المحكمة الإفريقيّة تنتصر للديمقراطية في تونس: التدابير الاستثنائية انتهكت حق الشعب في المشاركة في إدارة شؤونه العامة


2022-09-23    |   

المحكمة الإفريقيّة تنتصر للديمقراطية في تونس: التدابير الاستثنائية انتهكت حق الشعب في المشاركة في إدارة شؤونه العامة

تزامنا مع الذكرى الأولى لصدور الأمر الرئاسي عدد 117 المؤسس لما سمّي بالتدابير الاستثنائية والذي جمع رئيس الجمهورية بمقتضاه كلّ السلطات بين يديه، خلصت المحكمة الإفريقية لحقوق الانسان والشعوب في القضيّة المرفوعة أمامها من قبل المحامي ابراهيم بلغيث ضدّ الأمر المذكور الى أنّ الدولة التونسية قد انتهكت حقّ اللجوء إلى القضاء وحقّ الشعب في المشاركة في إدارة شؤونه العامة كما هو مكفول في المادة 13(1) من الميثاق وكذلك المادة الأولى من الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب. وهي معاهدة دولية صاغتها الدول المنضوية تحت الاتحاد الإفريقي وصادقت عليه تونس منذ سنة 1983.

كما قضت بإلزام الدولة التونسية بإلغاء الأمر الرئاسي رقم 117 الصادر في 22 سبتمبر 2021 والأوامر الرئاسية المتعلّقة بإعفاء الحكومة وتعليق اختصاصات مجلس نواب الشعب والتمديد في ذلك التعليق إلى أجل غير مسمى، الصادرة تباعا في 25 و29 جويلية و24 أوت 2021. وقد أكّدت المحكمة على ضرورة العودة إلى الديمقراطية الدستوريّة خلال أجل قدره سنتان من تاريخ تبليغ هذا الحكم. كما أمرت الدولة التونسية باتخاذ كافة الإجراءات الضرورية خلال ذلك الأجل لإرساء المحكمة الدستورية وإزالة كافة العوائق القانونية والواقعية التي تحول دون ذلك. كما أمرتها بإعداد تقرير للمحكمة في أجل ستّة أشهر ابتداء من تاريخ تبليغ الحكم حول الإجراءات المتّخذة لتنفيذه ومن ثم تقديم تقرير كل ستّة أشهر إلى غاية اعتبار المحكمة أنّ الحكم قد تم تنفيذه بالكامل.

تعود أطوار القضيّة الى أكتوبر الفارط حين التجأ المحامي التونسي ابراهيم بلغيث إلى المحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان الشعوب طاعنا في التدابير الاستثنائية معتبرا أنّ “رئيس الجمهورية قد ألغى الدستور والمسار الديموقراطي واستولى على السلطات بطرق غير قانونية” بسبب اتخاذه هذه التدابير. وقد شدّد بلغيث أنّ المراسيم المتّخذة منذ 25 جويلية 2022 انتهكت حقوقه كمواطن، كالحقّ في المشاركة في إدارة شؤون الوطن، والحق في اللجوء إلى القضاء، وكذلك حقّ الشعب التونسي في تقرير المصير، إلى جانب انتهاك موّاد عدّة من المواثيق الإفريقيّة.

لعنة المحكمة الدستورية تلحق تدابير سعيّد

في ردّها على طعون الأستاذ بلغيث، تمسّكت الدولة التونسية بالدفع المتعلّق بعدم استنفاد سبل التقاضي الوطنيّة، وهو أحد الدفوعات التي لطالما أسّست عليها المحكمة الإفريقية قرارات رفض الدعاوى أصلا. في قضيّة الحال، اعتبرت المحكمة أنّ “التمتّع بالحقّ في التقاضي يتطلّب وجود محاكم مختصّة أو سلطات يتم إرساؤها وفقا للقانون وفي الواقع”. ويبقى الحق في التقاضي بعيد المنال إذا كانت السلطة القضائية أو شبه القضائية أو المؤسسة المعنيّة موجودة بنص القانون ولكنّها في الواقع غير موجودة”، في إشارة إلى المحكمة الدستورية. كما اعتبرت أن المسألة المُثارة أمامها تتعلّق بتفسير وتطبيق الدستور وهو اختصاص حصري للمحكمة الدستورية وفق الفصل 120 من دستور 2014. وفي ظلّ غياب المحكمة الدستورية في الوقت الذي رُفعت إليها العريضة، فإنّه لا وجود لسبل تقاضٍ داخلية وعليه لا يكون المدّعي “مطالبا باستنفاد سُبل للطعن غير متوفّرة في الدولة المُدّعى عليها”.

من جهة أخرى، اعتبرت المحكمة الإفريقية أنّه في ظلّ غياب سُبل الطعن في دستوريّة الأوامر الرئاسيّة، وعدم وجود طريق التماس الإنصاف بالنسبة لتظلّمات المُدّعي، فقد تم حرمانه من حقّه في التقاضي. وهو ما تأكّد معه انتهاك الدولة التونسية لحقّ اللجوء إلى القضاء كما هو وارد في المادتين 7 و26 من الميثاق.

حجّة السيادة الوطنية مردود عليها

كما كان متوقعا، أثارت الدولة التونسية دفعين أمام المحكمة بعدم الاختصاص الماديّ، معتبرة أنّ موضوع الدعوى لا يتعلّق بانتهاكٍ لحقوق الإنسان على نحو يهدّد السلم والأمن الدوليّين، والثاني أنّ موضوع الدعوى تتعلّق بمسّ من السيادة الوطنية.

في هذا الصدد، اعتبرت المحكمة الإفريقية أنّ اختصاصها لا ينحصر في النظر في العرائض التي تخصّ انتهاكاتٍ لحقوق الإنسان تُهدّد السلم والأمن الدوليّين. مؤكّدة على أنّه “حيثما كانت العريضة تزعم انتهاك واحد أو أكثر من حقوق الإنسان المحمية بأحكام الميثاق أو أي صكّ آخر صادقت عليه الدولة المُدّعى عليها، فإن المحكمة تمارس ولايتها القضائية بالنسبة للعريضة بغض النظر عن حجم الانتهاكات المزعومة وتهديدها أو عدم تهديدها للأمن والسلم الدوليين”.

كما رفضت المحكمة الدفع المتعلّق بالسيادة الوطنية، وهو موقف مستقرّ للمحكمة الإفريقية التي دأبت على رفض هذا الدفع في قضايا أخرى مذكّرة بأنّ الانضمام للبروتوكول اختياري وتعبّر الدول بمحض إرادتها عن التزامها به وخاصّة المادّة الأولى منه. مشيرة إلى أنّ الانضمام إلى هذه المعاهدات يمثّل إقرارا بالاختصاص الدولي لحقوق الإنسان والخضوع للرقابة من طرف الآليّات الدولية الهادفة لحماية حقوق الإنسان، ولا يتعارض ذلك مع سيادة الدول.

تأكيدا لذلك، استبعدت المحكمة الإفريقية دفوعات الأستاذ بلغيث المتعلّقة بانتهاك المواد 2 ،3 ،4 ،5 ،10 ،11 ،14 و15 من الميثاق الافريقي للديمقراطيّة والانتخابات والحكم، معلّلة ذلك بأنّ الدولة التونسية لم تُصادق على الصكّ المذكور وعليه لا يمكن قبول انطباقه على قضيّة الحال.

التدابير الاستثنائية: تدابير مجحفة “لا تتناسب مع الأهداف المعلنة”

قضّ النقاش حول مدى دستورية التدابير الاستثنائية وتأويل الفصل 80 من دستور 2014 مضاجع المتابعين والمتابعات للشأن التونسي. بعد سنة ونيف من استحواذ رئيس الجمهورية على جميع السلطات وبعد بضعة أشهر منذ قبر دستور 2014 وتعويضه بدستور الرئيس، لا يزال الشارع التونسي متخبّطا في قراءته لما حدث يوم 25 جويلية 2021 ولمدى قانونيّة استعمال التدابير الاستثنائية لتغييرات جوهرية ودائمة. تعدّ المحكمة الإفريقية لحقوق الانسان والشعوب أوّل جهة قضائية تصدر قراءتها في خصوص هاته التدابير، معتبرة “أنّ الحق في المشاركة في إدارة الشؤون العامة يمكن أن توضع عليه قيود استثنائية من أجل المصلحة العامة واحترام حقوق الآخرين وبعض الاعتبارات ذات العلاقة بالأمن والمصالح العليا للدول” على أن تتّخذ ” وفقا للإجراءات المنصوص عليها في القانون وأن يكون اتخاذها ضروريا ومتلائما من حيث المقدار مع الغرض المشروع من ورائها”. وفي قضية الحال، تلاحظ المحكمة أن التدابير الاستثنائية المتخذة قد تمّ العمل بها وفقا أوامر رئاسية صادرة من طرف رئيس منتخب ديموقراطيّا لمجابهة أوضاع معيّنة. وقد صدرت الأوامر الرئاسية بالاستناد للمادة 80 من دستور 2014 التي تمنح رئيس الجمهورية صلاحيّة “اتخاذ التدابير التي تحتمها الحالة الاستثنائية” والتي قد يكون من بينها إصدار أوامر رئاسية لمجابهة “حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة”. بيد أن سلطة رئيس الجمهورية في اتخاذ مثل تلك التدابير الاستثنائية مقيّدة بالشروط الموضوعية والمتطلّبات الإجرائية المنصوص عليها في المادة 80 من الدستور بما في ذلك استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية.

لاحظت المحكمة أن الدولة المدّعى عليها كان ينبغي أن تنظر في تدابير أٌقل تقييدا للتعامل مع الأوضاع قبل اتخاذ تدابير استثنائية صارمة كتعليق عمل البرلمان ورفع الحصانة البرلمانية عن كافة أعضائه المنتخبين من طرف المواطنين في إطار ممارسة حقوقهم في المشاركة في إدارة الشؤون العامة لبلادهم. وقد حدث ذلك في سياق من عدم التناسب بين الأهداف المعلنة والتدابير الاستثنائية المتخذّة، بل وأيضا عدم تماشي ذلك مع قوانين الدولة المدّعى عليها نفسها.

وبناء على ما سبق، تخلُص المحكمة إلى أن التدابير الاستثنائية المتخذة من طرف الدولة المدّعى عليها لم تصدر وفقا للقوانين المعمول بها في الدولة المدّعى عليها ولم تكن متناسبة مع الغرض الذي اعتمدت من أجله. وعليه، تخلص المحكمة إلى أن الدولة المدّعى عليها انتهكت حقّ الشعب في المشاركة في إدارة شؤونه العامة كما هو مكفول في المادة 13 (1) من الميثاق.”

 نصر قضائي رمزي.. مع حظوظ ضعيفة للتنفيذ

لا شكّ في أنّ قرار المحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب يعدّ نصرا قضائيا. إنّ هذا الاعتراف القضائي الإفريقي بانتهاك مراسيم الرئيس لحقوق الإنسان يمثّل ضغطا معنويّا دوليّا على السلطة الحالية، الاّ أنّه لا يُتوقّع تنفيذه من قبل الدولة التونسية. في الواقع، يبقى تنفيذ قرارات المحكمة الإفريقية محتكما إلى إرادة الدول في الالتزام بتعهداتها الدوليّة. حيث لم تتجاوز نسبة تنفيذ القرارات الصادرة عنها 7%، كما لا ينصّ البروتوكول المتعلّق بإنشاء المحكمة على أيّة تدابير يمكن اتخاذها في حالة عدم امتثال الدول لقراراتها. وهو ما يجعل من الالتزامات التي تمارسها المحكمة على الدول ذات طابع معنويّ بحت. وفي السياق التونسي، لا يستغرب عدم تنفيذ هذا القرار خاصّة وأنّ السلطة الحالية تتعامل بحساسية مفرطة مع أيّ خطاب قانونيّ يضع الأصبع على عدم تماسك حججها حول شرعيّة التدابير الحالية. تتدعّم هذه الفرضيّة في ظلّ تنكّر السلطة الحالية لقرارات المحكمة الإدارية في ملفّ القضاة المعفيّين، ورفضها العنيف لتقرير لجنة البندقية. كما لا يُستبعد أن تسحب تونس مصادقتها على بروتوكول الإعلان الذي يخوّل للمواطنين اللجوء إلى المحكمة لمجابهة التقاضي الاستراتيجي ضدّها. وقد كانت هذه المصادقة من مكاسب الانتقال الديمقراطي، لتلتحق بمصاف دول أخرى كساحل العاج والبنين[1]، يصعب اعتبارها نماذج ديمقراطيّة.

لقراءة الحكم، إضغط/ي هنا

لقراءة الحكم باللغة الفرنسيّة


[1] أودعت ثماني دول فقط من بين (32) دولة طرفًا في البروتوكول الإعلان الذي يعترف باختصاص المحكمة لتلقي القضايا مباشرة من المنظمات غير الحكومية والأفراد. الدول الثماني هي: بوركينا فاسو ، جامبيا ، غانا ، غينيا بيساو ، مالي ، ملاوي ، النيجر ، وتونس . في حين سحبت رواندا إعلانها في عام 2017 ؛ تنزانيا في عام 2019 ؛ كوت ديفوار و بنين في عام 2020 لتمنع بذلك التقاضي أمام المحكمة الإفريقية ضدّها.

انشر المقال



متوفر من خلال:

قضاء ، المرصد القضائي ، محاكم دستورية ، مؤسسات عامة ، منظمات دولية ، مقالات ، تونس ، إفريقيا



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني