المراكب المغادرة يومياً تؤكد استفحال “موسم الهجرة إلى أوروبا”: “المفكرة” تتبع خط الرحيل بحراً من أرواد إلى عكار


2022-09-07    |   

المراكب المغادرة يومياً تؤكد استفحال “موسم الهجرة إلى أوروبا”: “المفكرة” تتبع خط الرحيل بحراً من أرواد إلى عكار
مركب هجرة على شاطئ عكار بعد إحباط محاولة المغادرة على متنه

تقوم ببنين ولا تقعد هذه الأيام. لا تنام كبرى بلدات الساحل العكاري التي تمتدّ من تخوم جرد القيطع إلى العبدة على شاطئ البحر، فيما يحيي أهلها الليالي وأعين نسائها متورّمة حمراء من البكاء والنحيب وقلّة النوم والخوف على أبنائهنّ وبناتهنّ ممّن حملوا أطفالهم/ن وخاضوا عباب البحر ليعلقوا في المياه الإقليمية في مالطا أو إيطاليا أو اليونان. الحصيلة: لا أحد يعرف مكان الذين هجّرتهم السلطة بعدما تركهم قبطان المركب المعطل بذريعة تصليحه، وغادر على متن قارب مطاطي ليأتي بميكانيكي، ولم يعد. 57 راكباً وراكبة، بينهم الكثير من الأطفال، نصفهم من ببنين على الأقل، فيما يتوزّع البقية بين سوريين وفلسطينيين، أبحروا قبل 4 أيام عن الشاطئ اللبناني وعلقوا في المياه البعيدة من دون طعام أو مياه للشرب “ما منعرف عنهم شي” كما يقول أحمد برغل، قريب أحد المهاجرين.

تيه المركب العالق في غياهب المتوسّط على أهميته وضرورة إغاثة المغادرين اليائسين على متنه، فجّر حقيقة ما يحصل على الساحل اللبناني في “موسم الهجرة إلى أوروبا” الذي يبلغ ذروته منذ شهرين ولغاية اليوم استلحاقاً لما بقي من فصل الصيف وبداية الخريف وقبل أن يزمجر الشتاء ومعه مخاطر الإبحار: “عم يطلع كل يوم مركب أو مركبان” يجزم أحد رجال العبدة الذي يلازم الشاطئ معظم ساعات النهار والمساء. “بالليل عم تطلع العالم”، يؤكد، ليشير إلى أنّه هاجر من بلدة ببنين وحدها نحو ألف شخص على الأقل منذ بداية الصيف ولغاية اليوم. هذا الكلام يستخفّ به مواطن آخر متابع لما يحصل على الشاطئ الشمالي ليقول “الحقيقة، وبتحدى أي حدا يجي يعمل إحصاء، إذا مش 3 إلى 4 آلاف شخص، بين رجل وامرأة وطفل قد رحلوا من ببنين وحدها، خدوا منّي لبدكم اياه”. ويدعو الرجل نفسه إلى البحث عن شبان ببنين ليجيب “صاروا معظمهم بأوروبا، وبعضهم ما زال في البحر، فيما يتّجه البقية للهجرة إذا تسنّى لهم تدبير المال اللازم لذلك”.

ما أن يرتاح إليك أحدهم حتى يخبر بما يعرف “عم يدفعوا من 5 إلى 6 إلى 7 آلاف دولار ع الشخص وفي حسومات ع الأطفال، أوقات بيطلعلك طفلين ببلاش إذا كانت العيلة من 5 أفراد وما فوق”. هنا يبيع المواطنون بيوتهم، سياراتهم وأثاث منازلهم وبعضهم يستدين المال، “وفي ناس عم تسرق” كما يقول شاب من ببنين،  ليؤكد أنّ العاطلين عن العمل ليسوا وحدهم من يهاجر: “روحوا اسألوا عن نسبة العساكر لي عم تطلع بالبحر، الناس عم تهجّ من البلد المنهوب، ما بقى عندها خيار، ولا أمل، وأفق الناس مسدود ومظلم”. ومن أين يأتي الأمل؟ يسأل أحد الناشطين في عكار: من فاتورة اشتراك مولد الكهرباء التي تفوق راتب أي موظف أو عسكري؟ من ثمن الأدوية وعلاجات الأمراض المستعصية وحتى كلفة الاستشفاء العادي التي صارت عصية على كل الناس، ومن بينهم المضمونين ومعهم من كانوا يتمتعون بتغطية تعاونية موظفي الدولة والصناديق الضامنة؟ من ثمن ربطة الخبز التي لا تجدها تحت 25 ألف ليرة في معظم الأحيان؟ أم من ثمن كيلو اللحم البالغ نصف الحد الأدنى للأجور؟ عدا عن العام الدراسي الذي يطرق الأبواب وقد قُسمت أقساط المدارس الخاصة بين الدولار الفريش والليرة اللبنانية، بينما مستقبل التعليم الرسمي مظلم في ظل هجرة الأساتذة أو انخراطهم في مهن أخرى ترد عليهم ما يسد الرمق…

لوحة موضوعة في أحد شوارع العبدة

لا جوازات سفر.. والبحر وحده أمامكم

يتحدث الأهالي هنا في عكار أيضاً أنّه عدا عمّن يحجزون أماكنهم على متن المراكب، فإنّه مع حلول المساء يقصد كثر الشاطئ على أمل أن يعثروا على زورق هجرة يحملهم إلى المجهول، هؤلاء لا يمكنهم حتى استخراج جواز سفر، ولا يرون أمامهم سوى البحر كاحتمال للنجاة: “كل زورق هجرة عم يطلّع معه من 10 إلى 15 شاباً وبعضهم مراهقون والبعض الآخر لم يتخطّ العشرين من العمر، ببلاش”، يؤكد أحد المتابعين للملف “بيساعدوا القبطان وبيخدموا ع المركب، وبيكون المركب مطلّع نقلته، فبياخدوهن”. قبل أيام كان 3 أو 4 مراهقين يتسايرون ليلاً بالقرب من مرفأ العبدة وصودف موعد انطلاق رحلة هجرة غير نظامية. يقول أحد البحارة “لم يلزم الأمر سوى سؤال: بتاخدنا معك الله يخليك؟”، قالوا للقبطان الذي نظر إليهم لثوان قبل أن يجيبهم “ولك طلعوا يلّا”، ليضيف “لي عم يصير متل الأفلام، ما حدا بيصدق، وأهالي هؤلاء المراهقين لم يعرفوا مصيرهم إلّا عندما اتصلوا بهم من إيطاليا”.

قبل خمسة أيام قام أحد رجال عكار بـ “عمل خير” كما يصف صديقه فعلته. كان “فاعل الخير” شاهداً على تجهيز أحد مراكب الهجرة غير النظامية، ولكنه لاحظ أن وضع المركب ليس جيداً “عرف أنه فيه مشاكل وأشفق على النساء والأطفال خاصة”، وهكذا وما أن ابتعد المهاجرون أمتاراً قليلة عن الشاطئ حتى اتصل بالبحرية اللبنانية وأخبرهم عن موقع المركب ووضعه. وعليه تم اللحاق بالمركب ومطاردته إلى حين إعادته نحو الشاطئ بين منطقة العريضة والشيخ زناد على الساحل الممتد بين العبدة والحدود السورية لناحية طرطوس “رجعوا العالم سباحة ع الشاطئ”، وما زال المركب عالقاً ومعطلاً بين الصخور، وقد عاينته “المفكرة”.

قبل هذا المركب، ضبط الجيش اللبناني وبناء على معلومات استخباراتية 123 مهاجراً بطريقة غير نظامية. وقد تمّ تجميعهم في إحدى الشقق قبل يومين من حلول ساعة الصفر للإبحار. منظّم الرحلة حرّ طليق اليوم، فيما لا يعرف أحد مصير المبالغ التي دفعها الراغبون في الهجرة سلفاً، حيث يصار إلى دفع كامل المبلغ عند المغادرة، يؤكد أحد الركاب الذين تم التحقيق معهم، ليضيف “هلأ عم دبّر مركب تاني لإطلع”.

يستغرب مختار ببنين زاهر كسار تصوير الهجرة غير النظامية وكأنّها تتم من ساحل عكار فقط “المراكب عم تطلع من صور وصيدا والبترون وصولاً إلى عكار، بس ما حدا بيحكي إلّا عن ببنين حتى يبيّنونا خارجين على القانون”، وفق ما يؤكد. ورغم أنّ المختار يعترف بخروج الكثير من عائلات ببنين وشبانها عبر البحر، إلّا أنّه يرفض إعطاء رقم تقريبي لأعداد المغادرين “ما منعرف قديش طلع لأنه الرقم عم يتغيّر كل يوم”. ويقول المختار إنّ ببنين قدمت شهداء من أجل الوطن “ولكن لا أحد يسأل عنها ولا عن عكار”.

كلام المختار ينفيه أحد الناشطين بالقول “الخط البحري الفاعل يتركّز من بعد حاجز المدفون وصولاً إلى الشيخ زناد (بين منطقتي العبدة والعريضة على الحدود السورية) أو ما قبل العريضة بقليل، كون هناك نقاط عسكرية لأجهزة عدة على شاطئ العريضة بينها الجمارك والأمن العام”. 

مركب هجرة أحبط الجيش مغادرته الشاطئ اللبناني (الصورة من حسابات على فيسبوك)

“عكار بدا الدولة…الدولة ما بدا عكار”

ربما تساهم تلك اليافطة المرفوعة بالقرب من مرفأ الصيادين في العبدة في شرح ما يدور في نفوس العكاريين ومعه بعض ما يحصل. تقول اليافطة الكبيرة وبالخط العريض “عكار بدها الدولة… الدولة ما بدها عكار”، موقعة بعبارة “ثورة بالمقلوب” وهو اسم المجموعة العكارية التي رفعتها والتي تعتبر أنّ الهجرة من البلاد التي تحكمها هذه السلطة هي ثورة أيضاً. حتى أنّ أحد الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي كتب منشوراً فوق صورة لمرفأ العبدة يقول “من هنا هاجر أكثر شبان بلدتي، الرجال التي لا تهاب الموت على أمل أن يقابلوا أحلامهم أو سبحانه وتعالى هرباً من الجحيم.. من هنا بداية كل حلم ضائع.. من هنا بداية حياة كريمة معززة، من هنا مقابلة الأحلام.. من هنا قلب عكار النابض.. الجسد يموت ولكن الأحلام لا تموت”. والتقت التعليقات على المنشور عند ضرورة “عدم تفتح العيون على ما يحصل”. وعلى وسائل التواصل الاجتماعي نفسها، نُشر فيديو لمجموعة من الشبان العكاريين الذين يحتفلون بوصولهم إلى أوروبا ونجاتهم، وهم في طريقهم سيراً على الأقدام من إيطاليا إلى ألمانيا. كانوا يصوّرون أنفسهم مع عبارات “قال بدهم يخلّونا بإيطاليا ويبصّمونا قال.. أنا أحمد.. وأنا أبوعباس وكلّنا أسود، وع إلمانيا مشي رايحين”. وفي 30 آب نفسه يؤكد ناشط آخر إبحار زورق من عكار ليلاً وعلى متنه 93 مهاجراً مع عبارة “الله يكون معكم وتوصلوا بخير”. فيما يعلن ناشط آخر عن “انطلاق زورق أيضاً فجر 28 آب مع عبارة “الله ينجّيكم ويوصلكم بخير”… وهكذا دواليك.

عكار بدا الدولة … الدولة ما بدا عكار

من جزيرة أرواد إلى عكار

“ولكن كيف تتم عملية الهجرة اليوم؟” سؤال يعتبر أحد ناشطي عكار أنّه ليس بأهمية السؤال “أين القوى الأمنية ورادارات المراقبة البحرية؟ ومن يعطّلها لكي لا تكشف المراكب المغادرة؟”. ووفق المعلومات التي حصلت عليها “المفكرة”، يتبيّن أنّ الخبرية التي كانت تقول بأنّ مراكب الهجرة غير النظامية تخرج بعد اتفاق مجموعة من اللبنانيين والسوريين ومعهم قلّة فلسطينية يتشاركون لشراء مركب وتجهيزه والخروج به معاً، صارت من الماضي. فتتّضح اليوم عملية الإتجار الكامنة وراء العدد غير المسبوق من المراكب التي تخرج بصورة تكاد تكون يومية من البحر “إذا بدنا نكون متواضعين ومش عم نبالغ، خلّينا نقول إنه في مركب واحد ع القليلة عم يطلع بالنهار، إذا مش تنين، وفي أيام بيطلع أربعة”، يقول أحد أبناء ببنين ليدعونا إلى التجوّل في البلدة “ما بقى فيها كتير شبان بأول عمرهم، كلهم عم يطلعوا، في عائلات صح، بس صارت النسبة الأكبر شباب، البلد عم يفضى”.

ينفي الشاب أن تكون زوارق الهجرة تخرج من مرفأ الصيادين في العبدة “في نقطة عسكرية ع تم المرفأ، يعني مش معقول القصّة تكون مفضوحة هالقد”. ولكنه يشير إلى خروج مركب هجرة واحد فقط من مرفأ صيادي العبدة والباقي عن الشاطئ الممتد من المدفون بين البربارة والبترون إلى الشيخ زناد على الساحل العكاري، وأحياناً بالقرب من العريضة الحدودية، على الخط نفسه”.

صحيح أنّ المراكب لا تخرج من مرفأ الصيادين في العبدة، ولكن تقول المعلومات إنّ هناك ما لا يقلّ عن مائة فلوكة صيد على الأقل قد اختفت من المرفأ نفسه: “هودي طلعوا فيهم بالبحر”. هذا لا يعني أنّ الصيادين هم من نظّموا رحلة الهجرة طبعاً، ولكن سوق الطلب على القوارب على أنواعها، وخصوصاً بطول 15 متراً وما فوق، في أوجها. نفدت معظم المراكب الصالحة للهجرة من منطقة الشمال “عم يشتروا من الضبية بس مش كبيرة” يقول أحد الصيادين في طرابلس. وكبر المراكب هام في مردود الرحلة “في مراكب طلعت بـ 220 راكب ومراكب بـ 100 إلى 120 راكب”، أما المركب العالق اليوم بين إيطاليا واليونان ومالطا “فلم يتسع لأكثر من 57 راكباً، يعني صغير”.

ندرة المراكب في لبنان، فتح السوق نحو جزيرة أرواد السورية الشهيرة بتصنيع المراكب بمواصفات جيدة ومتينة، إلى درجة منعت فيها الدولة مؤخراً استيراد المراكب التي تمتد بطول 20 متراً وما فوق” وفق أحد صيادي الفيحاء. ويصل ثمن المركب اليوم إلى 30 أو 35 ألف دولار من أرواد، إذا كان بطول 16 إلى 20 متراً ويرتفع سعره ليصل إلى 45 الف دولار أو حتى 50 ألفاً في حال كان يتسع لـ 200 راكب أو 220.

ومع المركب، يأتي سوريون من سوريا “مش كل لي عم يطلعوا مع اللبنانيين من لبنان، لاجئين في لبنان”، يؤكد ناشط من عكار “السواحل السورية ممسوكة من الأمن السوري والأهم من البحرية الروسية، وصار الشاطئ اللبناني منفذ السوريين تهريباً إلى أوروبا اليوم، بعد التشدّد التركي في استقبالهم والسماح لهم بالعبور نحو أوروبا براً أو بحراً”، يضيف.

ينخرط الناشط في عملية حسابية لكلفة رحلة مركب الـ 57 راكباً التي انطلقت ونحو نصف ركابها من ببنين: “إذا أخذنا 5 آلاف دولار كمعدل وسطي لكلفة هجرة الراكب، كما يستوفونها اليوم، يتبيّن معنا أنّ منظّم الرحلة قد قبض 285 ألف دولار، نخصم منها 35 ألف دولار ثمن المركب، و30 ألف دولار أجرة القبطان، و20 ألف دولار لتمرير الرحلة للأجهزة الأمنية، و5 آلاف دولار لتعطيل رادارت المراقبة و10 آلاف دولار لوقود المازوت و5 آلاف دولار للمياه وألكل وخط شبكة ثريا للاتصالات، يبقى 170 ألف دولار كربح صاف”، وفق ما يقول، ليضيف “حلوين”، وفق تعبيره.

ندرة في القباطنة المهرة

مشكلة أخرى يطرحها أحد صيادي طرابلس تكمن في النقص الفادح الذي تسبّبت به الهجرة بإيجاد قباطنة مهرة لقيادة مراكب الهجرة: “حسب معلوماتي، مشكلة مركب الهجرة الحالي تكمن في عدم وجود كفاءات لازمة لقيادة مركب هجرة إلى أوروبا، كون معظم ربابنة المراكب الكفؤين سبق وخرجوا مع بداية الموسم الذي استعر مع فصل الصيف واشتداد الأزمة، وهو ما رفع بدل أجرة قيادة المراكب”. يقول أحد الشبان إنّ صديقه صياد عتيق وقد تلقى قبل يومين عرضاً بـ 40 ألف دولار لقيادة مركب هجرة “وعم يفكر بالموضوع، يمكن أوعى شي نهار ما لاقيه”.

نقص القباطنة يحاول منظمو الرحلات معالجته عبر الاستعانة بقباطنة في أعمار يافعة مؤهّلين ربما للخروج بزورق صيد ولكن ليس للإبحار إلى أوروبا والتحايل على خفر السواحل إلى حين الوصول إلى المياه الإقليمية الإيطالية، وهي الوجهة المفضلة لدى المهاجرين أو بقباطنة يستقدمونهم من سوريا وخصوصاً من طرطوس واللاذقية وطبعاً أرواد. ويتجنّب هؤلاء اليونان كونها تعمد إلى احتجاز الواصلين من لبنان ومن ثم تعيدهم إلى بيروت بعد أن يُتركوا في مخيمات تفتقر إلى أدنى مقومات الإيواء، بينما تعمد إيطاليا إلى وضعهم في مخيمات مقبولة لحجرهم لمدة 14 يوماً، كما يقول قريب إحدى العائلات التي وصلت قبل أسبوع إلى إيطاليا ومن ثم تفرج عنهم للمغادرة نحو دول أوروبية أخرى وعلى رأسها ألمانيا “ألمانيا حالياً هي الأفضل للهجرة”، يضيف “إذ أن شروط العيش فيها هي الأنسب”.   

من اعتصام أهالي ببنين وقطع طريق العبدة- طرابلس

ببنين القلقة

بيوت عائلات المغادرين على آخر مركب عالق في المياه الأوروبية ولا أحد يعترف به، حيث ينفي خفراء السواحل في ايطاليا واليونان ومالطا وجوده لديهم، بينما انقطع التواصل بينهم وبين عائلاتهم، تحوّلت إلى أماكن لتجمّع الأقارب والجيران وأهالي ببنين. الكل يسأل عن آخر الأخبار، فيما عمد البعض إلى الاتصال بالسلطات في إيطاليا واليونان ومالطا للبحث عن التائهين، بما أنّ السلطات اللبنانية لا تستجيب لاستغاثاتهم: “ما حدا عم يرد علينا”، يقولون فيما تتوالى الشتائم على سلطة هجّرت وما زالت تهجر شعبها “هون رح يموتوا من الجوع والمرض والقلة والعوز، يمكن ينجوا من البحر ويوصلوا ع بلاد بتحترم الإنسان وحقوق الأطفال، بس ب لبنان أكيد رح يموتوا، كلنا عم نموت”، كما تردد والدة الشاب خالد برغل (19 عاماً) الذي رحل على متن المركب الأخير.

لم يعد أمام خالد، وفق ما تقول والدته، “سوى البحر”. ظهرت المرأة التي يكاد صوتها يختفي من كثرة الصراخ على وسائل الإعلام قبل 8 أشهر لتطالب بمعالجة زوجها مريض السرطان: “وما حدا رد علينا، وخالد حاول يهاجر حتى يعالج والده”. باعت أم خالد عفش بيتها واستدانت ما تبقى من مال لتكمل كلفة الهجرة المُرّة “دخيلكم بس بدي إبني”، لا تتوقف السيدة عن الصراخ وهي تقول “إبني باع عمره”، فيما تتجمع حولها قريباتها ونساء الحي للتخفيف عنها.

منزل أحد المهاجرين في بلدة ببنين العكارية

بالقرب من منزل أم خالد، يصر محمود المشمشاني على اصطحابنا لرؤية منزل ولده أيمن الذي غادر مع زوجته وأطفاله على المركب نفسه. يقول الأب وهو يبكي بحرقة إنّ أيمن الذي يعيش في منزل مبني من “حجارة الباطون فقط، باع أثاث منزله وهو عبارة عن تلفزيون صغير و4 كنبات وبعض الطراريح للنوم، كان يعمل كمياوم ببدل لا يتخطى الخمسين ألف ليرة”. طفلة أيمن التي حملها وغادر بها تعاني من حروق في ظهرها تحتاج لعلاجات مكلفة، فيما يعاني طفله الثاني من مرض نادر في عينيه “إبني تديّن 15 ألف دولار حتى دفع لصاحب المركب لطلع مع مرته وأولاده التلاتة”، يقول ليؤكد أنّ معظم أبناء ببنين غادروها “ما بينحصوا لي فلوا من ببنين وكلّه عم يبيع بيوت وعفشها وسياراتهم وفي ناس عم تتديّن”. 

أما علي محمد غنوم، وهو مريض سكري، وفق شقيقه، فقد باع بيته وسيارته حتى هاجر مع أطفاله وصغيرهم في السادسة من عمره “خيي حتى حق دوا السكري ما عاد قادر يدفع، ولا قادر يعلم اولاده، وإذا المركب فرغ من المي يمكن خيي يروح فيها، لأنه تخزين السكر عنده فوق الـ 500”.

في حين أنّ تبنين خائفة على مصير أبنائها في مركب الهجرة التائه، يركض ابنها الشاب “م.م” يميناً ويساراً ليتدبّر 8 آلاف دولار ليتسنّى له الرحيل مع زوجته وأولاده الأربعة على متن مركب الهجرة الذي يغادر في الأيام المقبلة. طلب منه منظم رحلة الهجرة غير النظامية 10 آلاف دولار “ما رح آخد منك 5 آلاف دولار عن كل شخص، جيب لي 10 آلاف وطلاع مع عيلتك”. لكن “م.م” لا يملك سوى ألفي دولار، هو المبلغ الذي دفعه أحد معارفه ثمناً لأثاث بيته المستأجر.

وأمس قطع أهالي ببنين طريق العبدة طرابلس بمستوعبات النفايات والسيارات لأكثر من ثلاث ساعات مطالبين المسؤولين بالتواصل مع إيطاليا واليونان ومالطا لإنقاذ أبنائهم.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، أجهزة أمنية ، فئات مهمشة ، لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، لبنان ، حراكات اجتماعية ، لا مساواة وتمييز وتهميش ، الحق في الصحة والتعليم ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني