“اللائحة الرمادية” ومذكرات التوقيف تضيّق خيارات السلطة: لا بديل عن الإصلاح وإقالة سلامة


2023-05-25    |   

“اللائحة الرمادية” ومذكرات التوقيف تضيّق خيارات السلطة: لا بديل عن الإصلاح وإقالة سلامة
رسم رائد شرف

منذ أربع سنوات، لم تحرّك السلطات ساكناً لمواجهة التدهور المستمر في سعر صرف الليرة، الذي انعكس سلباً على كل نواحي حياة المقيمين في لبنان. أما الرهان على التطبيع مع الأزمة، الذي سبق أن سوق له حاكم المصرف المركزي رياض سلامة، عندما كان سعر الدولار لا يزال ب4000 ليرة، بقوله “بكرا الناس بيتعوّدوا وما حدا بيموت من الجوع” فقد تحوّل إلى نهج تتبعه السلطة وتراهن عليه.

لكن يبدو أن هذا النهج لم يعد ممكناً تسويقه في عواصم العالم ومنظماته، التي كلما تلكأ الداخل اللبناني عن القيام بدوره، كلما زاد دورها، إلى درجة تحوّل لبنان من مبادر مفترض إلى محاكمة سلامة إلى متلقّ لمذكرات التوقيف الأجنبية بحقّ حاكم مصرفه المركزي بتهم تبييض الأموال والاختلاس، ما اضطره إلى التحرك أخيراً، ليس لتحريك الدعاوى الداخلية المسارة ضده، بل للتحقيق معه في التهم المنسوبة إليه في فرنسا ولاحقاً في ألمانيا. تلك الدعاوى فرضت على لبنان الرسمي أجندة جديدة صعّبت مهمة حماية سلامة، بحجج مختلفة لا يزال يُسمع صداها حتى اليوم. ولعل أبرزها ما سبق أن قاله رئيس المجلس النيابي نبيه بري، في حزيران 2020، عن “أننا بحاجة اليوم لكل الناس وليس للاستغناء عن الناس”. استمرّ مفعول هذه القاعدة طويلاً، بالرغم من أنّ عدم الاستغناء عن سلامة، المسؤول الأول عن السياسة النقدية، لم يجلب سوى المزيد من الانهيار، حتى وصل سعر صرف الدولار الواحد إلى 150 ألف ليرة قبل أن يتراجع إلى نحو 100 ألف ليرة، بدلاً من ال3200 ليرة التي كان وعد بها بري أيضاً.

خلال هذه السنوات، لم يتغير شيء في السياسة النقدية وفي سياسة تحميل الناس مسؤولية الخسائر من خلال التضخّم المُفرط. حتى الاتفاق المبدئي مع صندوق النقد الذي كان أحد جوانبه تثبيت سعر الصرف عند 20 ألف ليرة، انتهى مفعوله بسبب مراوغة الحكومة والمجلس النيابي، ورفض الالتزام بالإصلاحات التي طلبت، وأبرزها إعادة هيكلة القطاع المصرفي. إذ فضّل المعنيون ترك الناس تتحمل مسؤولية الانهيار، بدلاً من أن تتجه إلى خيارات أكثر عدالة ولكن مؤلمة لها، كأن يتحمل أصحاب المصارف وكبار المودعين المسؤولية من أموالهم. 

اقتصاد الكاش أبرز التحدّيات

في ظل هذا الواقع، جاء كشف وكالة “رويترز” عن وضع “مجموعة العمل المالي” (Financial Action Task Force) للبنان في اللائحة الرمادية للدول غير المتعاونة في مجال مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب ليزيد من الضغط على السلطة الرافضة لأي إصلاحات. المجموعة المعروفة باسم FATF بالإنكليزية وباسم GAFI بالفرنسية، كانت أنشئت في العام 1989 من قبل G7 وكانت مهمتها في البدء مكافحة تبييض الأموال قبل أن تتوسع في العام 2001 (بعد الهجوم على مركز التجاري العالمي في نيويورك) لتشمل مكافحة الإرهاب. وبحسب معلومات موثوقة، فإن التقييم الذي أجرته المجموعة يعتمد 49 معياراً يُحدد على أساسها مدى التزام الدول بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، وهي تتعلق بشقين أساسيين:

  • تقييم تقني يتناول مدى كفاية النظام القانوني والتنظيمي ومدى مواكبته للمبادئ العالمية.
  • تقييم عملي يتناول مدى تطبيق هذه الأنظمة والمبادئ. وهو يأخذ الحيّز الأهم من التقييم، ويتناول مدى التزام القطاعين الخاص والعام بالقوانين والأنظمة المرعية، ولاسيما منها الجهات المعنية بمكافحة تبييض الأموال (يُسمى هؤلاء Gatekeepers)، مثل: هيئة التحقيق الخاصة، هيئة الأسواق المالية، الجمارك، قوى الأمن الداخلي، كتاب العدل، المحامون، تجار المجوهرات، الكازينو، والوسطاء العقاريون… علماً أن هيئة التحقيق الخاصة هي المعنية بالتنسيق مع المجموعة في لبنان.

بخلاف ما يتردد، فإن اللائحة الرمادية لا تعني أي تغيير في تصنيف لبنان الائتماني. كما لا تعني أن البنوك المراسلة ستتوقف عن التعامل معه. الوجود على هذه اللائحة أشبه بجرس إنذار وهو يعني أن الدولة المعنية لا تقوم بإجراءات كافية للحدّ من تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، وبالتالي يتوجّب عليها تفعيل عملها، إن كان على صعيد التشريعات أو على صعيد تنفيذ التشريعات الموجودة في سبيل الخروج من المنطقة الرمادية. وبشكل آخر، يعتبر البعض هذا التصنيف بمثابة فرصة لبنان لتسريع الإصلاحات المفترض القيام بها، لأن البديل سيكون الانتقال إلى اللائحة السوداء مع ما يسببه ذلك من صعوبات كبيرة على لبنان لكي يستمر جزءاً من النظام المالي العالمي (تضم اللائحة السوداء حالياً كوريا الشمالية وإيران وميانمار).

وفيما صار صدور التقرير هو مسألة وقت لا أكثر، بعدما تم التأكد من نتيجة التقييم، يُتوقع أن تزيد البنوك المراسلة من تشددها حيال التعامل مع لبنان، خاصة لجهة زيادة مستوى المخاطر، وبالتالي التدقيق أكثر في المعاملات وزيادة كلفتها على المصارف اللبنانية، من دون يعني ذلك التوقف عن التعامل معه.

لا نقاش لدى المطّلعين على الملف أنّ النقطة الأسوأ التي ساهمتْ في الوصول إلى هذا التقييم تتعلق بزيادة حجم اقتصاد الكاش، وهو اقتصاد لا يمكن تعقبه ويشكل أبرز معالم القلق الدولي، خاصة بعدما وصلت نسبته إلى ما يوازي نصف حجم الاقتصاد وقدّره البنك الدولي بـ9.9 مليار دولار في العام 2022، معتبراً أنه نتاج فشل النظام المصرفي وانهيار العملة وغياب السياسات المناسبة لإدارة الأزمة وعدم الوصول إلى خطة شاملة ومنصفة. وعلى المنوال نفسه سار صندوق النقد الدولي الذي وصف مراكز القرار في لبنان بـ”اللافاعلة”، محذراً من الدولرة ومن ارتفاع وتيرة الأنشطة غير المشروعة.

وتجدر الإشارة إلى أن لبنان سبق أن وُضع على اللائحة الرمادية بسبب النقص في التشريعات التي تساهم في مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. إلا أنه سرعان ما تمكن من الخروج منها بعدما أقرّ المجلس النيابي عدداً من التشريعات والأنظمة المصرفية التي تصبّ في هذا الاتجاه، وأبرزها قانون مكافحة تبييض الأموال الذي أقر في العام 2001، وعدل في العام 2015 ليشمل مكافحة تمويل الإرهاب. 

اللائحة الرمادية فرصة للإصلاح؟

الدولرة واقتصاد الكاش لا شك ساهما في التوصل إلى تلك الخلاصة في التقرير المتوقع صدوره الشهر المقبل، لكن معايير التقييم تطال أيضاً الحوكمة في مصرف لبنان، والتأكد من أن كل العناصر تعمل بفاعلية. وعليه، فإن مصدر مطلع على مسار التقييم يعتبر أن جمع شخص واحد للسلطات لا يفيد في هذا المسار، لا سيما لناحية تولي حاكم مصرف لبنان مهامّ تنفيذية واسعة في المصرف وفي الوقت نفسه مهامّ رقابية من خلال ترؤسه هيئة التحقيق الخاصة.

بعيداً عن تفاصيل ومضار وضع لبنان على اللائحة الرمادية، يصر رئيس لجنة الامتثال في جمعية المصارف الدكتور شهدان الجبيلي على التعامل مع التقرير بإيجابية، معتبراً أن ما حصل قد حصل ولا ينفع اليوم البحث في الأسباب. فالأهم هو أن يكون لدينا الكثير من الجدية والدعم لنأخذ التقرير كفرصة لإصلاح كل النقاط التي تحتاج إلى إصلاح. ويذكر أن المجموعة تُقدّم المساعدة التقنية لكن يجب مواكبتها بقرار رسمي يُحدّد إلى أي مدى نريد أن نتطور ونواكب الركب العالمي. ويوضح جبيلي أن كل الدول تملك نواقص إن كان في تشريعاتها أو في الممارسة. ولذلك على سبيل المثال، تضم اللائحة الرمادية، وتسميها المنظمة أيضاً لائحة الدول التي تخضع لمراقبة إضافية، الإمارات والأردن وتركيا واليمن وجنوب إفريقيا والمغرب…لكن الفارق بين دولة وأخرى هو حجم هذه النواقص. وعليه فإن التقرير هو بمثابة التشخيص وعلينا نحن أن نسعى إلى العلاج، الذي لا يزال متاحاً. والأمر نفسه يشدد عليه المحامي كريم ضاهر، محذراً من أنّ عدم التعاون مع المجموعة سيؤدي إلى أزمات إضافية تطال كل اللبنانيين. لذلك، يؤكد أن لا بديل عن التعاون معها تمهيداً لخروج لبنان منها في أسرع وقت ممكن، خاصّة أن هذا التصنيف قد يمنع صندوق النقد من دعم لبنان.

“الحكومة تكذب”… لتجنب إقالة سلامة

في المقابل، يصف محام دوليّ متخصص في القضايا المصرفية طلب عدم الكشف عن إسمه أن إدراج لبنان على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالية هو عامل إضافي في مساره الانحداري. وسيؤدي إلى زيادة التدقيق في التحويلات المصرفية، من دون أن يعني ذلك إيقاف التحويلات أو منعها، وهي الرئة التي يتنفس بها البلد. لكن هذا التدقيق قد يؤدي إلى تأخير وصولها وربما زيادة كلفتها، كما سيؤدي إلى تأخّر موافقة المصارف المراسلة على فتح الاعتمادات للاستيراد. ويعتبر أن خطأً فادحاً ترتكبه الحكومة يتمثّل في استمرار المراوغة في حسم مصير رياض سلامة، وهو الأمر الذي يؤثر سلباً على سمعة لبنان وعلى تعامل المؤسسات المالية معه. ويرفض ما يقال عن عدم إمكانية إقالته من منصبه في ظل عدم وجود حكم مثبت، موضحاً ان المادة 19 من قانون النقد والتسليف تشير إلى 4 أسباب للإقالة:

  • العجز الصحي المثبت.
  • الإخلال بالواجبات الوظيفية.
  • الجمع بين وظيفته في مصرف لبنان ووظائف أخرى أو أي نشاط في أية مؤسسة مهما كان نوعها أو أي عمل مهني سواء كان مأجوراً أم غير مأجور.
  • الخطأ الفادح في تسيير الأعمال.

وبالتالي، يبدو جلياً أن الإيحاء بأن القانون لا يسمح بإقالته من دون وجود حكم قضائي يثبت إخلاله الوظيفي هو حجة غير متينة، تقترن بالإصرار على تجاهل قدرة الحكومة على اتهامه بارتكاب خطأ فادح في تسيير الأعمال، علماً أن تحديد الخطأ هو قرار يمكن أن تصدره الحكومة باستنسابية مطلقة (كذلك يمكن اعتبار علاقته بشركة فوري عملاً موازياً لعمله في مصرف لبنان ويتضارب معه أيضاً). وبالتالي يقول المصدر: ألا يكفي لإقالة حاكم مصرف لبنان أنه يترأس أكبر تفليسة في العالم ومدعى عليه في بلده وملاحق في ست بلدان وعليه مذكرتي توقيف في ألمانيا وفرنسا (استجوبه القاضي عماد قبلان بموجب النشرة الحمراء الصادرة عن الانتربول وقرّر منعه من السفر). أما الإشارة التي بدأ يسوّقها سلامة عن وجوب محاكمة السياسيين، فهذا كلام حق يراد به باطل. فأن يكون هؤلاء مشاركين في الجرم لا يعفيه من شبهات ارتكاب جرم.

كل ذلك لم يصل إلى مسامع أغلب الوزراء الذين لا يزالون يصرّون على حماية سلامة بحجج واهية وصلت إلى حد احتساب عدد الأيام المتبقية على ولايته بعد حسم أيام العطل وأيام نهاية الأسبوع، تمهيداً للقول إنّه لم يبق له أكثر من أسبوعين، وبالتالي لا داعٍ لإقالته قبل نهاية ولايته. لكن هذا الكلام وجد من يرفضه من بين الوزراء، ولاسيما نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي الذي أصر على وجوب إقالته حتى لو بقي له يوم واحد في منصبه، في ظل ملاحقته قضائياً، منعاً لتأثير هذه الملاحقات على سمعة لبنان، ومنعاً لتوسع حالة المقاطعة الأجنبية للنظام المصرفي اللبناني. كذلك أكد الوزير هكتور حجار أنه كان يُفترض أن يعزل سلامة من منصبه قبل وقت طويل، ليكمل موقفه بتغريدة رد فيها على تفسير كلامه بأنه لم يعد مهماً إقالته في الأيام الأخيرة من ولايته، بالقول: أنا هيكتور نجيب حجّار مع إقالة ومحاكمة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة.

في المقابل، أبدى الوزير علي حمية رفضه لإقالة سلامة في مجلس الوزراء، مشيراً إلى أن الموضوع “لدى القضاء اللبناني، فالمسألة ليست طابات ولا تراشق للكرة”. وفي هذا الصدد، اعتبر وزير العدل هنري خوري أن ال40 يوماً المتبقية لسلامة لا تكفي لإصدار قرار بحقه، داعياً مجلس الوزراء إلى إقالته. وقد أشارت مصادر مشاركة في الاجتماع الوزاري الذي عقد في السرايا الحكومي أن خوري اقترح أن تتم إقالة سلامة، بغض النظر عن السند القانوني (كان خوري تساءل إن كان لا يكفي ملاحقته من القضاء الأجنبي لاعتباره مخلاً في واجباته الوظيفية)، انطلاقاً من أنه حتى لو طعن أمام مجلس الشورى، فلن يصدر القرار قبل انتهاء ولايته. وفيما استغربت المصادر هذا الموقف، أصدر المكتب الإعلامي لرئاسة الحكومة بياناً دعا فيه التيار الوطني الحر “وعبر وزيره الناطق بالعدل أن يعطينا رأياً قانونياً يسمح باتخاذ التدابير المناسبة بحق حاكم مصرف لبنان خلافاً لما أدلى به في اللقاء التشاوري”. في المقابل، قدّم وزير المالية يوسف خليل مطالعة وصفت بالقانونية خلص فيها إلى أنه، بوصفه وزير الوصاية على مصرف لبنان، لن يتقدم بطلب لإقالة الحاكم أمام مجلس الوزراء. وقد انتهى النقاش عند حدود إشارة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي إلى عدم إمكانية جمع ثلثي عدد الوزراء لاتخاذ القرار بشأن سلامة. فهل فعلاً أقفل ملف إقالة حاكم مصرف لبنان؟

انشر المقال

متوفر من خلال:

مصارف ، قرارات قضائية ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني