تدابير المراقبة الإدارية: الأدوات القديمة-الجديدة للتضييق على الحقوق والحريات


2021-10-22    |   

تدابير المراقبة الإدارية:  الأدوات القديمة-الجديدة للتضييق على الحقوق والحريات

منذ إعلان الحالة الاستثنائية بتونس من قبل الرئاسة بتاريخ 25 جويلية وإقرار جملة من التدابير التي شلت عمل السلطة التشريعية وأربكت السلطة القضائية، أعلن رئيس الجمهورية قيس سعيّد عن خوضه لمعركة أسماها معركة التحرير ضد خطر اعتبره جاثما على الدولة التونسية. معركة تسلّح خلالها بمرسوم يعيد تنظيم السلط ويجمعها بيده فيعطيه صلاحية التشريع واليد العليا فيما يتعلق بإدارة السلطة التنفيذية. في الأثناء، لم يتم الاكتفاء بإعادة ترتيب الصلاحيات فقط بل تم التضييق على الخصوم والمعارضين وإقرار عدّة إجراءات اداريّة تحدّ من حريّات الأفراد تحت مسمّى وجوب التصدّي للخطر الذي يهدّد الدولة التونسية وينبئ باندثارها.

 

حقبة ما بعد 25 جويلية: عهد جديد بممارسات قديمة

بعد مرور أيام من إعلان 25 جويلية، بدأ تداول أنباء عن حدوث عدد من التضييقات ومنع بعض الشخصيات السياسية من السفر بصفة تدريجية، تلاها إعلانات بالوضع تحت الإقامة الجبريّة لعدة أسماء تقلّدت عدة مناصب بالدولة. فكانت النائبة السابقة ورئيسة لجنة الحقوق والحريات الفردية، بشرى بالحاج الحميدة، أوّل من أبلغ عن تعرضها لتعطيلات في مطار تونس قرطاج قبل سفرها. تتالتْ بعدها البلاغات من قبل عدة مسؤولين وسياسيين وأصحاب أعمال تفيد بمنعهم أو منع أفراد أسرهم من السفر. كما تمّت الإفادة بوضع أكثر من 50 شخصا تحت الاقامة الجبرية من مسؤولين وقضاة ونواب وفق ما صرّح به الناطق الرسمي باسم المحكمة الادارية.

استحوذت هذه القرارات الإدارية، التي تم اتّخاذها ضدّ شخصيات سياسية وقضاة تحت شعار وجوب إنقاذ الدولة، على اهتمام الرأي العام وحظيت بمتابعة وسائل الإعلام لها نظرا للسياق الذي تزامن وإيّاه والشخصيات التي شملتهم.  ولكن وجُبت الاشارة بأنّ مثل هذه القرارات ليس الأولى من نوعها في تونس. فقد مُنع العديد من المواطنين من السفر ووضع العديد منهم تحت الاقامة الجبرية خلال السنوات السابقة تحت مسميات وشعارات عدّة كمكافحة الارهاب ومكافحة الفساد ولكنها لم تحظَ بهذا الكم من المتابعة والنقاش.

ففي سنة 2013، أعلن وزير الداخلية آنذاك لطفي بن جدو عن منع السلطات لما يقارب 5000 تونسي من السفر، حسب إفادته، إلى سوريا[1]. وتجدر الإشارة هنا إلى أن قطع العلاقات الديبلوماسية بين تونس وسوريا آنذاك ما كان ليسمح بوجود سفرات جوية مباشرة بين البلدين. وفي الواقع، وقع منع الآلاف من الأشخاص من السفر نحو بلدان عدّة يشتبه بأنها محطّات عبور إلى هناك. كما أعلن فيما بعد وزير الداخلية لطفي براهم في جانفي 2018 منع 29 ألف و450 مواطن تونسي من الالتحاق ببؤر النزاع والمقصود هنا سوريا والعراق وليبيا بالأساس[2]. دافعتْ وزارة الداخلية والحكومات المتعاقبة عن هذا المنع من السفر بحجّة أنه يتنزّل في إطار الخطة الوطنية لمكافحة الارهاب التي تقضي بمراقبة تنقل الأفراد المشتبه بانضمامهم الى جماعات إرهابية. كما أكدت عدم نيّتها توفير إطار قانوني يضبط مثل هذا الاجراء. فأعلن وزير الداخلية هشام الفوراتي خلال جلسة استماع له بالبرلمان من قبل لجنة تنظيم الإدارة وشؤون القوات الحاملة للسلاح، في نوفمبر 2018 بأن وزارته لم تفكّر في تقديم مشروع قانون لتقنين إجراء المنع من السفر.[3]

تمّ تطبيق الإجراءات الإدارية المقيّدة للحرية أيضا سنة 2017 ضمن ما سميّ حملة مكافحة الفساد التي كان قد أعلنها رئيس الحكومة آنذاك يوسف الشاهد. طالت هذه الحملة عدة أصحاب أعمال فوُضع 8 منهم تحت الإقامة الجبرية بدعوى إنهم كانوا يهددون أمن البلاد. من ثم، تمّ اعتقالهم وإحالتهم على المحكمة العسكرية بتهم ثقيلة كالخيانة[4]. حملة يعتبرها العديد من السياسيين والمتابعين للشأن العام بأنها لا تمتّ بصلة إلى مكافحة الفساد بل كانت موجهة ضدّ أشخاص يمثّلون تهديدا لاستقرار رئيس الحكومة في منصبه من جهة ولمشروعه السياسي الذي كانت ملامحه قد بدأت بالتشكّل من جهة ثانية. رأي تمّ تأكيده لاحقا بسقوط التتبّعات الجزائية وعدم صدور أحكام بالإدانة لما تمّ اتهامهم به.

تواصل العمل بمثل هذه الإجراءات الإدارية خصوصا بتواصل تجديد وتمديد حالة الطوارئ التي استمرّت من دون انقطاع منذ سنة 2015. فكانت الإطار والذريعة التي تقدّمها وزارة الداخلية لتبرير تسليط الإجراءات الإدارية التعسفية.

مع إعلان حالة الاستثناء يوم 25 جويلية 2021 بالتوازي مع إعلان حالة الطوارئ، توسّعت دائرة تطبيق هذه الإجراءات لتشمل نوابا وسياسيين وقضاة وأصحاب أعمال. وعلى عكس ما تمّ تأكيده في أكثر من مناسبة من قبل رئيس الجمهورية بأنه لم يتم تطبيق إجراء المنع من السفر إلا على الأشخاص المشمولين بقضايا جزائية جارية، إلا أن تواصل بلاغات ضحايا هذا المنع من أشخاص لا ملف قضائي لهم يؤكد أن الواقع مخالف تماما لما تمّت الإفادة به، وهو ما دفع المنظمات الحقوقية[5] إلى إعلان استنكارها لهذه الممارسات في أكثر من مناسبة. ليردّ رئيس الجمهورية يوم 14 سبتمبر مشكّكّا في وجود تجاوزات حسب رأيه ومعتبرا أن الغاية من الإشارة والتنديد بهذه التجاوزات هي الإساءة إليه في هذه الفترة الحسّاسة[6]. تواصل، رغم ذلك، التنديد بالمنع من السفر العشوائي والتعسفي الذي طال العديد من الفئات وتواصلت الشهادات فطالب عدد من أصحاب الأعمال رئيس الجمهورية رفع المظلمة عنهم حسب تعبيرهم بعد توجيه مراسلة مباشرة له من قبل مجلس الأعمال التونسي الإفريقي معلنين بأن هذا الاجراء قد عطّل مصالحهم واستثماراتهم[7].

مع توسّع دائرة الأصوات المطالبة بإيقاف العمل بهذا الإجراء، اضطرّ رئيس الجمهورية يوم 17 ديسمبر 2021 لاتخاذ قرار بتقييد المنع من السفر وجعله متعلّقا بالأشخاص موضوع بطاقة جلب أو إيداع بالسجن أو تفتيش فقط[8]. تراجع رئاسة الجمهورية من شأنه أن يؤكّد طبيعة الإجراء المتّسم بالعشوائية والتعسفية وأن ما كانت تدافع عنه المنظمات الحقوقية لا يدخل في خانة المعارك المناوئة لشخص الرئيس خلافا لما كان قد صرّح به وإنّما هو استنكار لإجراء يأخذ شكل عقاب جماعي لفئة كبيرة من المواطنين من دون أي سند قانونيّ.

 

تقييد الحقوق والحريات عبر إجراءات إدارية غير قانونية

دائما ما تؤكّد وزارة الداخلية على شرعيّة وضرورة إقرار الإجراءات الإدارية والسهر على تنفيذها خصوصا خلال حالة الطوارئ، بينما تعتبرها المنظمات الحقوقية إجراءات تعسفيّة للتّضييق على الحقوق والحريّات. وهذا الأمر يُوجب التساؤل حول كيفية تحديد الاشخاص المشمولين بهذه الإجراءات وماهية النصوص القانونية التي تستند عليها الوزارة لإقرارها لفهمها وفهم كيفية تنفيذها. وللإجابة عن هذه الأسئلة يتحتّم التفريق أوّلا بين مختلف الإجراءات الإدارية التي يمكن إقرارها. فهناك اجراء الاستشارة عند عبور الحدود أو ما يسمى اختصارا بالمنع من السفر. ونجد ايضا إجراء الوضع تحت الإقامة الجبرية والتي تكون بمسكن الشخص المعني أو بمكان آخر تحدّده الوزارة وقد تتوسّع الرقعة الجغرافية للإقامة الجبرية لتشمل عدّة كيلومترات. كما نجد تدابير أخرى كالمنع من الحصول على وثائق الهوية، جواز السفر أو بطاقة السوابق العدلية. كل هذه الإجراءات وأخرى متعلقة بالتضييق على الأفراد وتهديد حريّتهم تقوم على إجراء مركزي ألا وهو تسجيل المواطنين أو التأشير عليهم في قواعد بيانات مختلفة متعلقة بأخطار أو شبهات تحددها وزارة الداخلية. وبالتالي، يتمّ تسليط الإجراء الإداري المناسب على الأشخاص المُدْرجين بكل سجل. فيقع إخضاع الأشخاص المُدرجين بالسجل S17 (ويعود الحرف S للكلمة الفرنسية « Signalé ») لاستشارة السلط الإدارية قبل السماح لهم بعبور الحدود وهو ما ينتهي إجمالا إلى منعهم من السفر.

تُمسك وزارة الداخلية بقاعدة البيانات وتتمسّك بعدم إعطاء أي معلومة عنها حتى وإن تعلقت فقط بعدد المدرجين فيها. فلا يتمّ تقديم مختلف السجلات (تتدرّج السجلات من S1 إلى S20) ولا أسباب الإدراج بكل سجل ولا تبعاته ولا يتم إعلام المعني بالأمر بإدراجه بأيّ سجل. فإن كان المواطن مدرجا بسجل S17 على سبيل المثال، سيكتشف ذلك عند محاولته تجاوز الحدود دون تقديم أيّ تفسير طبعا لهذا الإجراء أو لأسبابه. انعدام شفافية الإجراء الإداري تتعلّق أيضا بالإقامة الجبرية. فلا يتحصّل المعنيون بالأمر على نسخة من القرار ولا يتمّ إشعارهم بذلك إلا شفويا من قبل أعوان الأمن المختصّين ترابيا بمكان سكناهم. كما لا يشمل الإشعار الشفاهي طبعا أسباب هذا القرار ولا آجال رفعه وهو ما يمثّل انتهاكا واضحا لحقوق الأفراد المعنيين بهذا الإجراء[9].

إن الخروقات المرصودة لا تقتصر فقط على مستوى التطبيق بل تتعلّق أيضا بالقاعدة القانونيّة التي من المُفترض أن تستند عليها هذه الإجراءات الإدارية. فبالنسبة للإقامة الجبريّة، تعتمد وزارة الداخلية على الفصل الخامس من الأمر الرئاسي المنظّم لحالة الطوارئ الصادر سنة 1978 وتحديدا يوم 26 جانفي، المعروف بالخميس الأسود. وهو التاريخ الذي أعلن فيه الاتحاد العام التونسي للشغل عن الإضراب العامّ والذي شهد مظاهرات حاشدة تمّ قمعها من قبل قوات الأمن باستعمال الرصاص مما أسفر عن سقوط 52 قتيلا و365 جريحا حسب ما اعترفت به الحكومة آنذاك[10]. يوم تاريخي ذو دلالات عدّة حول طبيعة الأمر الرئاسي الذي صدر ليكون الأداة التي استند عليها النظام لقمع احتجاجات شعبية رافضة لسياسات السلطة آنذاك. مع صدور دستور الجمهورية التونسية الجديد، بات هذا الأمر الحكوميّ في تعارض تامّ مع أحكامه الجديدة. فقد تمّ التنصيص صراحة بالفصل 49 من الدستور أن تقييد الحقوق والحريات لا يجوز إلا بقانون. كما شدّد على ضوابط التقييد فاشترط أن يتمّ الحدّ من الحقوق والحريات، أوّلا إلى ضرورة تقتضيها الدولة المدنية والديمقراطية وأن يكون ثانيا لأهداف معيّنة قام بتحديدها، وثالثا أوجب ضرورة احترام مبدأ التناسب وموجبات الحدّ، مع التأكيد رابعا على عدم المساس من جوهر الحقوق والحريات موضوع الحدّ. وهو ما ينعدم تماما بمقتضيات الأمر الرئاسي الذي يتم تطبيقه إلى الآن للحدّ من حرية تنقّل الأشخاص.

أما بالنسبة للمنع من السّفر، فتعتمد وزارة الداخلية على الأمر الرئاسي الصادر سنة 1975 والمتعلق بضبط مشمولات وزارة الداخلية الذي ينصّ في فصله الرابع أن الوزارة مكلّفة بمراقبة جولان الأشخاص بكامل تراب الجمهورية وخاصة بالحدود الترابية والبحرية ومباشرة الشرطة الجوية. وبما أن القانون الساري المفعول والمتعلق بجوازات السفر ينصّ صراحة أنّ المنع من السفر لا يكون إلا بقرار من السلطة القضائية، تلحّ الوزارة على عدم استعمال عبارة “المنع من السفر” وإنما تكيّف الإجراء على أنه يقتصر على استشارة السلطة الإدارية عند محاولة الشخص المعني عبور الحدود. استشارة قد تدوم لساعاتٍ لتنتهي بتفويت الرحلة على المعني وتاليا المنع من السفر.

لمواجهة هذه الانتهاكات والخروقات، لم يتبقَّ للضحايا إلا التوجّه إلى السلطة القضائية لتحكيمها وللدفاع عن حقوقهم وحرياتهم. وبما أن الاجراءات التي تم تسليطها ضدهم هي قرارات صادرة عن وزارة الداخلية فكانت المحكمة الادارية المؤسسة المركزية للفصل في مدى شرعية وقانونية هذه الإجراءات.

 

المحكمة الإدارية بين الانتصار للحريات والخضوع للسلطة التنفيذية

بدأ تقديم العرائض المتعلقة بالمنع من السفر بعد سنوات من بداية تطبيقها خصوصا تلك التي تمّ اتخاذها في إطار مكافحة الارهاب وذلك نظرا لعدم إطلاع الأشخاص موضوع المنع من هذه المعلومة ومن إدراجهم بقاعدة البيانات. فلم يتبيّن هؤلاء الاشخاص حقيقة ما تمّ تسليطه عليهم إلا عندما حاولوا السفر (وقد تمّ في حالات أخرى منع أشخاص من التنقّل بين الولايات أي داخل تراب الجمهورية التونسية) مما أخّر متابعة المنظّمات الحقوقية لهذا الإجراء ورصد حالات الانتهاكات وبالتالي الدفع نحو المراقبة القضائية لمثل هذه الإجراءات.

شكّلت الدعاوى المرفوعة ضدّ وزارة الداخلية الوسيلة الفعّالة لتشكيل فقه قضاء مستقرّ يقضي بعدم شرعيّة هذه الإجراءات. فقضتْ المحكمة بانعدام السند القانوني والسند الواقعيّ لها وتاليّا قرّرت إلغاءها. وعلّلت المحكمة موقفها معتبرة أنّ ضبط حرية التنقل واختيار مقر الإقامة والحدّ منها دون وجود نصوص تشريعية تحدّد تلك الضوابط وشروط إعمالها، يعدّ مخالفا للدستور وبالتالي قضت بانعدام السند القانوني لها. كما أكّدت بأنّ عدم تبيان أسباب تلك الإجراءات في ظل غياب أي تتبّع قضائي ضدّ الأشخاص المعنيين والاكتفاء بتسبيبها بهدف حفظ الأمن والنظام ينفي عن هذه القرارات السند الواقعي لها وبالتالي قضت المحكمة الإدارية بإلغائها.

وقد اعتبر العديد من الخبراء القانونيين أنّ الأمر المنظّم لحالة الطوارئ غير دستوري من بينهم أستاذ القانون الدستوري والرئيس الحالي للبلاد[11]، والذي خلافا لما صرّح به قبل توليه الرئاسة واصل استعمال النص ذاته للتضييق من حريات الأفراد. الاعتراف الجماعي بالمخالفة الصريحة لمقتضيات الدستور، دفع رئيس الجمهورية السابق الباجي قايد السبسي إلى تقديم مشروع نص جديد لتنظيم حالة الطوارئ وما يترتب عنها من إجراءات. وقد علّلت رئاسة الجمهورية آنذاك في وثيقة شرح أسباب تقديم مشروع القانون سعيها لإيجاد معادلات ترمي للحفاظ على الأمن والنظام والعام وضمان الحقوق والحريات طبقا لما ينصّه الفصل 49 من الدستور. ولئن تمّ التداول حول هذا النص في المجلس التشريعي وإصرار العديد من المنظمات على توفير الإطار القانوني لهذه الاجراءات وسبل مراقبتها من خلال المشروع المقدّم، إلا أنّه لم تتمّ المصادقة على هذه المقترحات باللجنة سنة 2019 ولم يتمّ التصويت على مشروع القانون في الجلسة العامة. سيفٌ لم يتم ردّه إلى غمده وإيقاف ضرب حريات المواطنين فوجّهته وزارة الداخلية ضدّ النواب والسياسيين بعد 25 جويلية 2021. سارع هؤلاء إلى رفع دعاوى قضائية استعجالية لدى المحكمة الإداريّة التي قضت هذه المرة وخلافا لما كان متوقّعا بشرعية قرارات الوضع تحت الإقامة الجبرية.

وتجب الاشارة إلى أن الدعوى القضائية المقدمة إلى المحكمة الإدارية يمكن أن تأخذ شكليْن: الأول وهو دعوى في الأصل بهدف إلغاء القرار الإداري، والثاني عبارة عن طلب مرفق للنظر بصفة استعجاليّة بهدف إيقاف تنفيذ القرار الإداري إلى حين إتمام النظر فيه في الأصل. وهي الحالة التي يتعهّد بها حصرا رئيس المحكمة الإدارية للبتّ في شأنها في أجل شهر، وهو ما كان في شأن الدعاوى المقدمة من قبل سياسيين عدّة. فعلّل رئيس المحكمة قراره بأن الوضع تحت الاقامة الجبرية جاء هذه المرة ليشمل رقعة جغرافية أوسع من مكان الإقامة مما اعتبره كافيا لقضاء الحاجيات الأساسية والتنقل ورفض بذلك إيقاف تنفيذ 10 إجراءات بالوضع تحت الإقامة الجبرية دون التأكد من تمتّع المعنيين بالأمر من التنقّل الفعلي ضمن هذه المساحة، بينما أفاد إثنان من المتقدمين بالدعوى عدم السماح لهم بمغادرة مقرّ سكناهم. جاء هذا القرار القضائي مخالفا لفقه قضاء المحكمة ذاتها، ممّا صدم المتابعين والحقوقيين وأثار سخرية العديد منهم خصوصا بعد رفع عدد من هذه الإجراءات من قبل وزارة الداخلية بعد أيام من صدور قرار المحكمة وكأنها كانت أحرص منها وهي المكلفة بمقتضى الدستور بحماية الحقوق والحريات. أعاد هذا القرار ملفّ استقلالية القضاء على طاولة النقاش وعلى رأسه المحكمة الادارية خصوصا بعد إلغائها قرار مجلس القضاء العدلي المتعلّق بإنهاء إلحاق قضاة بوظائف عليا بالدولة بمؤسسات كرئاسة الجمهورية أو الحكومة أو الهيئات والنأي بهم عن جميع التجاذبات السياسية والقطع مع تحمّلهم مسؤوليات صلب السلطة التنفيذية.

وكان السياق السياسي المتأزم عاملا في إعادة المطالبة بإبعاد السلطة القضائية عن التجاذبات السياسية والدفاع عن استقلالية القضاة، خصوصا وأنه لم يتم تنقيح القانون المنظّم للمحكمة الإدارية لملاءمته مع مقتضيات الدستور. وظلّت بذلك تسمية رئيس المحكمة الإدارية بيد رئيس الحكومة أي خاضعة للسلطة التنفيذية، الأمر الذي لطالما أثار القلق خصوصا بعد تسمية رئيس المحكمة الإدارية الحالي. نصوص بالية كان لا بدّ من تنقيحها وجعلها ملائمة للدستور الجديد درءاً لخطر هيمنة السلطة التنفيذية وممارسة الرقابة عليها عبر المحكمة الإدارية. رقابة لم تحقّق هذه المرة لأسباب قد نجهلها أو يمكن تخمينها خصوصا بعد تصريح رئيسة اتحاد القضاة الاداريين رفقة المباركي التي أفادت أن القضاة يتعرضون لضغوط عدة خصوصا بعد إعلان 25 جويلية[12].

عشر سنوات لم تكن كافية للسياسيين والنوّاب لتحصين حماية الحقوق والحريات وجعل استقلالية السلطة القضائية ضمن أولوياتهم. فلم يتمّ تنزيل الدستور في شكل قوانين تطبق هذه المبادئ مما ساهم في مواصلة الانتهاكات وتوسيع دائرتها لتشملهم بعد 25 جويلية. عشر سنوات لم تكن كذلك كافية على ما يبدو لاقتناع البعض بأن الحقوق والحريات لا تتعارض مع دولة القانون وحماية الأمن والنظام وأن محاربة الجريمة من الفساد أو الإرهاب أو أي خطر آخر محدق بالدولة لا يمكن أن يتحقّق في ظلّ انتهاك الحقوق والحريات وعدم احترام الدستور. وقد جاء إعلان 25 جويلية ومن بعده أمر 22 سبتمبر ليعصف بالقليل الذي تمّ تحقيقه وليوقف العمل بعدة أبواب من الدستور وعلى رأسها باب السلطة القضائية، وهي المكلفة بحماية الحقوق والحريات من أي انتهاك.

 

 

[1] مقال لفرانس 24 بتاريخ 06 أوت 2013.

[2] تصنيف Fiche S: عقوبات جماعية لآلاف المواطنين (نواة، 2019)

[3] الفراتي: لا نيّة لوزارة الداخلية في تقنين إجراء المنع من السفر ‘س 17’

[4] تونس: اعتقالات سرية تلقي بظلالها على جهود مكافحة الفساد (هيومن رايتس ووتش، 2017)

[5] تونس: يجب على الرئيس رفع حظر السفر التعسفي (منظمة العفو الدولية، 2021).

[6] منشور لرئاسة الجمهورية التونسية بتاريخ 14 سبتمبر 2021.

[7] تصريح أنيس الجزيري رئيس مجلس الأعمال التونسي الافريقي “للصباح نيوز” بتاريخ 13 سبتمبر 2021.

[8] بلاغ لرئاسة الجمهورية التونسية بتاريخ 17 سبتمبر 2021.

[9] أن تكون مصنفا S: اعتباطية تدابير المراقبة الادارية في تونس (المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب، 2019)

[10] التقرير الختامي الشامل لهيئة الحقيقة والكرامة، الجزء المتعلق بانتهاكات حقوق الانسان.

[11] قيس سعيد: “إعلان حالة الطوارئ قرار غير مُبرر وغير دستوري”

[12] رفقة المباركي :المحكمة الادارية تتعرض لضغوطات عديدة

انشر المقال

متوفر من خلال:

أجهزة أمنية ، سلطات إدارية ، حرية التعبير ، حرية التنقل ، مقالات ، تونس ، حراكات اجتماعية ، حريات عامة والوصول الى المعلومات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني