المحكمة العسكرية تستأنف عملها مؤقتًا وتحاكم زوجين روسيين متهمين بالتجسّس


2024-02-09    |   

المحكمة العسكرية تستأنف عملها مؤقتًا وتحاكم زوجين روسيين متهمين بالتجسّس

طفلة لا يتجاوز عمرها العام تمرح أمام قوس المحكمة العسكريّة الدائمة في بيروت. مشهد غير اعتيادي في هذه المحكمة، لكنّه كان المشهد الأبرز يوم الخميس 7 شباط 2024. الطفلة هي ابنة الزوجين الروسيين، يوري تشايكين وليليا تشايكينا اللذين أوقفا في مطار بيروت في تمّوز 2023 خلال توجههما إلى تركيا بعد زيارة إلى لبنان استمرّت 7 أيّام. والتهمة، هي التجسّس لصالح الموساد الإسرائيلي بعد أن ظهر من التحقيقات أنّ الزوج نفذّ عمليّة أمنيّة في محلّة الكفاءات في الضاحية الجنوبية لبيروت اقتضت فك قفل شقّة تابعة لحزب الله، وسرقة محتوياتها. لكنّها “عملية فاشلة” حسب إفادته التي أدلى بها أمام هيئة المحكمة برئاسة العميد خليل جابر وفي حضور معاون مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي هاني الحجّار، إذ كان يقتضي على يوري فتح البابين الأماميين للشقّة، لكنّه تمكن من فتح باب واحد فقط. وعليه، ادّعت النيابّة العامّة العسكريّة على يوري بالتجسّس لصالح الموساد سندًا للمادتين 282 و281 من قانون العقوبات فيما ادّعت على الزوجة بالتدخّل بالجرم. ومنذ ذلك الحين والزوجان موقوفان لدى الأمن العام اللبناني، وابنتهما بصحبة والدتها في مركز الاحتجاز. 

وعودة المحكمة العسكريّة إلى العمل بعد تعطيل دام لشهرٍ جرّاء الخلاف بين قائد الجيش العماد جوزيف عون ووزير الدفاع في حكومة تصريف الأعمال موريس سليم حول تعيين الضباط المستشارين، هي عودة مؤقتة. إذ أنّ الخلاف لم يُحلّ بعد، إنّما قرّر سليم التمديد للهيئات السابقة حتى آخر شهر شباط، فعمّم قائد الجيش على الضبّاط العودة إلى مزاولة عملهم. 

وخلال هذا النهار الطويل نظرت المحكمة العسكريّة، في ملفات تجاوز عددها المئة، تنوّعت بين جنح إطلاق النار العشوائي ومعاملة قوى الأمن بالشدّة وكذلك جنايات القتل والإرهاب، بما فيها ملفات لعشرات من الموقوفين الذين كانوا الأكثر تأثرًا بتوّقّف عمل المحكمة التي عاودت أيضًا البت في طلبات إخلاء السبيل. 

“أتيت إلى لبنان للعمل وليس للتجسّس”

ساعتان من الاستجواب للزوجين الروسيين فيما كانت طفلتهما تتنقّل من مكان إلى آخر أمام قوس المحكمة وتلهو مع المحامين والعناصر الأمنية الحاضرين في المحكمة، فأضفت جوًا استثنائيًا خلال النظر في ملف يتعلّق  بالمسّ بالأمن الوطني. وبحضور المترجم المحلّف طارق شومان وبحضور القنصل العام في السفارة الروسية أوليك ديميروف والسكرتير الثالث في السفارة أناتولي خولوخوف والمحامي محمد الفليطي وكيل الزوج ومحامي السفارة الروسية وليد الشبير موكلاً عن الزوجة، واستجوبت المحكمة المدعى عليهما لنحو ساعتين قبل الانتقال إلى مرافعات المحامين.

أصرّ يوري تشايكين في إفادته على وصف العمليّة التي نفذّها بـ “العمل”، رافضًا وصفها بعمليّة أمنيّة. وتضمّنت إفادته الكثير من التصريحات التي لم تمنع أعضاء هيئة المحكمة من إخفاء عدم قناعتهم بأقواله، ومنها : “لا أعرف شيئًا عن السياسة في لبنان…، لم أسمع بحزب الله من قبل…، لا أعرف أنّ الضاحية هي منطقة تخضع لنفوذ حزب الله…، مشغّلي ليس إسرائيليًا”. كما أنّه كان يكرّر: “أتيت إلى لبنان بهدف العمل وليس التجسّس”. والعمل الذي أشار إليه يوري، هو “فك أقفال”، علمًا أنّه اعترف أنّ هذا العمل يُخالف القوانين اللبنانية. 

في روايته، أفاد تشايكين أمام المحكمة إلى أنّه نشر إعلانًا لطلب العمل، مستعينًا بالشبكة السوداء Dark Web، فتواصل معه شخص وطلب منه التدرّب على فتح الأقفال، فخضع للتدريب لمدّة عشرين يومًا في روسيا بداية عام 2023. وأشار إلى أنّه لم يعمل في مجال فتح الأقفال سوى مرتين: الأولى حدّد أنّها حصلت في شهر آذار أو نيسان من عام 2023 في كرواتيا، والثانية في تمّوز في بيروت، وأنّه تقاضى على المهمة الأولى مبلغ 4500 دولار فيما تقاضى على الثانية 5000 دولار. وفي إطار تنفيذ مهمته في بيروت، قال إنّه اشترى قبّعة ونظارات وكفوف بهدف إخفاء هويته لوجود كاميرات مراقبة في المبنى الذي سيقصده، وتوجّه بسيارة أجرة إلى الضاحية الجنوبية في بيروت مساء 23 تمّوز 2023.  وحين وصل، وجد حشدًا من الناس متجمّعين فأعلم مشغّله الذي يُدعى “ريكو” الذي قال له: “لا تقلق هذا مجرّد اعتصام احتجاجًا على حرق القرآن”، فانتظر تشايكين لبعض الوقت قبل أن يدخل إلى المبنى. وأفاد بأنّ “المهمة كانت تقتضي أن أفتح باب الشقة التي هي عبارة عن مكتب، وأخذ ما أجده من مستندات والتي هي مستندات تجاريّة” نافيًا علمه بمحتواها. وأضاف: “تمكّنت من فتح أوّل باب، لكنّ الشقة كان لها بابًا ثانيًا، وحين بدأت بمحاولة فتحه، سمعت دعسة أحد سكّان الشقّة المقابلة”. وتابع: “توجهت مسرعًا نحو الطابق العلوي واختبأت وانتظرت إلى حين خروج الشخص، وبعدها اتصلت بمشغّلي وأعلمته أنّ العملية فشلت لأنني لم أتمكّن من فتح الباب الثاني، فطلب منّي ترك الباب الذي فككت قفله مفتوحًا على مصراعيه والخروج، وهذا ما فعلته”.  

“لم أسمع بحزب الله من قبل”

الأسئلة التي طرحتها هيئة المحكمة على تشايكين ركّزت على هوية المشغّل وهدف العملية، لكنّه كان يُقدّم إجابات فضفاضة لم تُقنع هيئة المحكمة، إذ سأله العميد جابر: “هل كنت تعلم أنّ المشغل هو الموساد الإسرائيلي؟ فأجاب، “كلّا، المهمة لم تكن أمنيّة، وأنا فقط أنفّذ ما يُطلب منّي وليس لي أي علم بهدف المهمة”. عندها سأله  جابر: “لماذا لا تقول الحقيقة، ولماذا تحاول إخفاء اسم الشخص الذي ورّطك؟”. وتابع “ما تدّعي البراءة، حتّى ما نقول الغباء”. فأصرّ تشايكين على إجابته: “لا أعلم أنا قمت فقط بما طلب منّي”. ثم سأله العميد جابر “هل تعلم أنّ ما قمت به مخالف للقانون؟”. فأجاب: “نعم، أعلم ذلك”. ثمّ توجه إليه بأسئلة تتصل بالطبيعة الأمنيّة للمهمة التي نفذّها: “ألا تعلم أنّ الشقة موجودة في منطقة تابعة لحزب الله؟” وواجهه بمعلومات أمنيّة تُشير إلى طبيعة تحرّكاته: “تنقلت بين مناطق تحويطة الغدير، الكوكودي، بئر حسن…، وكلّها مناطق تابعة للمقاومة”. فردّ تشايكين قائلًا: “لا أعرف شيئًا عن السياسة في لبنان ولم أسمع بحزب الله من قبل”، ونفى أن يكون تنقّل في هذه المناطق. أمّا زوجته ليليا، فردّت حين سئلت عمّا إذا كانت تعرف أنّ زوجها نفذّ عملية ضدّ حزب الله بالقول: “ما هو حزب الله؟”. 

من جهته، أظهر القاضي الحجّار عدم قناعته برواية تشايكين حول المهمة التي نفذّها، إذ توجّه إليه بالقول: “تحرّكاتك توحي بأنّ ما تقوم به هو عمليّة أمنيّة، فالفندق الذي حجزت فيه في الحمرا، والمعدّات اشتريتها من المنصورية فيما العملية في الضاحية الجنوبيّة، وهذا يدل على أنّ هدفك التمويه”. فأجاب: “اشتريت الأغراض من المنصوريّة لأنني كنت أبحث عن مقدح من نوع معيّن ولم أجده سوى في تلك المنطقة”، فاستدعى جوابه ضحكة ساخرة من القاضي حجّار.  

وبحسب الوقائع التي عرضتها المحكمة، فقد قام الزوج بتجربة فك قفل باب غرفة الفندق وقامت زوجته بتصويره خلال قيامه بذلك، فعلّق تشايكين على الأمر قائلًا: “كان باب الغرفة معطّلًا وقمت بإصلاحه”. فردّ حجّار قائلًا: “الصيانة ليست من مهام نزلاء الفندق”.

“أتينا بهدف السياحة”

الزوجة ليليا تشايكينا قالت في الاستجواب: “أتينا إلى لبنان بهدف السياحة ولم أكن على علم بأنّ زوجي جاء ليقوم بأيّ مهام أمنيّة”. وشدّدت على أنّها لم تعلم بالمهمة التي نفذها زوجها سوى في اليوم التالي أي في 24 تمّوز 2023. ولدى سؤالها عن سبب اقتناء زوجها لأربعة هواتف، قالت: “ما أعلمه أنّ ذلك بهدف العمل فقط”. ولفت العميد جابر إلى أنّ الزوجين زارا لبنان مرّتين قبل زيارتهما الأخيرة، وذلك في عاميّ 2021 و2022، فأفاد الزوج أنّها كانت بهدف السياحة، فيما قالت زوجته إنّ الهدف كان “الراحة”. 

ونفت الزوجة أن تكون على علم بنية زوجها تنفيذ عملية لصالح إسرائيل في بيروت، وأشارت إلى أنّ زوجها خرج من الفندق عند الساعة السابعة مساء في 23 تمّوز 2023 ولم يعد قبل منتصف الليل. ونفت معظم ما جاء في إفادتها الأوّلية أمام الأمن العام. وقالت إنّ زوجها يعمل في التقنيات المعلوماتية والإنترنت، وإنّها رأته يتحدث عبر الإنترنت مع شخص لا يعرفه ولم يلتق به من قبل. ولفتت إلى أنّ زوجها تدرّب في روسيا على فتح أقفال، وعند سؤالها عن سبب هذا التدريب أجابت: “بهدف العمل”. وسألها العميد جابر عن الأشياء التي أحضرها زوجها معه إلى لبنان، فأجابت: “دفتر ملاحظات، واسطوانة إلكترونية و4 هواتف”. وأشارت إلى أنّها لا تعرف غاية هذه الهواتف وأنّها رأتها حين أتت إلى لبنان، وأوضحت أنّ زوجها يستخدم هاتفين فقط في روسيا. وحول هذه النقطة، أوضح تشايكين أنّه يمتلك ثلاثة هواتف فقط، أحدها يحمل شريحة لبنانيّة، وواحد قديم والثالث بخط روسي، وأنّه ليس لهذه الهواتف أي وظيفة أمنية. 

البراءة للزوجة والسجن ثماني سنوات للزوج

تبعًا للاستجوابات، صرّح القاضي الحجّار أنّ النيابة لم تقتنع  بأنّ الزوجة غير متدخّلة بالجرم الذي ارتكبه زوجها، بل رأى أنّها “قامت بتسهيل العملية الأمنيّة التي نفذها”. ولفت الحجّار إلى أنّ تشايكين يُحاول إبعاد الشبهات الأمنية عن العمل الذي قام به، بهدف تصويره كمحاولة سرقة عبر الكسر والخلع، فيما تدلّ كافة تحرّكاته على أنّه يقوم بعمل أمني. وكرّر الحجّار مآل الادعاء، مؤكّدًا أنّ سياق الملف يسمح للمحكمة أن تقول إنّ الجهة المشغّلة هي العدو الإسرائيلي، وطلب إدانة الزوج بجرم التعامل مع العدو ومحاولة سرقة، وإدانة الزوجة بالتدخّل بالجرم. 

وفي مرافعته، شدّد وكيل الزوجة المحامي وليد شبير على أنّ “التحقيق الأوّلي لم يراع الأصول من ناحية المادة 47 التي تحفظ حقوق الموقوفين خلال التحقيق”، موضحًا أنّه “لم يحصل أيّ تصوير للتحقيق بالصوت والصورة، عدا عن أنّ المترجم الذي حضر التحقيق كان يتكلم الأوكرانيّة وليس الروسية، كما أنّه لم يحلف اليمين القانونيّة وفقًا لما تقتضيه الأصول القانونيّة”. وعليه طلب إبطال التحقيقات الأوّلية والتعقبات بحقّ الزوجة، وتطبيق المادة 222 من قانون العقوبات وإعلان براءتها.

ومن جهته، أشار المحامي الفليطي وكيل الزوج إلى أنّ “يوري اعترف أنّ فتح باب القفل هو أمر ينافي القوانين اللبنانيّة من جهة، ومن جهة ثانية فإنّه لم يُثبت بالدليل أنّه تعامل مع إسرائيل”. وعليه طلب “إعلان براءته لهذه الناحية، وإلّا منحه الأسباب التخفيفية”. 

في نهاية الجلسة، أُعطي الكلام ليوري، فقال: “أنا لم أزر إسرائيل أبدًا، ولم أنفذ أي مهام لهم. وبالنسبة للمهمة التي نفذتها في بيروت، زوجتي لم تكن تعلم بها”. ومن جهتها، قالت ليليا: “أنا لست مذنبة، ولم أخالف القوانين، وكل ما أريده هو العودة مع ابنتي إلى بلدي”. فسألها العميد جابر “وزوجك بدك تتركيه هون؟” فردّت “كل الاحترام لكم إن سمحتوا له العودة معي”. 

ومساءً أصدرت المحكمة حكمها بإعلان براءة ليليا تشايكينا من التهم التي وجّهت إليها في ما يتعلّق بالتدخل بالجرم، فيما أُدين يوري تشايكين بالتعامل مع إسرائيل وخلص الحكم إلى سجنه ثماني سنوات. 

ملاحظة: تم تعديل هذه المقالة في 9/2/2024 بناء على ورود توضيحات بشأنها إلى “المفكّرة”.

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، المرصد القضائي ، قرارات قضائية ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني