متعددي التخصصات منعا لبروز الحسابات الشخصية؟

-هل حددت أصول التعامل مع نتائج المهمة، ولا سيما لجهة ضمان حق القضاة المعنيين بالتعليق عليها قبل أي استخدام لها؟ وما هي الجهة المخولة تلقي مراجعات مماثلة؟

-هل حددت حقوق وواجبات الشخص المكلف بها بشكل واضح، ولا سيما لجهة التزام السرية؟

-هل تم تجريب هذه المعايير في محكمة أو منطقة قبل تعميمها على مجمل القضاة كما يجري في الدول الأكثر تقدما وخبرة؟

-ثم، أي وزن لتقويم المتقاضين والمحامين لأعمال القضاة؟

أسئلة عدة تظهر مدى الارتجال والنقص في الجدية في التعامل مع هذه المسألة، ولا سيما عند الاطلاع على كم الدراسات والمجلدات التي ما فتئت الدول الأكثر خبرة تضعها بشأن أفضل وسائل لتقويم القضاء. فالنوايا الحسنة لم تكن يوما كافية واصلاح القضاء هو أولا اصلاح للمؤسسات، وهو مخاض صعب، مخاض يستحق منا بالتأكيد مزيدا من البحث والتفكير والمعارك، هذا اذا سلمنا كما كاتب المقال أن القضاء هو أولوية. فلنعمل.. ولنفكر.. وقبل كل شيء، ليكن لدينا الحكمة الكافية لخوض المعارك.. فقد حان الوقت للقيام بذلك.


نُشر المقال في العدد السادس من مجلة المفكرة القانونية


[1] نزار صاغية، قراءة نقدية لخطاب الاصلاح القضائي في دولة ما بعد الطائف، المركز اللبناني للدراسات، 2008، بيروت.
[2] النهار، 26 أيلول 2012، والأخبار 28 أيلول 2012.
[3] سامر غمرون ونزار صاغية، تقرير عن أوضاع القضاة في تونس ومصر قبل الثورة وفي الفترة اللاحقة لها.
انشر المقال

متوفر من خلال:

استقلال القضاء ، مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني