الميثاق النيو كولونيالي وأجساد السود المباحة


2023-11-06    |   

الميثاق النيو كولونيالي وأجساد السود المباحة
رسم عثمان سلمي

في سنة 1995، أطلقت 27 دولة، بما فيها دول المغرب الثلاث وإسرائيل، تقودها دول الاتحاد الأوروبي الخمس عشرة حينها[1] شراكة جديدة أورومتوسطية ضمن ما سمّي “مسار برشلونة” أعلنت أنّ هدفه هو جعل منطقة حوض المتوسط “فضاءً للحوار والتبادل والتكاتف ضامنًا للسلم والاستقرار والرخاء”. ركّزت بنود الشراكة الجديدة على التشاور السياسيّ والأمنيّ وأوصى برنامج عملها على “تعزيز التعاون بين أجهزة الشرطة والعدالة” من أجل “تقوية تبادل المعلومات” وتحسين “تسليم المفتش عنهم” فيما يخص “الإرهاب والهجرة السرية”. رُوّج آنذاك لتميّز الشراكة الجديدة عن سابقتها من حيث تضمّنها “لبند تعليقي” يشترط احترام أعضائها لحقوق الإنسان، فيما كان نظام بن علي أوّل الممضين عليها. ثم توالت مؤتمراتها (مالطا أفريل 1997، شتوتغارت 1999، مرسيليا 2000) ولقاءاتها ولجانها ولم يرَ الرخاء النور كما كان متوقعا في جنوب المتوسط. بالمقابل، نجحت برشلونة في تثبيت ميثاق نيوكولونيالي جديد بين دول ضفّتيه أعاد الاعتبار لتلازم المسارات بين نخبها الحاكمة على أرضيّة نيوليبرالية أسّست لاستراتيجية أمنية متوسطية جديدة قوامها مقاربة “الإرهاب” (الإسلامي حصرا) و”الهجرة السرية” (من الجنوب حصرا) “كتحدّييْن” مشتركيْن ومتساوييْن من منظور الجريمة المنظمة العابرة للحدود. واعتمد هذا الميثاق على مقايضة الدعم السياسي والمالي الأوروبي لدول الجنوب مقابل تعاون هذه الأخيرة في مجال ضبط واحتواء وتجريم الهجرة وإيقاف تدفّقها[2].

وفّر “مسار برشلونة” بالمقابل مساندة أوروبيّة رسميّة لبن علي في تصفية خصمه السياسي الرئيسي حركة النهضة. وعليه، انخرط نظامُه تباعا وبشكل تصاعديّ في إثبات حُسن نواياه وسعيه المحموم لاحترام الميثاق الجديد حفاظا على موقعه كشريك موثوق لأوروبا يعوّل عليه. فأمضى سنة 1998 أوّل معاهدة مع إيطاليا سمحت بترحيل كل المهاجرين غير النظاميين تونسيين كانوا أو أجانب إلى تونس. ثم عزز تعاونه الأمني في حماية حدود هذه الأخيرة ضمن معاهدة جديدة أمضاها معها سنة 2003. وفي نفس السنة، احتضن القمة الأولى للحوار 5ّ+5 التي شاركت فيها إسبانيا وفرنسا وإيطاليا ومالطا والبرتغال إلى جانب الجزائر وليبيا وموريتانيا والمغرب لمناقشة “الهجرة والإرهاب”. ثم وفي فيفري 2004، سنّ قانونا جديدا يعاقب كل أشكال المساعدة على الدخول أو الخروج من التراب التونسي، لا يستثني من العقوبة حتى أفراد الأسرة والمحميّين بالسرّ المهني من أطباء ومحامين إذا لم يبلغوا على المهاجرين. فتمّ الاعتماد على القانون الجديد لتجريم المهاجرين وطالبي اللجوء ومزيد إحكام قبضة النظام ورقابته على المجتمع[3]. وفُتح الباب منذ ذلك الحين أمام عمليات احتجاز المهاجرين غير النظاميين في ما سمي بمركز “الإيواء” في الوردية وظهرت تباعا أولى عمليات الترحيل القسري لهم إلى الحدود مع الجزائر أو ليبيا في حال عدم قدرتهم على دفع ثمن تذاكرهم لترحيلهم إلى بلدانهم الأصلية[4]. وفي أعقاب تصاعد الاحتجاجات الاجتماعية والحراك الحقوقي في تونس، سعى النظام من جديد إلى تثبيت دوره “كتلميذ نجيب” لأوروبا عبر الالتزام ضمن معاهدة ثنائية جديدة مع حكومة برلسكوني اليمينية سنة 2009 بتسريع عملية الترحيل القسري للمهاجرين التونسيين غير النظاميين إلى تونس من خلال تعزيز وتسريع إجراءات إثبات هوياتهم في القنصليات التونسية في إيطاليا[5].

فتمّت مكافأته في ماي 2010 ببعث لجنة عمل بين تونس والاتحاد الأوروبي من أجل وضع خريطة طريق تفضي إلى منح تونس مرتبة متميزة في علاقتها بالاتحاد الأوروبي على أرضية تعزيز التعاون التجاري والأمني وفي مجال الهجرة على غرار ما كانت حصلت عليه المغرب في أكتوبر 2008. لكن ذلك لم يشفع لبن علي، واضطرّ للهرب بعد بضعة أشهر إلى السعودية بعدما لم يجد ملجأ في أيّة دولة أوروبية.

هوسُ “الهجرة” الذي فرض نفسه تدريجيا منذ بداية التسعينات كمحور أساسي في السياسة المغاربية والإفريقية لأوروبا أسّس لمعادلة استراتيجية تربط الاستقرار في حوض المتوسط بالسيطرة على “تدفق المهاجرين” إلى أوروبا أوكل فيها دور حارس حدود هذه الأخيرة لدول الجنوب[6] عبر تجنيد أجهزتها الأمنية في مطاردة واعتراض واحتواء وتقييد وشلّ حركة المهاجرين غير النظاميين منها إلى أوروبا. وتعزز ذلك منذ سنة 1995، مع خلق فضاء شنغن لحدود خارجية موحدة جديدة لأوروبا سمحت اعتبارا من سنة 1999 بتعاطي الاتحاد الأوروبي مع ترحيل المهاجرين غير النظاميين كمسألة مشتركة لدُوله الأعضاء[7]. ثم وفي 2004 مع بعث الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل الخارجية لأوروبا (فرونتكس)، وكذلك تبني برنامج لاهاي من قبل المفوضية الأوروبية (والذي نصّ ضمن أولوياته على تكثيف التعاون مع بلدان الجنوب في التصدي للهجرة غير النظامية خصوصا في مجالات “الترحيل وخلق صندوق موحد للحدود الخارجية”)[8]، تكثفت أكثر المقاربات الأمنية الإقليمية وتضاعفت “المسارات” والاستراتيجيات الهادفة إلى تحويل أفريقيا إلى فضاء لمراقبة وردع المهاجرين وابتداع الحواجز والعوازل والسجون والقوانين وكثير من الصعوبات القاتلة وبعض من الإغراءات السخيفة، لمنع وصولهم إلى أوروبا. من ذلك انطلاق ما سميمسار الرباط في بداية 2006 وهو عبارة عن إطار تنسيقي دائم أورو-افريقي حول الهجرة يستهدف طرق الهجرة الرابطة بين دول المنشأ في إفريقيا الوسطى وإفريقيا الغربية وأوروبا عبر إفريقيا الشمالية.

احتدّ الهوس الأوروبي بالهجرة في خضمّ الحراك الثوري في المنطقة لاستهدافه لأنظمة برهنتْ عن فاعليتها في حراسة حدود الاتحاد الأوروبي خصوصا مع ارتفاع عدد الوافدين من تونس وليبيا إلى جزيرة لامبادوزا الإيطالية والذي وصل في سبتمبر 2011 إلى 55298 شخصًا (27315 من تونس و27983 من ليبيا، معظمهم من مواطني النيجر وغانا ومالي وكوت ديفوار)[9]. إذ سمح هروب بن علي وانهيار نظام الرقابة على الحدود في تونس بوصول أكثر من 25000 مهاجر تونسي إلى السواحل الإيطاليّة خلال 3 أشهر فقط. كما استتبع سقوط نظام القذافي الذي كانت تربطه بإيطاليا اتفاقية في إدارة الهجرة[10] واحتدام الصراع المسلح في ليبيا تحوّلات عميقة في مسالك الهجرة وظهور ممرات جديدة أكثر وعورة وخطورة. وعليه، سارعت إيطاليا إلى إعلان حالة الطوارئ في فيفري 2011 وإبرام معاهدة جديدة مع تونس بعد أقلّ من شهرين من ذلك[11]. ثم قام الاتحاد الأوروبي بإطلاق “مسار الخرطوم” سنة 2014 وهو عبارة عن إطار تنسيقي دائم جديد أورو-إفريقي يستهدف ممرات الهجرة التي تربط بلدان القرن الإفريقي بأوروبا. وفي 2015 تمخّض مؤتمر لافاليت (عاصمة مالطا) والذي خُصّص لمسألة الهجرة على بعث صندوق أوروبي استئماني للطوارئ لمعاضدة سياسة الاتحاد الأوروبي في “مواجهة الهجرة السرية” وهو صندوق مموّل مباشرة من اعتمادات ومختلف أدوات الاتحاد الأوروبي المخصصة لسياسته الخارجية وعلى رأسها تلك الخاصة بالتنمية والمساعدات الإنسانية[12]. وفي 2016 وفي خضمّ الحرب الأهلية في سوريا وما سمّي “بأزمة اللاجئين”، أبرم الاتحاد الأوروبي اتفاقية مع تركيا تحصّلت بموجبها هذه الأخيرة على مساعدات مالية مقابل تضييقها واحتوائها للمهاجرين السوريين الفارين من مجازر النظام الحاكم وبطش الجماعات السلفية المسلحة.

لم تنجح الثورة في القطع مع الميثاق النيو كولونيالي الذي يربط تونس بالاتحاد الأوروبي. فلم تقدر إلا على إدخال بعض الاضطراب فيه خلال عامّيها الأولين. هكذا إذا فرضت الثورة على إيطاليا غداة سقوط بن علي تسوية وضعيات آلاف الشباب الوافدين عليها من تونس لعجزها عن ترحيلهم[13]، وأخفقت حكومتها آنذاك في انتزاع اتفاقية ملزمة لتونس في هذا الشأن رغم سعيها الدؤوب إلى ذلك. وحملت الثورة كذلك الحكومة التونسية إلى التخفيف من العمل ببعض تراتيب قانون 2004 لا بل سمحت لها ولأول مرة سنة 2012 برفض مسودة مشروع “اتفاق شراكة التنقل” الذي تقدم به الاتحاد الأوروبي، فصاغت مقترحات بديلة من أجل تسهيل نظام التأشيرات للتونسيين واحترام حقوق المهاجرين[14]. كما تمت في عهد حسين الجزيري كاتب الدولة المكلف بالهجرة والتونسيين بالخارج (2012-2014) محاولات غير مسبوقة لتشريك منظمات الهجرة والمجتمع المدني في صياغة مسودة أولى “لاستراتيجية وطنية للهجرة”. لكن انكسارات الثورة العربية والتونسية انطلاقا من 2013 سرعان ما أعادت الاعتبار للحوكمة الأمنية للهجرة وثبتت موقع تونس التابع في الاستراتيجيات الأمنية الأوروبية. فجاءت الاتفاقية الجديدة مع الاتحاد الأوروبي لسنة 2014 بعد ضغط من هذا الأخير[15] لتقايض بعضالتسهيل في التأشيراتلصالح أقلية من التونسيين المرغوب فيهم أوروبيا مقابل مزيد تطوير تعاون تونس في ترحيل التونسيين غير المرغوب فيهم ومزيد تضييق الخناق على الأفارقة من جنوب الصحراء بما في ذلك مضاعفة الخطايا الخاصّة بالإقامة غير النظامية. ثم ومنذ ذلك الحين، تكاثرت وتنوعت اتفاقات ومعاهدات وحوارات ولقاءات ومشاورات ومسارات… التعاون التقني والأمني والتكويني… التي أبرمتها تونس في إطار ثنائي، مع سويسرا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا على سبيل المثال، أو اقليمي ذي الصلة بالهجرة و”مقاومة المتاجرة بالبشر” (وهي ورقة توت تحاول حجب السياسة اللاإنسانية “للقلعة الأوروبية”) والتي يتعذر جردها لصعوبة أو استحالة النفاذ إليها لسرّيتها أو اقتضابها أو تشتت مصادرها وعدم توفر معلومات في معظم الحالات حول أثر تطبيقها.

تعمّق الميثاق النيو كولونيالي: الحدود القاتلة وأجساد السود المباحة

ورغم خطاب سلطة 25 جويلية السيادويّ، فإنّ إدارتها لملفّ الهجرة لم تشهدْ أيّة مراجعة للميثاق النيو كولونيالي الذي يربط تونس بالاتحاد الأوروبي، بل انخرطت في نفس المقايضة المتنصّلة من أية شفافية ومداولة علنية وديمقراطية. وتقوم هذه المقايضة على اعتراف أوروبي بالسلطة عبر تقديم إعانة مالية مشروطة بتطبيق إملاءات صندوق النقد الدولي التقشفية ودعم مؤسّساتي للدولة وفقا للأشكال الخمسة التي صنفتها منظمة بريفاسي إنترناشونال لحقوق الإنسان: “التجهيز المباشر لمؤسساتها الاستخباراتية وقواتها الأمنية، توفير التدريب لها وتمويل عملياتها ومشترياتها، تسهيل حصولها على أجهزة الرقابة وتعزيز التشريعات التي تقنّنها”. وبالمقابل، تتعهد تونس في تقوية منظومة الرقابة الحدودية البحرية والأرضية الحامية لأوروبا بما فيها مطاردة وترحيل المهاجرين.

لا بل أن إمضاء مذكرة التفاهم حول الشراكة الاستراتيجية والشّاملة بين الرئاسة التونسية والاتحاد الأوروبي في جويلية 2023، يشهد على تعمّق هذا الميثاق في الآونة الأخيرة، حتى وإن قوبلت المذكرة بمعارضة ألمانية وفرنسية قد تحول دون عرضها على مصادقة مجلس الاتّحاد الأوروبي. ومردّ المضيّ في هذه السياسة أسباب ثلاثة رئيسية نتوسع في تبيانها أدناه:

السبب الأول، وهو بالتأكيد يتجاوز حجم تونس، يتمثل في المنحى التّصاعدي والعنيف الذي اتّخذته السياسة الأوروبية فيما أسمته بـ “تعزيز أسلوب العيش الأوروبي في ميدان إدارة الهجرة واللجوء”[16] عبر تصدير حماية حدودها لدول الجنوب المستبطن بالمحصلة لمصالح اقتصادية وثيقة الارتباط بالمركب الصناعي- الحدودي لتصنيع التسلح والرقابة والتكنولوجيا السيبرانية الغربية. و تتولى وكالة فرونتكس الذراع الأمني للاتحاد الأوروبي، أجلّ الخدمات في هذا الشأن وفق ما وثقته المنظمة البحثية Corporate Europe Observatory[17]. إذ أنّ عسكرة البحر الأبيض المتوسط وكذلك أيضا الحدود بين بلدان إفريقيا وتفشي استراتيجيات المطاردة والرقابة والسيطرة والحصار والتتبع فيها للمهاجرات والمهاجرين ووضع الحواجز أمام تنقلهم وتشييد مراكز الاحتجاز وجعل مسالك العبور إلى أوروبا أكثر فأكثر خطورة وقتلا… هي في المحصلة تكنولوجيا وتقنيات وأدوات واستثمارات تشكل بمجملها اقتصادا قائما بذاته عرف ازدهارا مطنبا على وقع تفاقم الهوس الأوروبي بالهجرة وتكاثر المسارات الأورو-إفريقية لمجابهتها. هذا الاقتصاد الذي يدرّ الأرباح الضخمة على الشركات الغربية المتخصصة في صناعة التسلح والرقابة بفضل النفقات الأمنية والعسكرية والتي تشكل قارتنا الإفريقية إحدى أسواقها التي لا تنضب، يشهد عليه النمو المتسارع لميزانية فرونتكس التي وصلت سنة 2020، إلى 5.6 ​​مليار يورو، مسجلة بذلك أكبر ميزانية بين كلّ الوكالات التابعة للاتحاد الأوروبي. وخير مؤشر على توسع سلطة وصلاحية هذه الوكالة وتحوّلها إلى ما يشبه جيش حراسة الحدود، تطوّر عدد العاملين بها من 45 موظفا سنة 2005 إلى عشرة آلاف مبرمجين في أفق [18]2027. ويُشار إلى أن انخراط تونس المتنامي ومن موقع التابع في “العولمة العسكرية” كما أسماها عالم الاقتصاد كلود سرفاتي، (بصفتها الوجه الآخر للعولمة الاقتصادية) والتي تشكل “حماية القلعة الأوروبية” من “زحف المهاجرين” الأفارقة إحدى أبرز رافعاتها لا يخدم فقط مصالح المركب العسكري-الأمني الأوروبي بل كذلك “تصدير تكنولوجيا الاحتلال الإسرائيلي” التي طورتها الدولة الصهيونية من خلال قمع ومراقبة وشلّ حركة الفلسطينيين وتنظيم طردهم. وهذا ما وثقه الصحفي الاستقصائي أنتوني لوينشتاين في كتابه الأخير[19] الذي أكد استخدام فرونتاكس التقنيات الإسرائيلية في “حرب” الاتحاد الأوروبي على المهاجرات والمهاجرين. ومن أهم التقنيات الإسرائيلية المستخدمة في هذا الإطار الدرون هيرون Drone Heron وخدمات شركة الرقابة الإسرائيلية Cellebrite في التجسس على الهواتف المحمولة للمهاجرين لاختراق تطبيقات المراسلة المشفرة على هواتفهم وجمع المعلومات عنهم وتحديد تنقلاتهم[20] وتطبيقات الشركة الإسرائيلية Windward في مجال الرقابة البحرية[21]. ولا ريب أن تونس منخرطة تماما في برنامج مراقبة السواحل الذي تمارسه فرونتكس…

أمّا السبب الثاني في تعمق الميثاق النيوكولونيالي فيرجع إلى تفاقم ارتهان تونس به والقدرة المتعاظمة لأوروبا من الكسب منه. يأتي ذلك على خلفية تنامي دور تونس كأرض عبور للمهاجرين غير النظاميين إلى أوروبا مقابل انخفاض عددهم في جميع طرق الهجرة الأخرى في المتوسط. حيث تراوح هذا الانخفاض من 6% في غرب البحر الأبيض المتوسط ​​إلى 34% في طريق شرق البحر الأبيض المتوسط مقارنة بالسنة الماضية. في الاتجاه نفسه، سُجّل تنامي دور تونس كدولة منشأ للهجرة. فبحسب الأرقام الرسمية لوزارة الداخلية الإيطالية وخلال الفترة الممتدة بين بداية جانفي ومنتصف ديسمبر ارتفع عدد المهاجرين التونسيين الواصلين الى إيطاليا من 12542 سنة 2020 إلى 15036 سنة 2021 فـ 17617 سنة 2022 محتلين على التوالي المرتبة الأولى ثم الأولى من جديد فالثانية من مجموع الجنسيات الوافدة على إيطاليا. ثم تضاعف العدد في السبعة أشهر الأولى من سنة 2023 بحسب ما أعلنه وزير داخلية إيطاليا[22]. وأمام هذا التطور لم تجد تونس بدا من تكثيف تعاونها في مجال صدّ المهاجرين. تشهد على ذلك بعض الأرقام التي كشفها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية: إذ اعترضت تونس منذ 25 جويلية 2021 في سواحلها ما يفوق 93000 مهاجرا أي ثلثي من تم اعتراضهم على مدار أكثر من 11 سنة. كما منعت منذ بداية سنة 2023 قرابة 35000 مهاجر من الوصول إلى إيطاليا وقبلت بالترحيل القسري لأكثر من 4600 مهاجر تونسي منها ووافقت على استقبال 26 رحلة جوية من ألمانيا محمّلة بتونسيين غير مرغوب بهم. لمجمل هذه الأرقام دلالات اقتصادية وسياسية واضحة. فهي أولا تبين أنه وفي أعقاب مزيد احتداد الأزمة الاقتصادية مع جائحة كورونا ثم الحرب الأوكرانية بما سببته من تفاقم للبطالة والعطوبة والفقر، أمست الهجرة غير النظامية أكثر من أي وقت مضى في تونس بالنسبة للشباب المهمش والعاطل عن العمل والفاقد لأي أمل، المنفذ الوحيد لإمكانية تحقيق بعض من كرامته رغم تعاظم مخاطرها. ثم هي تؤكد مرة أخرى أنه وفي غياب أي سياسات اقتصادية واجتماعية بديلة تقطع وتتشابك مع التقشف والتفقير واللامساواة وتنتصر لبديل اجتماعي، إيكولوجي وديموقراطي فإنّ الحوكمة الأمنية للطبقات الشعبية على اليابسة كما في عرض البحر الأبيض المتوسط ستبقى هي الخيار الوحيد للسلطة وإن ألبسته شتى الأعذار الدائرة في فلك نظريات المؤامرة. وهي أخيرا تؤكد أنّ النتيجة المنطقية لهكذا اصطفاف هي مزيد من الارتهان للقروض الخارجية واصطفاف وراء أجندات الاتحاد الأوروبي العازم على بناء ما أسماه الفيلسوف الفرنسي إتيان بليبار “الأبارتايد الأوروبي”[23].

أما السبب الثالث وربما الأكثر دلالة عن تعمّق الانخراط الطوعي للسلطة التونسية في الميثاق النيو كولونيالي فيحيل إلى ما شاهدناه منذ بداية السنة الجارية من تطورات درامية مثلت من دون شك منعرجا سياسيا في إدارتها لملف الهجرة ونعني: ترويج رئيس الدولة لـ”نظرية الاستبدال الكبير” العزيزة على أقصى اليمين الأوروبي، حملات المطاردة وتجريم السود التي لحقتها والتي بلغت أوجّها في جويلية الماضي مع الترحيل القسري للمئات منهم إلى الحدود مع ليبيا والجزائر في ظروف حدت الأمم المتحدة إلى وصفها “بالمعاملة العنصرية” أفضت إلى موت قرابة الثلاثين دون أن تشعر السلطة بأي حرج في مواصلة إنكار موتهم.

كيف يمكن أن يتمّ ذلك والحال أنه تستحيل معاملة أوروبيين بيض غير نظاميين بهذا الشكل. الإجابة يختصرها الفيلسوف الكامروني أشيل مبامبي فيما أسماه “النيكرو سياسة ” (nécropolitique) كشكل معاصر من ممارسة السلطة والسيادة عبر إخضاع حياة السود إلى سلطة الموت، هؤلاء الذين يشكلون “بؤساء الأرض الجدد الذين حرموا من الحق في الولوج إلى الحقوق، أولئك الممنوعون من التنقل، والذين حكم عليهم بالعيش في شتى أنواع السجون من مخيمات، مراكز احتفاظ، مراكز العبور… إنهم المبعدون والمرحلون، المطرودون واللاجئون السرّيون وغيرهم من المهاجرين غير النظاميين”[24]. لأنّ الكولونيالية الجديدة كما الاستعمار بالأمس تعتمد على العرق أي أجسام السود المباحة كاستراتيجية للهيمنة على الفضاء وفرض سلطتها الانضباطية والرقابية وترتاح كثيرا لشركائها الذين يقاسمونها هذا الرأي.

نشر هذا المقال ضمن الملف الخاص في العدد 27 من مجلة المفكرة القانونية – تونس

للاطلاع على العدد كاملا، إضغطوا هنا


[1] هم على التوالي فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، اسبانيا، بلجيكا، هولندا، بريطانيا، السويد، فلنلدا، اليونان، البرتغال، النمسا، لوكسبورغ، ايرلندا والدنمارك في الشمال، والجزائر، السلطة الفلسطينية، قبرص، مصر، إسرائيل، الأردن، لبنان، مالطا، المغرب، سوريا، تونس وتركيا، ثم التحقت بهم سنة 2007 موريتانيا وألبانيا.

[2] Olfa Lamloum, 2003. L’enjeu de l’islamisme au cœur du processus de Barcelone, in Critique internationale, pp. 129-142.

[3] Hamza Meddeb, 2012, Courir ou mourir. Course à el Khobza et domination au quotidien dans la Tunisie de Ben Ali. Cambridge University Press, p.142.

[4] Katharina Nattes, 2023. The Politics of Immigration Beyond Liberal States. Morocco and Tunisia in Comparative Perspective.

[5] شهدت لامبدوزا سنة 2008 ارتفاعا في عدد المهاجرين عن طريق البحر الراغبين في الذهاب إلى أوروبا (31252 في عام 2008 مقابل 11749 في عام 2007 ؛ 18047 في عام 2006 ؛ 15527 في عام 2005).

[6] Thomas Borrel, L’obsession croissante des migrations, in L’empire qui ne veut pas mourir. Une histoire de la françafrique. Guerre pillages, racisme, coups d’Etat, corruption …, Paris, Éditions du Seuil, 2021.

[7] المصدر السابق

[8] Communication de la Commission au Conseil et au Parlement européen du 10 mai 2005 – «Le programme de La Haye: dix priorités pour les cinq prochaines années. Un partenariat pour le renouveau européen dans le domaine de la liberté, de la sécurité et de la justice» [COM(2005) 184 final – Journal officiel C 236 du 24.9.2005].

[9] Council of Europe, Parliamentary Assembly, Ad Hoc Sub-Committee on the large-scale arrival of irregular migrants, asylum- seekers and refugees on Europe’s southern shores, Report on the visit to Lampedusa (Italy), AS/MIG/AHLARG (2011) 03 REV 2., 30 September 2011.

[10] انخفضت الأعداد المهاجرين الوافدين على جزيرة لمبادوزا بشكل حاد في عامي 2009 و 2010 (2947 و 459 على التوالي)، المصدر السابق..

[11] Abdelkarim Hannachi, 2012, Breve storia dell’immigrazione tunisina in Italia. Centro Studi e Recerche IDOS.

[12] يتعلق الأمر ببلدان منطقة الساحل وبحيرة تشاد والقرن الأفريقي وشمال أفريقيا

[13] بين سنة 2010 و2011 تضاعف عدد تصاريح الإقامة لأسباب إنسانية في إيطاليا 4 مرات خصص 27،5 بالمئة منها للمهاجرين التونسيين،

[14] Katharina Natter, 2023. The Politics of Immigration Beyond Liberal States, Morocco and Tunisia in Comparative Perspective. p.147.

[15] Jean-Pierre Cassarino, 2014, « Channelled Policy Transfers : EU-Tunisia interactions on Migration Matters”. In European Journal Of Migration and Law 16 (1), pp.97-123.

[16] European Parliament, « Regulation on Asylum and Migration” in “Promoting our European Way of Life.”, Legislative train schedule.

[17] Lobbying Fortress Europe. The making of a border-industrial complex. Myriam Douo, Luisa Izuzquiza, Margarida Silva. Février 2021

[18] Regulation (EU) 2019/1896 of the European Parliament and of the Council of 13 November 2019 on the European Border and Coast Guard and repealing Regulations (EU) No 1052/2013 and (EU) 2016/1624.

[19] Antony Loewenstein, 2023. The Palestine Laboratory. How Israël exports the technology of Occupation around the World. London, Verso.

[20] Idem.

[21] Idem.

[22] Paola Tamma, Europe’s ‘template’ for migration: Tunisian strongman’s racist clampdown, Politico, August 2023.

[23] Etienne Balibar, 2003, L’Europe, l’Amérique, la guerre. Réflexions sur la médiation européenne, Paris, La Découverte.

[24] Achille Mbembe, 2015. Critique de la raison nègre, Paris, La Découverte.

انشر المقال

متوفر من خلال:

لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، مقالات ، تونس ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني