العمل في مصرف: الوظيفة – الحلم التي تحوّلت إلى كابوس


2022-01-31    |   

العمل في مصرف: الوظيفة – الحلم التي تحوّلت إلى كابوس
الرسم لرائد شرف

لطالما كان العمل في مصرف بمثابة الوظيفة الحلم لكونها وظيفة مرموقة راتبها جيّد لا يقتصر على أشهر السنة الـ12 بل تضاف إليه رواتب 4 أشهر إضافية فضلاً عن تقديمات اجتماعيّة للموظفين كالمنح الدراسية والتأمين الصحي وغيرها. ولكن بعد أن كان موظف البنك “محسوداً”، أصبح اليوم في وضع لا يحسد عليه مع استفحال الأزمة المصرفية والنقدية التي أطاحت بهذا الاستقرار الوظيفي وحوّلته إلى نقمة على آلاف العائلات التي تقتات من مداخيل أفرادها العاملين في المصارف بعد أن أصبحت رواتب الموظفين في المصرف من مدير الفرع إلى موظف الصندوق مثلها مثل راتب أي موظف آخر يقبض بالليرة، حفنة من الأوراق تتراجع كلّ يوم قدرتها على الشراء وإن كان بعضهم يقبض جزءاً من رواتبهم على سعر صرف 3900 أو بالدولار.  

ولم يكفِ موظفي المصارف انهيار قيمة رواتبهم ومواجهة غضب الناس، حتى استهدفتهم موجات صرف كبيرة طالتْ موظفين اقترب وقت تقاعدهم وآخرين خسروا وظائفهم نتيجة تراجع أنشطة المصارف وإقفال أقسام بحالها أو فروع لها بهدف تخفيض نفقاتها. ومن بقي في العمل في الفروع المصرفية انحصرتْ مهامه الوظيفية بوظائف الكونتوار، تسليم مال وتقاضي أموال من عملاء المصرف فضلا عن مواجهة غضب المودعين الذين خسروا ودائعهم.

وكان الصّرف في البداية يحصل جماعياً لكن سرعان ما غيّرت المصارف استراتيجيّتها لتحوّله إلى صرف على شكل مجموعات صغيرة أو صرف فردي تفادياً لتحوّل الصرف إلى معركة جماعية يخوضها المصروفون ضدّها. وتفاوتتْ قيمة التعويضات بين مصرف وآخر وتراوحت بحسب رئيس اتحاد نقابات موظفي المصارف في لبنان جورج الحاج بين مجموع رواتب عامّ وعامّين بحسب تصريح له في أيّار الماضي، ومنها منح تعويضات مقبولة حرمت المصروفين في المقابل من إمكانية التصرّف بها بشكل حرّ بعد أن لجأت إلى تقسيطها بدلاً من منحها دفعة واحدة. 

وإذ لفت الحاج في حديث إلى “المفكرة” إلى أنّه في الوقت الحالي لا يوجد إحصائيات محدّثة عن حجم الصرف الذي يحصل في المصارف أو عدد المؤسسات أو قيمة التعويضات التي تمنح للمصروفين، إلّا أنّه يرجّح أنّ عدد المصروفين منذ بداية الأزمة حتى الآن، ناهز الـ 4500 أجير من مجموع العاملين في المصارف الذي يبلغ 24,886، (أي حوالي 18%). ولا يخسر الموظف راتبه فقط بل أيضاً التأمين الصحّي الذي هو بأمسّ الحاجة إليه في ظلّ الغلاء الهائل للاستشفاء، خصوصاً إن كان من الموظفين كبار السن الذين استهدفهم الصرف. كما يعني ذلك أيضاً خسارة نحو 100 ألف فرد لمصادر دخلهم وليس فقط الموظف نفسه الذي غالباً ما يكون معيلاً لأسرته. ذلك عدا عن أنّ الصرف من العمل يأخذ المصروفين إلى مصير مجهول، ففرص العمل شبه مستحيلة في القطاع المصرفي في لبنان ويكون على الموظف البحث في قطاعات أخرى ليست أفضل حالاً أو البحث خارج لبنان. 

من وظيفة مستقرّة إلى أمان مفقود

شهدت وظيفة موظّفي المصارف تحوّلاً جذرياً في العامين الأخيرين. فقد توقفت أقسام عدّة عن العمل كلياً، فتلك التي كانت مخصّصة لجذب الاستثمارات ومنح القروض وتطوير العمل وتحقيق الأرباح وترغيب العملاء بالخدمات المصرفية باتت زائدة عن الحاجة. وعند بداية القيود المصرفية في تشرين الأول 2019 تحوّلت المهام الوظيفية لموظفي المصارف حصراً إلى التعامل مع المودعين الّذين فوجئوا بالقيود المصرفية على ودائعهم.

سامر (اسم مستعار) عمل في القطاع المصرفي في لبنان لنحو ستّة عشر عاماً طوّر خلالها مهارات في مجال تطوير الأعمال وجذب الزبائن ومنح القروض، وجد مهامه الوظيفية عند بداية الأزمة الاقتصادية تتحوّل إلى الاستجابة للأزمة. يقول في حديث مع “المفكرة القانونية” من الدوحة حيث انتقل للعمل مؤخراً، إنّ “عملي أصبح منحصراً ببعض المهام وما كنت أقوم به في السابق انتهى كلياً، فانتقلت مهامي من جذب زبائن جدد إلى محاولة المحافظة على الزبائن الحاليين بخاصّة بعدما انهارتْ الثقة كلياً بين العملاء والمصارف”. ويضيف: “أصبح عليّ أن أتواصل يوميًا مع الزبائن المقترضين للتأكيد عليهم على دفع الكمبيالات الشهريّة، والرد على شكاوى المتّصلين على الهاتف للاستيضاح عن مصير ودائعهم، وأصبح معظم العمل الذي نقوم به في المصرف هو ‘تسحيب’ المودعين ودائعهم”. ويلفت إلى أنّ “عملية سحب الودائع جعلت الموظف تحت ضغط نفسي كبير، بخاصة أنّ المصارف في البداية وضعت سقوفاً على تسليم الودائع بالدولار قبل أن تتوقّف كليّاً عن ذلك وتستعيض عنه بتسليم الودائع بالليرة اللبنانيّة وفقاً لسعر المنصة التي يحدّدها المصرف المركزي”.  

كانت بداية هذه المرحلة شديدة الصعوبة على موظفي المصارف، بخاصّة وأنّ الفروع المصرفية شهدت احتجاجات بوتيرة عالية على أبوابها وانتقلت حدّة الغضب الشعبي من الاعتصام أمام المصرف أو داخله إلى حدود تكسير المصارف وأحياناً حرقها. ويشرح سامر أنّ الضغط كان هائلاً على الموظفين، بخاصّة حين يكون الموظف في موقع نقل المعلومة للمودع وإعلامه أنّه لا يمكن تسليمه أمواله فيضطرّ لتلقّي ردّة فعله. ويُشير سامر إلى أنّ عدداً من الموظفين “قرروا ترك العمل فقط لعدم قدرتهم على تحمّل هذا الواقع”. 

من جهة ثانية، لم تكن هذه هي الأسباب الوحيدة ليأس جزء من الموظفين بحسب سامر. ف “الموظف المصرفي كان يحسب نفسه يعمل في وظيفة مرموقة أو ‘مرتبة’، وكان صاحب امتيازات بدءاً من البدلة الرسمية التي يرتديها إلى الأمان الاجتماعي والاستقرار المعيشي الذي ينعم به وهذا كلّه انتفى مع انهيار الليرة كما أصبح الموظف يوصف بالسارق من قبل بعض المودعين الغاضبين”. ويُضيف: “يقولون أيضاً إنّ الموظف المصرفي محسود كونه يتقاضى ستّة عشر شهراً بدلاً من 12 في السنة، لكنني لا أعتقد أنّ ذلك يستدعي الحسد. فلو كنّا قبل عشرين عاماً كان ليعدّ ذلك امتيازاً كون القطاع المصرفي في لبنان كان يمنح أفضل الرواتب، لكن لاحقاً بدأ القطاع الخاص في لبنان ينتعش. فلو اقتسمنا مجموع رواتب الـ 16 على 12 شهر، سنجد أن الموظف المصرفي يتقاضى أقل من أي موظف آخر في أي شركة خاصة أخرى”. 

أساليب صرف مختلفة وتعويضات مختلفة وبالقطّارة

ليست المتغيّرات الوظيفية وحدها التي أدّت إلى تراجع أحوال الموظفين في المصارف، فقد استهدفتهم موجات صرف خسّرتهم مصادر رزقهم في بلد لم تعد فيه فرص العمل متاحة كما في السابق ومستحيلة في القطاع المصرفي.

واختلفتْ أساليب صرف الموظّفين بين الصرف التعسّفي وما سمّي “استقالة طوعيّة” بدأت المصارف بعرضها على الموظفين من خلال ترغيبهم بالاستقالة مقابل تعويضات وضعت وفقاً لعدد سنوات الخدمة (كنوع من بروتوكول يختلف مضمونه بين مصرف وآخر). ولجأت بعض المصارف إلى إلغاء ديون المصروفين في حال كانوا قد استدانُوا قرضاً منها كجزء من البروتوكول. وذهب البعض الآخر إلى اعتماد نظام التقاعد المبكر. وهذا ينطبق على كبار السن الّذين اقتربوا من سن الـ 64. 

وقلّصت بعض المصارف أعداد الموظّفين من دون معايير موحّدة لتحديد الفئات التي يتمّ صرفُها. كما لم تعتمد آلية موحّدة لمنح موظّفيها المصروفين، بحسب الحاج. واختلفتْ قيمة التعويضات بين مصرف وآخر، وتراوحتْ قيمتها بين مجموع رواتب عام كامل ورواتب عامّين بحسب تصريح له في أيّار الماضي، علما أن هذه التعويضات لا يتقاضاها المصروفون دفعة واحدة، بل تفتح المصارف لهم حساباً بالدولار الأميركي وتسمح لهم بسحبها على سعر صرف 3900 ليرة للدولار الواحد قبل أن يحدد مصرف لبنان سعراً جديداً للمنصة مؤخراً على 8000 ليرة للدولار. ولا يوجد لدى الحاج معطيات حول ما إذا كانت المصارف ستعتمد هذا السعر لدفع الرواتب لاحقاً. ولكلّ مصرف قيود على سقوف السحب، ما يعني أنّ الموظف يبقى رهينة المصرف الذي يتحكّم بأمواله ويحرمه من الاستفادة منها بحرية تامّة. وعلى غير عادة، لجأتْ بعض المصارف إلى تطبيق المادة 50 من قانون العمل، أي الاكتفاء بمنح تعويض من شهرين إلى 12 شهراً مثل مصرف حبيب ليميتيد. 

ونظراً لكل هذه المعطيات، يقول الحاج إنّ “اتحاد النقابات عرض خلال اجتماع مع مسؤولي الموارد البشريّة في المصارف تنفيذ صيغة موحّدة لإجراءات الصرف (18 راتباً كتعويض صرف، وراتب شهرين عن كل سنة خدمة) تراعي الظروف الاقتصاديّة وأشرنا إلى جهوزيّتنا للتفاوض على هذه الصيغة”. وطلب الاتحاد وفقاً للحاج “الأخذ بالفقرة واو من المادة 50 من قانون العمل التي تلزم المؤسّسة التشاور مع وزارة العمل قبل إجراءات الصرف، ومن جهة ثانية استبعاد المادة 50 لناحية قيمة التعويضات بسبب الظروف الاقتصادية”. لكنّ الحاج يؤكّد أنّ “عدد المصارف التي تجاوبت معنا لم يتعدّ ستّة مصارف”. وبالنسبة للمصارف التي أبلغت وزارة العمل رغبتها في التشاور، فبلغ عددها فقط أربعة مصارف. 

ويشرح الحاج أنّ اتحاد نقابات موظفي المصارف وبعدما وجد أنّ اقتراحاته لم تصلْ إلى نتيجة مع جميع المصارف، ذهب إلى تقديم اقتراح قانون لمجلس النوّاب هدفه تعديل المادة الرابعة من قانون دمج المصارف، بهدف تحسين قيمة التعويضات التي تمنح للمصروفين من العمل في حال حصول أي عملية دمج للمصارف. وتبنّت اقتراح القانون كتلة “الجمهوريّة القويّة” والمقترح اليوم موجود في لجنة الإدارة والعدل ولم يحرز النقاش حوله أيّ تقدّم ملحوظ بعد. ويلحظ التعديل المقترح دفع رواتب 18 شهراً مقطوعة، وراتب شهرين عن كل سنة خدمة لغاية 36 سنة، وأجر مدّة الإنذار القانوني كما نصت عليه المادة 50 فقرة ج من قانون العمل بالإضافة إلى المستحقات المنصوص عليها في المادة 30 فقرة 2 من عقد العمل الجماعي. 

وعلى خطٍّ موازٍ، يطالب اتّحاد نقابات المصارف بتعديل عقد العمل الجماعي الذي أنشئ عبر اتفاق بين اتحاد نقابات موظفي المصارف وجمعيّة المصارف على أن يجري تعديله كلّ عامين. ومنذ مطلع العام 2021 انتهت مدّة عقد العمل الجماعي الأخير، إلّا أنّ المفاوضات على تعديله لم تصلْ إلى خواتيمها بعد بين النقابات والمصارف، ويشير الحاج إلى أنّ الاتحاد يطمح إلى تعديل موادّ عدّة من عقد العمل الجماعي وإضافة مادة تتيح منح تعويضات عادلة للموظفين في حالات الصرف على أن تكون بديلاً عن عمليات التفاوض. لكن بحسب الحاج، “هناك خلافات على بعض الأمور، فيما أنّ الظروف العامّة في البلاد لم تسمح بعد في التقدّم في عملية التفاوض بين الاتحاد والمصارف”. 

“وفي الحالات التي يلجأ فيها الموظفون إلى النقابة غالباً ما يتقدّم الموظف المصروف بشكوى لدى وزارة العمل خلال المهلة القانونية وهي شهر واحد (علماً أنّ مهلة الشهر هي لتقديم دعوى الصرف التعسفي أمام مجلس العمل التحكيمي والشكوى لدى وزارة العمل لا تقطع هذه المهلة)، و تدخل النقابة على خط التفاوض لدى الوزارة لتحسين شروط التعويضات وضمانة ألّا يتم الاكتفاء بما تنص عليه المادة  50 من قانون العمل أي التعويض بقيمة راتب شهرين إلى اثني عشرة شهراً”، بحسب ما يوضح الحاج. 

خسارة آلاف الوظائف مع امتيازاتها

يلفت الحاج إلى غياب أي إحصاء دقيق لحالات خسارة الوظائف لأسباب عدّة منها أنّ المصارف لا تسلّم هذه المعلومات. هذا عدا عن أنّ عدداً قليلاً من الموظفين المصروفين يلجأ إلى النقابة كما وانخفاض نسبة توجّه الموظفين لتقديم شكوى لدى مجلس العمل التحكيمي لفقدانهم الأمل من إمكانية إنهاء قضيتهم في مهلة زمنية معقولة، بخاصّة وأنّ الملفات في هذا المجلس تأخذ سنوات لتصل إلى حكم يضمن تعويضات مقبولة للموظف قبل أن تفقد قيمتها. 

إلّا أنّ الحاج، يرجّح أن يكون عدد من فقدوا وظائفهم في العامين الأخيرين في القطاع المصرفي 4500 شخصاً أي حوالي 18% من مجموع الأجراء البالغ  24,886 أجيراً وأجيرة.

 ويعني ارتفاع عدد الوظائف التي فقدت في العامين الأخيرين، بحسب نائب الأمين العام لاتحاد موظفي المصارف أكرم عربي خسارة مداخيل آلاف المستفيدين من رواتب وامتيازات موظفي المصارف، أي نحو 100 ألف فرد. 

إلّا أنّ عربي يشدد بدوره على أنّ “الموظف الذي يخسر وظيفته، لا يخسر راتبه فحسب، بل هناك خسارة على مستوى الضمان الاجتماعي والمنح التعليمية والتأمين الصحّي”. ويضيف “لمسنا توجّهاً لدى المصارف إلى صرف كبار السن، وهؤلاء من الّذين اقترب تاريخ تقاعدهم، وإن كانوا من جهة مستفيدين من الصرف لناحية توفير بعض الأعوام من العمل والتقاعد باكراً إلّا أنّهم كغيرهم من المصروفين خسروا التأمين الصحّي الذي يحتاجونه أكثر من غيرهم كما أنّ التعويضات التي يحصلون عليها تُدفع لهم بالتقسيط”. (وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض المصارف ضمنت للمصروفين استمرارية التأمين الصحي لعام واحد فقط على نفقتها).

بروتوكول ولا مجال للتفاوض

تقول سامية التي عملت في مصرف BBAC لنحو عشرين عاماً، لـ “المفكرة”: “قبل أشهر وضعتْ إدارة المصرف لائحة بعشرات الموظّفين لصرفهم، وكان إسمي على اللائحة”. توصّلت المفاوضات بين النقابة والمصرف إلى حلّ بخروج الموظفين من العمل والتعويض لهم راتب شهر كامل عن كلّ سنة عمل، وشهور إنذار وفقاً لكلّ مدّة عمل قضاها كلّ موظف في المصرف. تقول سامية: “المفاوضات بين النقابة والمصرف أدّت إلى تحسين قيمة التعويضات قليلاً كما واستمرارية التأمين الصحّي لعام واحد على نفقة المصرف، فيما الأعوام اللاحقة على نفقة الموظف”. وتضيف: “كما لنا الاستمرار في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي الاختياري”. 

ولكن سامية لم تكن ترغب في ترك العمل حسبما تقول: “في البداية رفضت العرض الذي قدّمه المصرف. لكنّ الرد كان أنّه ليس لدي خيار آخر”. تتابع: “وحين تدخلت نقابة موظفي المصارف للتفاوض مع المصرف، لم تتطرّق المفاوضات لمسألة منع الصرف، أي أنّ النقابة لم تتصدّ لعملية صرف الأشخاص الّذين يرغبون في الاستمرار في العمل”. 

تشرح سامية: “كنت أرغب في البقاء في العمل، لأنّ استمرارية العمل هو الظرف الأنسب من تركه، فالتعويضات محجوزة لدى المصرف”. هذا يعني بالنسبة لسامية أنّها لا تملك حرية التصرّف بتعويضها، “لو أعطوني التعويض بشكل كامل كنت أقلّه قد اشتريت فيه دولار وتركته معي لأنني بهذه الطريقة سأضمن استمراريته لوقت أطول، أو أقلّه كنت سأفكر في أن استثمر به، لكنّي الآن لا يمكنني أن أفعل شيئاً به”. 

معيار الصرف هو التوفير وليس الكفاءة

رامي عمل 32 عاماً في مصرف BBAC وصُرف من العمل وهو في سنّ الخمسين. “ترّكوني الشغل وأنا في عزّ عطائي، لديّ خبرة قيّمة لكنّ المصرف كان هدفه تقليص عدد الموظفين وبخاصّة الذين لديهم سنوات عالية من الخدمة، بدلاً من الحفاظ عليهم نظراً لكفاءاتهم”. ويُضيف: “لم يعد المصرف يهتمّ بالكفاءة، يهمّه فقط توفير المال، فمن لديه سنوات طويلة من الخدمة هذا يعني أنّ قيمة تعويضه ستكون عالية جداً لو استمرّ في العمل إلى حد سنوات التقاعد”. 

في شهر كانون الثاني 2020، اتّصلت إدارة مصرف BBAC برامي ومعه خمسة موظفين آخرين من الفرع الذي يعمل فيه، وطلبت حضورهم إلى مكتب شؤون الموظفين. يشير رامي إلى أنّه “تمّ إعلامي أنّ هذا آخر شهر لي في هذا المصرف، هكذا بكل بساطة ومن دون منحي حقّ رفض القرار أو مناقشته، 32 عاماً من العمل في هذا المصرف وفي النهاية صرفت بهذه البساطة”. كانت الإدارة قد هيّأت لرامي “بروتوكول” صرفه، فتمّ منحه 32 شهراً كتعويض عن سنوات الخدمة وقام المصرف بتحويلها إلى الدولار الأميركي وسمح بسحبها بالليرة اللبنانيّة على سعر صرف 3900 ليرة، لكنّ المصرف حجز هذه الأموال في حساب خاص لرامي يستطيع أن يسحب منه ثمانية ملايين ليرة في الشهر فقط، أي أنّ أقلّ من 300 دولار أميركي (على سعر صرف 27 ألف ليرة) في الشهر هو المدخول الخاص بالعائلة اليوم. يقول رامي: “لا أستطيع أن أتحكّم بهذه الأموال، لو سمح المصرف بأخذ التعويض كاملاً كان بإمكاني أن أستثمر فيه لكن هذا التقطير الشهري يظلمنا”. يُضيف، “إذا أردت أن أشتري أغراضاً من السوق أقلّه سأدفع 8 ملايين ليرة”. 

لرامي أربعة أولاد، إحْداهم في الجامعة وأخرى تدخل الجامعة في العام المقبل، واثنان لا يزالان في المدرسة. يشرح أنّ ابنته الكبرى ستتخرّج هذا العام من الجامعة وهي في جامعة خاصّة، “لم أرد أن أُغيّر لها الجامعة لأنّها أصبحت في السنة الأخيرة لكنني لا أعلم ما مصير شقيقتها التعليمي، بالتأكيد لن تكون حظوظها كحظوظ شقيقتها الكبرى”. وبالنسبة لرامي، ليس لديه خطة واضحة للتخطيط لمستقبله وعائلته فهو شخص لديه 32 سنة خبرة في المجال المصرفي في قطاع منهار: “شوي مشوّش ومش عارف شو أعمل”. 

تعويض زهيد

تلقّت ليلى (اسم مستعار) اتصالاً في نيسان 2020 من إدارة المصرف الذي تعمل فيه منذ 15 عاماً تطلب منها الحضور إلى مكتب الموارد البشريّة. دخلت ليلى وهي تتوقّع أنّ اسمها أصبح على لائحة المصروفين، لكنّها لم تكن تتوقّع الآلية التي ستعتمدها الإدارة لصرفها. تقول: “لم يتركوا أمامي أيّ خيار آخر سوى ترك العمل، وفاجأوني بقيمة تعويضات زهيدة لقاء 15 عاماً من العمل في المصرف، وهي قيمة ستّة رواتب فقط”. رفضت ليلى العرض وتوجّهت إلى مجلس العمل التحكيمي لرفع دعوى قضائيّة ضد المصرف لكن ظروف المحاكم طيلة العام الفائت بين تعطيل بسبب التعبئة العامّة وإضراب المحامين منعتْ التقدّم بالدعوى. وتدخّلت نقابة موظفي المصارف لمساعدة ليلى على تحصيل تعويضات أفضل، بخاصّة أنّ أيّ تعويض منذ صرفها من العمل قبل عام ونصف لم يعُدْ له القيمة نفسها مع تدهور قيمة الليرة اللبنانيّة. وحتى اللحظة لم تصل المفاوضات إلى نتيجة متقدّمة. 

مرّ نحو عام ونصف منذ خسرت ليلى وظيفتها، وهي تعيش من دون مدخول. تقول: “أحياناً أقوم ببعض الأعمال التي تؤمّن مدخولاً بسيطاً، ولديّ بعض المدّخرات التي بدأت تتضاءل لأنني أستخدمها لأعيش”. تضيف: “لا أعلم أين سأصل في مفاوضاتي مع المصرف لتحصيل تعويضات أفضل، حين بدأنا التفاوض كان الدولار 12 ألف ليرة واليوم بات 24 ألف ليرة” (عند النشر كان الدولار 23 ألفاً). تتابع، “لا أدري ما العمل نظراً لارتفاع أسعار كلّ شيء في السوق، ربطة الخبز تجاوزت عشرة آلاف، وكل المصاريف تجاوزت قدرتي على التحمّل”. 

“حبيب ليميتد” يتخطّى العرف ويكتفي بتعويضات المادة 50

مقابل التسويات التي قامت بها بعض المصارف مع موظفيها، لجأ أحد المصارف إلى نوع آخر من الصرف باعتماد المادة 50 من قانون العمل على خلاف الأعراف. “حبيب ليميتد” هو مصرف باكستاني له فرع وحيد في لبنان وكان عدد موظّفيه لا يتجاوز 15. بدأت بوادر الإقفال تظهر منذ العام 2017 حين فرضت أميركا عقوبات على المصرف، ولكن لم يبلّغ المصرف أي معلومات لموظفيه عن احتمال الإقفال. وبحسب الموظفة السابقة في المصرف أميرة هندي، فإنّ “الموظفين كانوا يسألون الإدارة عمّا إذا كان هناك أيّ توجّه للإغلاق ولكنّ الإدارة كانت تنفي”. أميرة تعتبر أنّ قرار الإغلاق اتّخذ في هذه المرحلة، لكن لم يكن أيّ شيء معلن بعد. 

تروي أميرة التي عملت في المصرف لأربعين عاماً، كيف وصل بهم الحال إلى صرفهم من العمل من دون أي تعويضات تذكر. تقول: كنّا طيلة الوقت نقلق على تعويضاتنا في حال أٌغلق المصرف، رحت أبحث في نوع البروتوكول الذي على المصرف أن يعتمده في حال قرر الإغلاق وصرفنا. لكن المفاجئ أنّه في العام 2021 حين بدأ المصرف بالتصفية، قرّرت الإدارة صرف ثمانية موظفين والإبقاء على خمسة آخرين يعملون على التصفية، ولجأ المصرف إلى تعيين المحامي شربل عون للقيام بالإجراءات المالية، وأرسل المصرف في 1 أيار 2021 طلب تشاور لوزارة العمل قبل إعلام الموظفين برغبته بالصرف مع العلم أنّه لم يكن حائزاً على ترخيص من مصرف لبنان للإغلاق، وقرّر تطبيق المادة 50 من قانون العمل اللبناني التي تنص على التعويض للموظف المصروف من شهرين إلى اثني عشر شهراً.

تلفت أميرة إلى أنّ جلسات الوساطة بدأت في وزارة العمل بحضور رئيس اتحاد نقابات موظفي المصارف جورج الحاج وممثلين عن المصرف، ولم تنجح بعد المفاوضات بالوصول إلى حل يمنح تعويضات عادلة للموظفين المصروفين، مع العلم أنّ وزير العمل مصطفى بيرم تدّخل ودعاهم لاجتماع وآخر المستجدات أنّ الوزير منح المصرف مهلة لإنهاء الملف قبل 25 من هذا الشهر، لكن حتى اللحظة لم يحصل أي تقدم إذ طلب المصرف مؤخراً إمهاله وقتاً إضافياً. منذ أن بدأت الخلافات بين الموظفين وإدارة المصرف، لم يتقاضَ هؤلاء أيّة مداخيل وهم منذ شهر آب ينتظرون حلاً ينصف قضيتهم. 

هل النقابة إلى جانب الموظف؟

يتّهم أحد الموظفين السابقين في مصرف لبنان والمهجر اتحاد نقابات موظفي المصارف في لبنان بأنّه “ينسجم إلى حدّ ما مع إدارات المصارف حيث غالباً ما يقبل بشروطها. فمثلاً حين بدأت التظاهرات الشعبيّة تستهدف المصارف، قرر اتحاد النقابات إعلان الإضراب عن العمل، وهذا الإضراب خدم المصارف أكثر مما خدم الموظفين”. ويعطي مثالاً آخر على ما يراه انسجاماً بين الطرفين بأنّ “النقابات تصدّت للخطة الاقتصاديّة التي تقدّم بها رئيس الحكومة السابق حسّان دياب وهي خطّة كانت ستحمّل المصارف جزءاً من الخسارة، لكنّ النقابة رفضتْها لأنّها ستمسّ برساميل المصارف”. كما انتقد الموظف عدم تصدّي النقابات لرفضّ بعض المصارف انتساب موظفيها إلى نقابة موظفي المصارف، مضيفاً: “حين تقدمت للوظيفة وخلال المقابلة سألت عن الانتساب للنقابة وأجابوني بأنّه لا داعٍ للانتساب لأنّ المصرف لديه صندوق تعاضد للموظفين للطبابة والتقديمات الاجتماعية فلا يمكن الانتساب لصندوقين”.  

يرد رئيس اتحاد نقابات موظفي المصارف جورج الحاج على هذا الاتهام مشيراً إلى أنّ اتحاد نقابات موظفي المصارف يقوم بكل ما بوسعه لحماية الموظفين ولم يغلق بابه بوجه أحد، لكنّه من جهة ثانية يحمل الموظف غيابه عن دعم الحراك النقابي قائلاً: “هؤلاء الّذين يتهمونا بالتقصير ماذا فعلوا لدعم الاتحاد ليكون أقوى؟” ويُضيف، “أمّا بالنسبة للإدارات التي تمنع موظفيها من الانضمام إلى النقابات، هذا الأمر أيضاً على الموظف مواجهته، اليوم لم يعُدْ هناك ما يخاف منه الموظف، فالعمل النقابي مصان بالقوانين، واليوم بعد الأزمة الاقتصادية لم يعد هناك ما يخيف الموظف على المواجهة”. ويختم بالقول، “ندافع عن المصارف لتبقى وليس عن أصحاب المصارف، ونحاول التوفيق بين استمرارية المؤسسة وتأمين تعويضات للموظف تمكّنه من الاستمرار أقلّه لعام واحد”. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، مصارف ، إقتراح قانون ، لبنان ، حراكات اجتماعية ، حقوق العمال والنقابات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني