“العدالة الاجتماعية” باتت أثقل في ميزان القضاء: (تعليق على القرار الصادر في 7-9-2012 عن قاضي الأمور المستعجلة في بيروت)


2012-09-10    |   

“العدالة الاجتماعية” باتت أثقل في ميزان القضاء: (تعليق على القرار الصادر في 7-9-2012 عن قاضي الأمور المستعجلة في بيروت)

صدر قرار عن قاضية الامور المستعجلة في بيروت، زلفا الحسن، بتاريخ  7/9/2012، قضى بمنع  صرف أعضاء الهيئة التأسيسية لنقابة موظفي السبينس، وذلك خلال مهلة أسبوعين من تاريخ صدور القرار قابلة للتجديد تحت طائلة غرامة اكراهية قيمتها مئة مليون ليرة لبنانية عن كل مخالفة… ويعتبر هذا القرار رائداً في هذا المجال، اذ انّه يهدف الى حماية مؤسسي النقابات من الصرف التعسفي الذي قد يطالهم في المرحلة التأسيسية الحساسة التي تسبق الاستحصال على الترخيص من وزير العمل والتي قد تطول فترة شهرين من تاريخ التقدم بطلب الترخيص او أكثر في حال الطعن بقرار الوزير[1]. ويساهم هذا القرار في سدّ ثغرة في قانون العمل وبالتحديد في نص المادة 50-(ه)[2]منه التي ينحصر تطبيقها بـأعضاء مجالس النقابات المنتخبين وفقاً للأصول.  فلم يلحظ الحالة التي تسبق الترخيص ونشره في الجريدة الرسمية والتي يكون خلالها المؤسسون عرضة لشتى الضغوطات من أجل حملهم على التخلي عن مطالبهم، كما يتعرضون للصرف التعسفي  بهدف تفكيك النقابة الناشئة[3].وقد صدر هذا القرار في خضّم معركة ضارية بين ادارة شركة سبينس وأعضاء الهيئة التأسيسية للنقابة المذكورة، تعتبر مصيرية بالنسبة الى هذه النقابة بالذات والى الحركة العمالية في لبنان بشكل عام، في ظلّ الانتهاكات المستمرّة لحقوقهم من قبل أصحاب العمل، خاصة وأن الحركة العمالية لم تشهد أي نشاط بارز منذ عقود. وهنا لا بدّ لنا من تحية لهذا القرار القضائي الجريء الذي يبعث بريق أمل لدى القاعدة العمالية ويساهم في اعادة الثقة بالقضاء اللبناني، لننظر الى أبعاده القانونية والاجتماعية في ما يلي.
 
الدور الرائد للقضاء في صيانة الحريات الأساسية وسدّ ثغرات القانون
 
انّ قاضية العجلة من خلال اقدامها على اتخاذ قرار يبتعد عن الاتجاه الليبرالي المحافظ السائد ويرجّح في ميزان العدالة الحرية النقابية على حرية الصرف المعطاة لصاحب العمل، ترسم طريقاً جديداُ في الاجتهاد اللبناني نحو صون العمل النقابي. فاتجه هذا القرار الى ضمان حقوق الطرف الأضعف اقتصادياً، أي الأجير الذي يمارس عملا نقابيا عبر تأسيسه نقابة بوجه شركة تعارضه في هذا الحق وتمسك في قبضتها سلطة صرفه المطلقة وانتزاع لقمة عيشه وعيش عائلته كوسيلة ضغط وترهيب لحمله على التخلي عن نشاطه النقابي… فيأتي القرار حاسما جازما باقراره منع ممارسة حق الصرف بوجه الاعضاء المؤسسين خلال فترة التأسيس ويصون بذلك العمل النقابي الذي يفترض أن يمارس في "اطار سليم ودون اعتراض من أحد"، كما ورد حرفيا في القرار المذكور أي في بيئة عمل سليمة خالية من الترهيب والضغوطات وبعيداً عن الممارسات التعسفية والتخويفية والتمييزية تجاههم من قبل الشركة. كما يبين هذا القرار أن للقضاء دور فعّال في احقاق العدالة الاجتماعية التي نصّت عليها مقدمة الدستور على أنها احدى المرتكزات الأساسية لجمهورية لبنان الديمقراطية. كما له دور رائد في شق الطريق الى الاصلاح التي نصّت عليه وثيقة الوفاق الوطني باتجاه تحقيق هذه العدالة الاجتماعية. فهو حارس للحريات الاساسية وحاميها، ومن بينها الحرية النقابية المكرّسة في القانون وفي المعاهدات الدولية التي التزم لبنان بها والتي يتمتع البعض منها بمرتبة الحقوق الدستورية[4].
 
كما انّ القرار المذكور قد بيّن أن للقاضي دور فعّال وحيوي في سدّ الثغرات المتواجدة في القانون، ولا سيّما قانون العمل اللبناني الذي صدر عام 1946، والذي لم يصر الى تحديثه لغاية اليوم[5]. كما أثبت أنّ دور القاضي يتخطى التطبيق الحرفي والضيّق للنصوص القانونية، فيطال روحية النص والغاية التي بني عليها، خاصة في ضوء مرونة  الصلاحيات المعطاة لقاضي العجلة والتي تمنحه سلطة تقدير واسعة لاتخاذ تدابير احتياطية تجاه أضرار محدقة، خاصة عندما تهدف هذه التدابير الى صون الحريات الأساسية واعادة توازن القوى بحماية الفريق الاضعف اقتصادياُ واجتماعياً وصيانة حقوقه تجاه الفريق الاقوى.
 
دعم الحركة النقابية والتفاعل مع القضايا الاجتماعية المحقّة
 
ان القرار الصادر عن قاضٍ منفرد يبرز أن للقضاء في جميع درجاته دور ايجابي وبناء في التفاعل مع القضايا الاجتماعية المحقّة. فقد أخذ القرار بعين الاعتبار مخاوف أعضاء الهيئة التأسيسية ازاء التدابير الانتقامية والضغوطات التي يتعرضون لها من قبل ادارة شركتهم في المرحلة التأسيسية التي لا يحميهم القانون الوضعي خلالها بشكل كاف. وقد لجأوا الى القضاء كمرجع عادل لصيانة حقوقهم من خلال تدابير احتياطية ومؤقتة ترمي الى حمايتهم من هذه الممارسات التعسفية التي تهددهم وتهدد العمل النقابي المشروع الذي يمارسونه عبر تأسيس النقابة. وهنا لا بد لنا من الاشارة الى مضمون استحضار الاستئناف الذي قدّمه محامي مؤسسي النقابة نزار صاغيه، والذي، اضافة الى كونه درسا متكاملا وموثقا في الحرية النقابية، يشكل نداء حقيقيا باسم هؤلاء المؤسسين ومن خلفهم الحراك العمالي الذي ما يزال في بداياته، استجاب له القضاء بقرار صارم يصون هذه الحرية المقدسة. فيظهر من خلال هذه القضية كيف يتلاقى دور المحامي مع مهمة القاضي، يتعاونان في سبيل صون حقوق الناس والحريات الاساسية في معارك مصيرية كهذه. فيساهم هذا القرار الى دعم هذه البادرة العمالية المميزة التي ولدت جرّاء نضال عمالي انبثق عن مطالب عمالية بحتة بعيدا عن التجاذبات السياسية والمذهبية والزبائنية التي اعتدناها،  وقد شرّعها بوجه ادارة الشركة التي تحاول تجريد هذه الحركة من مشروعيتها، فصورت أعضاءها المؤسسين بأنهم يحاولون من خلال "غطاء نقابي مزعوم" خداع زملائهم وافسادهم وحملهم الى الوقوف بوجه الشركة. فيساهم القرار القضائي بذلك في ارساء الثقة لدى الحركة النقابية الناشئة ما يمهد لعمل نقابي مستقبلي مليء بالوعود.
 
 في النهاية، نأمل بان يكون هذا القرار الرائد في الاجتهاد العمالي، كما وبعض الاحكام المتفرقة الأخرى الصادرة عن قضاة يتمتعون بالاستقلالية والجرأة، بادرة  في نهضة القضاء المؤتمن على السلطة الثالثة في الدولة،  فيواكب الحركات الاصلاحية والتجديدية في المجتمع وينصفها عبر تفاعله مع قضاياه المصيرية المحقة،  فيحظى بثقة الشعب اللبناني الذي يصدر أحكامه باسمه….
 


[1]في حال رفض الوزير منح الترخيص او سكوته، الذي يعتبر بمثابة رفض ضمني، يمكن الطعن بقرار الرفض الصريح ام الضمني بالطريقة الرجائية امام وزارة العمل، ومن ثمّ امام مجلس شورى الدولة.
[2]المادة 50-(ه) من قانون العمل: "خلافاً لأحكام البند الأول من الفقرة- 1- وباستثناء الحالات المنصوص عنها في المادة  74 من قانون العمل، يتوقف صرف أعضاء مجالس النقابات المنتخبين وفقاً للأصول، وطيلة مدة ولايتهم، على مراجعة المجلس التحكيمي المختص.
وعلى صاحب العمل، في هذه الحالة، أن يدلي بجميع الأسباب التي حملته على الصرف وله أن يوقف العامل عن العمل فوراً حتى صدور قرار المجلس التحكيمي بأساس القضية.
يقوم رئيس المجلس التحكيمي بعقد جلسة خاصة يدعو فيها الطرفين للمصالحة، وذلك خلال خمسة أيام من تاريخ المراجعة.
في حال فشل المصالحة ينظر المجلس التحكيمي بكامل هيئته بأساس القضية، ويبت بها بمهلة لا تتجاوز الشهر.
فإذا وافق على الصرف يقضي بتصفية حقوق العامل وفق القواعد المنصوص عنها في قانون العمل.
وإذا لم يوافق على الصرف يقضي بإلزام صاحب العمل أن يعيد العامل إلى عمله تحت طائلة تضمينه، علاوة على ما يستحقه العامل من تعويضات قانونية، مبلغاً إضافياً يتراوح بين ضعفي وثلاثة أضعاف البدل المنصوص عنه في الفقرة -1- من هذه المادة".
[3]اذ لا يجوز ان يقلّ عدد أعضاء مجلس النقابة عن اربعة عملاً باحكام المادة 99 من قانون العمل.
[4]من خلال التزامه بالاعلان العالمي لحقوق الانسان والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي أحالت اليهما مقدمة الدستور. ولكن أيضا سندا لدستور منظمة العمل الدولية واعلان مبادئ فيلادلفيا الذي يكرس الحرية النقابية. كما التزم بالحق في العمل في العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
[5]وهو موضوع عملية تحديث طالت أكثر من عشر سنوات، باتت من دون نتيجة بفعل احالة مشاريع تعديل قانون العمل من وزير عمل الى آخر، كان اخرها مشروع القانون الذي احاله وزير العمل الى امانة مجلس الوزراء في آذار 2011.

 

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني