المحاكمة عن بعد: قراءة في تجربة تحتاج أن تتطور


2020-06-26    |   

المحاكمة عن بعد: قراءة في تجربة تحتاج أن تتطور

بتاريخ  29-04-2020، صدر بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية[1] المرسوم عدد 12 لسنة 2020 المتمم للفصل 141 من مجلة الإجراءات الجزائية والذي أجاز لأول مرة في تاريخ العدالة الجزائية التونسية عقد المحكمة لجلساتها باعتماد وسائل التواصل عن بعد المؤمنة والتي تضمن التواصل بين هيئة المحكمة المنتصبة بمقرها والمتهم المودع بالسجن. وقد أكدت وزيرة العدل ثريا الجريبي جاهزية وزارتها فيما تعلق بتوفير المستلزمات التقنية لإطلاق تلك المحاكمات التي وعدت بأن تبدأ في محكمة تونس بداية الشهر الخامس من سنة 2020 لتشمل بعد ثلاثة أسابيع فقط ثماني محاكم أخرى وأربع مؤسسات سجنية ولتنتهي بأن تعمم على مختلف المحاكم خلال شهرين ونصف من بدايتها[2].

ورد النص القانوني المؤطّر للمحاكمات عن بعد في خانة التشريعات التي تهدف “لمجابهة تداعيات انتشار فيروس كورونا (كوفيد-19) وتأمين السير العادي للمرافق الحيوية[3]. ولكنه كان في واقع الأمر مما أعدّ سلفاً في إطار مشروع أكبر يتعلق بتحسين مؤشرات رقمنة القضاء وينتظر فيما تعلق به تاليا أن يكون من المراسيم التي سيسعى الطرف الحكومي لأن تصاغ بقانون “دائم” بعد نهاية الأمد الدستوري لنفاذها. ولكن يلحظ أن تنزيله نطاق الممارسة لم يحصل في الآجال المعلنة بما يؤشّر إلى معارضة غير خافية له، تستدعي السؤال عنها كما عنه.

خصوصيات التصور المؤسساتي

يحضر هاجس المحاكمة العادلة والإبتعاد عن الإجراءات الإستثنائية بوضوح في تصوّر النص القانوني المنظم للمحاكمة عن بعد في وقت يصعب فيه القول بكونه كان سيضمن استمرار مرفق العدالة الجزائية لو تطورت الحالة الوبائية سلبياً.

مؤسسة منسجمة مع شروط المحاكمة العادلة

يولي المرسوم المحكمة أو المتهم أو النيابة العمومية صلاحية المبادرة باقتراح اعتماد المحاكمة عن بعد. وتعدّ موافقة المتّهم شرطا أوليا للمضي قدما في إجراءاتها، وإن كان يمكن في حالة الخطر الملمّ أو لغاية التوقي من الأمراض السارية عدم التوقف عندها. ويبدو هنا تكريس موافقة المتهم كشرط مبدئي على المحاكمة عن بعد ضمانة هامة لحقه في المحاكمة العادلة فيما يبدو الاستثناء المكرس مبررا ولا يمس منها.

كما يوجب القانون على المحكمة التي تعتزم إجراء تلك المحاكمة أن تصدر قرارا معلّلا في ذلك يعلم به بوسيلة تترك أثرا كتابيا مدير المؤسسة السجنية والمتهم ومحاميه في أجل لا يقلّ عن خمسة أيام من تاريخ انعقادها ويترك لمحامي المتهم خيارا في أن يرافع عن موكله بالفضاء السجني حيث هو أو في مقر المحكمة. ويظهر هنا اشتراط الإجراءات الكتابية المعللة وتمكين المحامي من حق غير مقيد بأي شرط من الحضور مع موكله بالفضاء السجني ضمانة هامة لنزاهة الإجراءات.

المحاكمة عن بعد: أبعاد أُغفلت

كان ينتظر أن ينتهي نظام المحاكمة عن بعد إلى توظيف تقنيات التواصل عن بعد لتأمين محاكمات لا تفرض على أي من أطرافها  الحضور المادي بالمحكمة خصوصا متى فرضت الظروف الموضوعية ذلك. ولكن ما يلاحظ أن المشرع اكتفى بضمان ذلك في الطور الحكمي للمتهم الموقوف فقط بما فيه:

  • استثناء غير مبرر للمتهمين الذين هم بحالة سراح ولبقية أطراف الدعوى الجزائية ممثلين في الادّعاء العامّ والمتضررين زيادة على الشهود والخبراء الذين قد تحتاج المحاكم لسماعهم،
  • إغفال إمكانية الاستفادة من تقنيات التواصل عن بعد في بقية أطوار التقاضي الجزائي خصوصا منها مرحلة البحث الاستقرائي.

ويظهر هذا كنقيصة كبيرة في المرسوم يتعين تجاوزها متى تمت إعادة النقاش حوله بمجلس نواب الشعب. ويؤكد هذا الرأي التشريع الفرنسي المماثل والذي كان في تأطيره للظاهرة أكثر شمولية كما يبدو مشروع القانون المغربي أفضل في إدراكه لحدود التطور المطلوب.

ففيما تعلق بالتجربة الفرنسية، فإنه تم التوسع في تحديد من تشملهم المحاكمة عن بعد من جهة الأشخاص والجغرافيا[4] لتشمل الإدّعاء العامّ والشهود والخبراء الموجودين بفضاء الاتحاد الأوروبي وذلك بموجب الفصل 706/71 من مجلة الإجراءات الجزائية الفرنسية والقانون عدد 1636 لسنة 2016[5]. كما تواصل هذا التوسع بموجب المرسوم عدد 303-2020 المؤرخ في 25 مارس 2020 والذي خوّل الشهود والمتضررين والمتهمين الذي هم بحالة سراح الإستفادة من المحاكمات عن بعد. وهو ذات التوجه الذي كرسه مشروع القانون المغربي في الموضوع.

ويبدو لنا التوجهان الشريعي الفرنسي والمغربي أكثر تلاؤما مع ما هو مطلوب من دور للمحاكمة عن بعد سواء في الظروف الإعتيادية أو في تلك الإستثنائية، التي يخشى أن تجعل الإشتغال العادي للمحاكم مصدر خطر على المتقاضين والعاملين بها.

فوات لمواعيد النفاذ: رياح المحافظة تعصف بتجربة أريد لها أن تكون رائدة

كشف الخطاب العام حول مرسوم المحاكمة عن بعد عن معارضة هامة للمؤسسة بدعوى أنها تمسّ بعلانية المحاكمات[6] أو أنها لا تستجيب للحاجة النفسية للمتهمين الذين يفضّلون الحضور المباشر في المحكمة. كما تم انتقاد تنصيص المرسوم على إجراءات متسرعة لا تحقق شروط المحاكمة العادلة[7].

وهو الموقف الذي اختزل كل أسانيده رئيس المجلس الأعلى للقضاء يوسف بوزاخر بقوله أن المحاكمة عن بعد تتطلب لنجاحها الإحاطة بجملة من الضمانات لا تتوفر حاليا بتونس.[8] ويبدو أنه كان لهذا الرأي دورٌ فيما انتهى إليه الأمر من عدم عقد أي جلسة للمحاكمات عن بعد خلال فترة الحجر الصحي خلافا لما وعدت به وزارة العدل، وبالتالي في فرض انطلاقة متعثّرة لتجربة أريد لها أن تكون رائدة. وهو أمر يذكر بمآل سياسات تطوير منظومة العقوبات بتونس التي انتهت إلى ما يمكن أن يعد فشلا بسبب عزوف المحاكم عن اعتماد ما تقترح من عقوبات بديلة. ويؤكد أن الخلل هيكلي وأنه يعود لاعتبارين:

  • عدم إلمام من يصوغون النصوص القانونية بمستلزمات إنفاذها،
  • النزعة المحافظة في الوسط القضائي.

ونقدّر أن تجاوز هذين الإعتبارين يحتاج إلى مجهود منهجيّ في وضع التشريعات في اتجاه تعزيز سياسة الإنصات لمن سيطبّقون التشريعات طلبا للإستفادة من معرفتهم بالواقع. كما يحتاج إلى مراجعة لمقاربة القانون في الجامعات ومعاهد القضاء والمحاماة. فالقانون ليس مجرد مادة تقنية بما يفرض إيلاء عناية خاصة لفلسفة القانون وسوسيولوجيا القانون وهي مواد قد يظنها كثيرين غريبة عنه بينما هي ما يحقق روحه ويضمن قدرته على التطور، خصوصا وان القانون قدره التطور عملا بالقاعدة القانونية اللاتينية بأن القانون الذي لا يتطور يموت[9] MUTATA LEX NON PERIT.

  • نشر هذا المقال في الملحق الخاص بالعدد 18 من مجلة المفكرة القانونية | تونس |. لقراءة الملحق اضغطوا على الرابط أدناه:

الكورونا غزوة مرعبة بأسئلة كثيرة


[1]   تسمية الجريدة الرسمية بتونس .

[2]  بلاغ مكتب تنفيذي جمعية القضاة التونسيين بتاريخ 27-04-2020

[3]   الفصل الأول من القانون  عدد 19 لسنة 2020 مؤرخ في 12 أفريل 2020  والذي يتعلق بالتفويض إلى رئيس الحكومة في إصدار مراسيم لغرض مجابهة تداعيات انتشار فيروس كورونا (كوفيد-19 )

[4] الإتفاقية الأوروبية للمساعدة القضائية في المسائل الجزائية لسنة 2000، والبروتوكول الإضافي الثاني للإتفاقية الأوروربية للمساعدة المتبادلة في المسائل الجزائية والتي تم التوقيع عليه في ستارزبورغ في 08/11/2001 ودخل حيز التنفيذ في 01/20/2004 المصدرالموقع الإلكتروني لمجلس أوروبا:

www.coe.int/en  

[5] Article 706-71 du code de procédure pénale Modifié par Ordonnance n 2016-1636 du 1 er  décembre 2016-art4. www.legifrance.gouv.fr

[6] حسان التوكابري، عضو الهيئة الوطنية للمحامين بتونس، تصريح إعلامي بموقع

www.babnet.net

[7] كمال الحامدي، المحامي بتونس،تصريح إعلامي لموقع “الشاهد”

www.achahed.com.

[8] تصريح إعلامي لإداعة موزاييك فم بتاريخ 30/04/2020

www.mosaiquefm.net.

[9] ADAGES Classiques formules juridiques en Latin /Professeur Jean Paul Doucet (www.ledroitcriminel.fr)

انشر المقال

متوفر من خلال:

استقلال القضاء ، مقالات ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، مجلة تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني