المحاكمات عن بعد بالمغرب بعد سنتين من التطبيق


2022-05-09    |   

المحاكمات عن بعد بالمغرب بعد سنتين من التطبيق

مع نهاية شهر أبريل من العام الجاري تكون قد مرت فترة سنتين على الإعلان عن الانطلاقة الرسمية للمحاكمات عن بُعد بالمغرب، كإجراء استوجبته ضرورة الحفاظ على استمرارية المرفق القضائي في ظلّ التحدّيات الصحية التي فرضتْها جائحة كوفيد 19. ورغم تخفيف القيود الاحترازية مع تحسن الوضعية الوبائية بالمغرب وفي عدد من بلدان العالم، ما يزال الاستمرار في أعمال تجربة المحاكمة عن بعد يطرح تحديات قانونية وحقوقية في ظل تأخر صدور نص قانوني يؤطر المحاكمة عن بعد.

إيجابيات نظام المحاكمة عن بعد في السياق الوطني

بتاريخ 26 أبريل 2020 انطلقت تجربة أعمال المحاكمات عن بعد في قضايا الأشخاص المعتقلين، والتي فرضتها جائحة كورونا. فعلى أثر ظهور عدة إصابات بالفيروس داخل عدد من السجون المغربية، قرّرت المندوبية العامة للسجون منع نقل السجناء إلى المحاكم.

وبتنسيق بين المجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة ووزارة العدل، تمّ التجهيز لانطلاق تجربة المحاكمة عن بُعد في توقيت قياسي ومن دون إطار قانوني، باستثناء ما نصت عليه المادة الثالثة من مرسوم قانون الطوارئ الصحية التي خولت للحكومة “اتخاذ جميع التدابير اللازمة التي تقتضيها هذه الحالة”، وذلك بموجب مراسيم ومقررات تنظيمية وإدارية، أو بواسطة مناشير وبلاغات، من أجل “التدخل الفوري والعاجل للحيلولة دون تفاقم الحالة الوبائية للمرض، وتعبئة جميع الوسائل المتاحة لحماية حياة الأشخاص وضمان سلامتهم”.

وتشير أحدث الإحصائيات المتعلقة بتتبّع تنفيذ المحاكمات عن بعد إلى المعطيات التالية[1]:

  • تم عقد أزيد من 38534 جلسة عن بعد، أدرجت خلالها 753328 قضية جنحية وجنائية، استفاد منها 852083 معتقلا، وبلغ عدد الأحكام الصادرة فيها 265096 حكما.
  • مكن اعتماد تجربة المحاكمات عن بعد 22988 شخصا من الإفراج عنهم حيث صدر 2366 حكما بالبراءة، و9363 حكما موقوف التنفيذ، و138 حكما بالغرامة، و917 حكما بسقوط الدعوى العمومية، وأدين 1433 شخصا بما قضى من فترة الاعتقال، واستفاد 1987 شخصا من تخفيض العقوبة، وتمكن 3992 شخصا معتقلا من الافراج المؤقت، وأنهى 2791 معتقلا العقوبة المحكوم بها، واستفاد شخص واحد من الإدماج في العقوبات، وهو ما يعني أنه وبفضل هذه التجربة تمكن المئات من المعتقلين من معانقة الحرية مباشرة بعد النطق بالحكم بمعدل ألف شخص كل شهر.
  • –        تبقى لهذه التقنية عدة إيجابيات أخرى تتمثل بالخصوص في ربح الوقـت، وادّخار الجهــد، بما يضمـن البــت في القضايا داخل آجال معقولة، وكذا المساهمة في ترشيد الموارد المالية والبشرية والتي كانت مخصصة لنقل المعتقلين من السجن إلى المحاكم ذهابا وإيابا[2]، فضلا عما تشكله هذه التقنية من تحديث للمرفق القضائي.

ضمانات المحاكمة العادلة في نماذج محاكمات عن بعد

بالعودة إلى العمل القضائي المرتبط بتطبيق المحاكمة عن بعد، يلاحظ أن محكمة النقض[3] زكت التوجه القضائي المعمول به في كافة المحاكم، من تقييد أعمال المحاكمة عن بعد بضرورة موافقة المتهم، وتنازله عن حقه في الحضورية. وهو ما يعني من الناحية العملية عدم تصور إمكانية نقض أحكام قضائية صادرة عن محاكم الموضوع وفق تقنية المحاكمة عن بعد، طالما تنازل المتهمون ودفاعهم عن الحق في الحضورية.

وفي نفس السياق، اعتبرتْ المحكمة الابتدائية بسيدي قاسم أن “الدفع بعدم علنية المحاكمة ليس له أساس ما دام أن محاكمة المتهم تمّت بشكل علني وبحضور دفاعه والمشتكي ونائبه وأطراف أخرى، وباب قاعة الجلسات كان مفتوحا، والباب الخارجي بدوره كان مفتوحا، بدليل حضور المشتكي لجلسة المحاكمة، فضلا عن أن المتهم أبدى موافقته عن المحاكمة عن بعد، ودفاعه لم يعترض على ذلك، مما يبقى معه هذا الدفع غير ذي أساس ويتعين الحكم برده”[4]. ويلاحظ في هذا السياق أن المحكمة اعتبرتْ الموافقة على إجراء المحاكمة عن بعد، حقّا للمتّهم، وليس لدفاعه. ففي حالة الخلاف بينهما على إجراء المحاكمة عن بعد، يتمّ ترجيح موقف المتّهم الموجود في وضعية اعتقال.

يلاحظ أن بعض الأحكام القضائية التي تمّ الاطلاع عليها، اعتمدت لتبرير اللجوء الى المحاكمة عن بعد وبشكل صريح على مقتضيات المرسوم المتعلق بسنّ أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية وإجراءات الإعلان عنها[5]، وكذا كتاب السيد المندوب العام لإدارة السجون وإعادة الإدماج المتعلق بالمنع المؤقت لتنقل المعتقلين[6]، وموافقة المتهم والنيابة العامة على استعمال وسائل الاتصال التقنية عن بعد لإجراء محاكمته. وهكذا جاء في حكم قضائي: “…و بناء على إجراءات حالة الطوارئ تقرر عدم إحضار المتهم للمحكمة وبعد موافقته وموافقة دفاعه على التواصل معه عن طريق تقنية البث الحي وهو في حالة اعتقال، تقرر اعتبار القضية جاهزة للمناقشة[7].

طرحت أمام القضاء حالات لأشخاص تعذر التعامل معهم نظرا لكونهم من ذوي الاحتياجات الخاصة والذين يعانون من وضعية إعاقة سمعية أو بصرية. وفي هذا الإطار كانت المحاكم تقرر تأجيل البت في قضاياهم إلى حين إحضارهم إلى المحكمة لمحاكمتهم حضوريا.

في كثير من الحالات التي تمّ الاطلاع عليها، كان يتم تقديم المتهم (الموجود في وضعية اعتقال) فورا إلى المحكمة لمحاكمته حضوريا، لتفادي الإشكالات -وخاصة التقنية منها- التي تطرحها المحاكمة عن بعد. فإن تنازل عن الدفاع، أو تنازل دفاعه عن مهلة، يتم اعتبار القضية جاهزة، ويحاكم فورا، وإن تمسك بحق الدفاع، أو طالب دفاعه بمهلة لإعداد الدفاع، كان ذلك يعتبر تنازلا ضمنيا عن المحاكمة الحضورية، وقبولا بالمحاكمة عن بعد. وهو ما أدى في كثير من الأحيان إلى تسريع وثيرة المحاكمات الحضورية.

أثارت عدد من الجمعيّات النسائية من خلال تقاريرها حول انتشار العنف ضد النساء خلال فترة الطوارئ الصحية، الصعوبات التي واجهت بعض الناجيات من العنف في تتبع مآل المحاكمات نظرا للقيود المفروضة على التنقّل، ونظرا للإشكاليات المتعلقة بالمحاكمة عن بعد، حيث اعتقد الكثير منهم أن كون المحاكمة تجري عن بعد، يعني ذلك أنها محاكمات غير علنية، خاصة مع استحضار بلاغات سابقة صدرت بخصوص منع توافد المتقاضين عن المحاكم[8]، وبالتالي لم يتمكن بعض الضحايا من حضور بعض الجلسات، كما أنه وفي حالات كثيرة لم يكن يتم استدعاء الضحايا الذين لم يتم تقديمهم أمام النيابة العامة وهو ما كان يفوت عليهم إمكانية حضور الجلسات، وفي هذا الصدد يلاحظ أنه لم يتم استحضار وضعية الضحايا في الإحصائيات التي كان يتم نشرها.

تمّ تسجيل صعوبات في تخابر المعتقلين مع دفاعهم، بسبب قرار منع الزيارات، وهو ما أدى الى صدور دورية لرئيس النيابة العامة لتنظيم هذا الحق من خلال التأكيد على موافقة مندوبية السجون على تمكين السجناء الذين ستعرض قضاياهم على المحاكم عبر تقنيات المحاكمة عن بعد، من التحدث هاتفيا مع محاميهم قبل الجلسة، بعد القيام ببعض الإجراءات من قبيل ضرورة إحالة النيابات العامة المختصة على مصالح المؤسسة السجنية المعنية اسم المحامي الذي يرغب في محادثة موكله ثلاثة أيام قبل التاريخ المقرر لعقد الجلسة، وعلى أن تقوم المصالح السجنية بربط الاتصال مع المحامي لهذه الغاية[9].

مخاوف وتحديات تواجه تجربة المحاكمة عن بعد

يلاحظ أن الجهود المتخذة لإعمال تجربة المحاكمات عن بعد، على مستوى المحاكم، لم تستحضر وضعية بعض الفئات وحقّهم في الولوج إلى العدالة وفي الانتصاف ومن بينهم الأشخاص في وضعية إعاقة سمعية بصرية، فضلا عن ذلك، فإن اللجوء إلى اعتماد نظام المحاكمة عن بعد ما يزال يطرح إشكاليات جوهرية ترتبط بالسند الشرعي لهذه المحاكمات في ظل التأخر في مراجعة قانون المسطرة الجنائية بما يكفل تنظيم المحاكمة عن بعد بما يضمن الحفاظ على حقوق كافة أطراف الخصومة الجنائية.

ورغم تقييد تطبيق المحاكمة عن بعد بموافقة المتهم أو الظنين، وبتنازله عن الحقّ في المحاكمة الحضورية، كما هو واضح من خلال الاجتهادات القضائية السابقة، فإن إشكال وضعية المعتقلين الاحتياطيين الذين يتمسكون بالحق في الحضور يبقى مطروحا، ما دام تشبثهم بهذا الحق يؤدي في بعض الأحيان-نتيجة الإجراءات الاحترازية- إلى تأجيل البت في قضاياهم. وهو ما قد يشكل إخلالا بمبدأ الحق في المحاكمة داخل أجل معقول، علما بأن المؤشرات الإحصائية المتاحة لا تتضمن أي إشارة الى وضعية هذه الفئة، وطبيعة القضايا المتابعين من أجلها، وطبيعة ونوعية الإجراءات المتخذة لضمان حقهم في المحاكمة داخل أجل معقول.

من جهة أخرى، يلاحظ استمرار تسجيل بعض الصعوبات التقنية واللوجستية المقلقة والناتجة عموما عن ضعف الصبيب، وتزامن توقيت انعقاد عدة جلسات داخل دائرة النفوذ التابعة لبعض المؤسسات السجنية. وهو ما يؤدي إلى ارتباك على مستوى توقيت انعقاد الجلسات، يؤثر سلبا على وضعية أطراف الدعوى العمومية والمدنية، حيث يضطرون إلى الانتظار لمدة ساعات، فضلا عن صعوبة اطلاع المتهمين على محضر التصريحات، وصعوبة اطلاعهم أيضا على المحجوزات وغيرها من أدوات الاقتناع ومواجهتهم بها، إلى جانب الإشكاليات المتعلقة بالتواصل بين المتهمين ودفاعهم.

أخيرا يلاحظ أن تجربة المحاكمة عن بعد في سياق حالة الطوارئ الصحية ركزت على الجانب الإحصائي التقني. وليس أدلّ على ذلك من توالي الاحصائيات الدورية التي تركز على تقديم الأرقام، فضلا عن نشر وزارة العدل عبر موقعها الرسمي لبطاقة تقنية تؤكد على الاحترام التام لمعايير الأمن المعلوماتي. في المقابل، لم يواكبْ انطلاق هذه التجربة حملة للتعريف بحقوق المتهمين والضحايا وذويهم في سياق هذه المحاكمات[10]. أما بعد تخفيف الطوارئ الصحية، فقد طغى الاهتمام بمناقشة التجربة من ناحية آثارها الاقتصادية والمالية أكثر من باقي التحديات الحقوقية التي قد تطرحها بخصوص مدى احترام ضمانات المحاكمة العادلة. وهو ما يطرح ضرورة الإسراع بإخراج قانون ينظم المحاكمة عن بعد، طالما أن الاستعانة بوسائل التواصل عن بعد والرقمنة في مجال التقاضي أضحى خيارا استراتيجيا، ليس فقط خلال فترات الأزمات، بل في الأحوال العادية أيضا. فمن شأن الاستفادة من التحولات الرقيمة توظيفها في تسهيل الحق في الولوج إلى العدالة والحق في الانتصاف، والحق في صدور الأحكام القضائية داخل آجال معقولة، في جميع المجالات.

مواضيع ذات صلة

المحاكمة عن بعد: قراءة في تجربة تحتاج أن تتطور

الإعلان عن الانطلاقة الرسمية للمحاكمات عن بعد بالمغرب

مشروع لتقنين المحاكمات عن بعد في المغرب: كيف يمثل المتهم في مكان احتجازه من دون قيد؟

ملاحظات نادي قضاة المغرب حول مقترح قانون المحاكمة عن بعد: مراعاة المحاكمة العادلة على ضوء مبدأي الضرورة والتناسب

فدرالية المحامين الشباب بالمغرب تقدم تقريرها حول سير المحاكمات عن بعد: التركيز على خطاب الإنتاجية على حساب شروط المحاكمة العادلة

بعد المغرب ولبنان، تونس تطلق المحاكمات عن بعد ولكن … بنص قانوني


[1] – احصائيات المجلس الأعلى للسلطة القضائية بخصوص حصيلة المحاكمات عن بعد خلال الفترة ما بين 26 أبريل 2020ـ، و25 مارس 2022.
وأنظر لمزيد من التفاصيل:
-هشام البلاوي، المحاكمة عن بعد وضمانات المحاكمة العادلة، مجلة رئاسة النيابة العامة، العدد الأول، سنة 2020، ص 12.
[2] – مناقشة ميزانية المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الادماج، ديسمبر 2021.
[3] – اعتبرت محكمة النقض في قرار حديث أن المحاكمة عن بعد لا تطبق إلا “بعد موافقة المتهم وعدم منازعته في ذلك أو تمسكه بإحضاره إلى الجلسة”.
-قرار محكمة النقض عدد 762/8 بتاريخ 06/05/2021، في الملف الجنائي 15973/6/8/2020، غير منشور.
[4]-حكم المحكمة الابتدائية بسيدي قاسم عدد 182 في الملف عدد 414/2103/2020، صادر بتاريخ 11/06/2020، غير منشور.
[5]-حكم المحكمة الابتدائية بالقنيطرة عدد 1554، في الملف عدد 1183/2103/2020، غير منشور.
[6]– حكم المحكمة الابتدائية بوادي زم في ملف عدد 122/2103/2020 صادر بتاريخ 27/05/2020، غير منشور.
[7]– حكم المحكمة الابتدائية بالخميسات عدد 150 في ملف عدد 112/2020، صادر بتاريخ 14/05/2020، غير منشور.
[8] – دورية الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية عدد 1/151بتاريخ .2020/03.
[9]– دورية رئيس النيابة العامة عدد  19س/ر ن ع بتاريخ 2020.
[10]– يلاحظ أن بعض التجارب الدولية المقارنة اتجهت الى اصدار دلائل استرشادية للعموم مثل “البروتكول المتعلق بالمحاكمة عن بعد” الصادر في 20 مارس 2020 عن السلطات القضائية بإنجلترا وبلاد الغال. أنظر لمزيد من التفاصيل:
انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، فئات مهمشة ، مقالات ، المغرب ، محاكمة عادلة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني