العاملات المهاجرات في الشارع: الصراع بين سالبي الحق وأصحابه


2023-05-03    |   

العاملات المهاجرات في الشارع: الصراع بين سالبي الحق وأصحابه

لم تتوقع جوما (33 عامًا) أن رفضها لتنظيف منزلين في اليوم نفسه، أي منزل صاحبة العمل ومنزل والديها سيكون سببًا أو حجّة لاتهامها بالسرقة وسوقها إلى المخفر وسجنها “من دون أن يستمع البوليس لي”.
تقول جوما  لـ “المفكرة القانونية”  “أتيت من السنغال لأعمل لدى عائلة تتكوّن من 4 أفراد، فوجدت نفسي مجبرة على خدمة منزلين وأحيانًا أكثر، وكلّما رفضت كنت أتعرّض للشتم والركل والصفع إلى أن تمّ اتهامي بالسرقة، وسجني لحوالي 3 أشهر”.
لم تغادر جوما لبنان، بعد إطلاق سراحها، وهي اليوم تعمل لدى عائلة غير لبنانية، وسعيدة بذلك، كونها تعامل باحترام كما تقول: “أنا إنسانة وأشعر بالحزن والفقد لتركي عائلتي والمجيء إلى هنا للعمل وعلى العائلة التي أعمل لديها أن تستمع إلى ما أشعر به، وتقدّر عملي”.

قصة جوما واحدة من قصص كثيرات من عاملات المنازل المهاجرات في لبنان، حيث يستمرّ نظام الكفالة الذي يربط الإقامة القانونية للعاملة بعلاقة تعاقدية مع صاحب العمل. وهذا الأمر يسمح لصاحب العمل باحتجاز جواز سفر العاملة، وإرغامها على القبول بشروط عمل تقوم على الاستغلال، فيساهم في الكثير من الانتهاكات، بما في ذلك الاعتداءات النفسية واللفظية والجسدية والجنسية، بالإضافة إلى العزل والاحتجاز.
جوما ورفيقاتها اللواتي يحملن جنسيات مختلفة من: إثيوبيا وكينيا ونيجيريا وسيراليون وبنغلادش وسيريلانكا والفيليبين، تجمّعن يوم السبت 29 نيسان عشية عيد العمال، ومعهنّ ناشطون وناشطات، بدعوة من منظمة “كفى” رفضاً لـ “نظام الكفالة”، ولتسليط الضوء مجددًا على ممارسات العنف والاستغلال بحقّهنّ. ومن أمام المتحف الوطني، أحيين اليوم على طريقتهنّ،  فرفعن مطالبهنّ على لافتات كتبت بلغات عدّة ومنها: “من حقي توقيع عقد عمل بلغتي الأمّ” و”من حقي أن أتقاضى راتبي آخر الشهر” و”من حقي الحصول على أوقات راحة خلال النهار”، “من حقي قضاء يوم عطلة خارج المنزل آخر الأسبوع”.

وعن هذه المطالب، سألت “المفكرة” ماهيلات وهي ناشطة من أثيوبيا مع العاملات المهاجرات، فأكدت  أنه يتم استقدام العاملات من بلادهنّ من غير المتعلمات، كون هذه الفئة لا تعرف ما هي حقوقها  ولا الدفاع عن نفسها. وتختار مكاتب الاستخدام الفتيات الصغيرات في السن، من القرى النائية، كي يتم معاملتهنّ في لبنان كما كان يعامل “العبيد”. وتلوم نظام الكفالة على هذه الممارسات، واصفةً إياه بالعنصري الذي يسمح لصاحب العمل  بانتهاك حقوق العاملات، ويحدّ من حرّيتهنّ، ويحرمهنّ من الاحتفاظ بجواز سفرهنّ والتنقّل والتواصل مع أهلهنّ.

نظام الكفالة يسهّل الاتجار بالبشر

“منذ أزمة كورونا وبداية الأزمة المالية والاقتصادية في لبنان، ارتفعت موجة العنف تجاه العاملات، وشهدنا طرد بعضهنّ من قبل أصحاب العمل ورميهنّ في الشوارع، كذلك، شهدنا عنفًا جسديًا وجنسيًا، ومحاولات بيع عاملات حرفيًا على وسائل التواصل الاجتماعي”، تقول جولي خوري منسقة البرامج في وحدة مناهضة الاتجار بالنساء في منظمة “كفى”، لـ”المفكرة”.
وتشير إلى أنّ قانون العمل لا يزال حتى الآن يستثني العمل المنزلي، بالتالي العاملات، وهنّ في معظمهنّ عاملات مهاجرات غير محميات ولا يتمتعن بأي حماية قانونية أو اجتماعية، والبديل عن استثنائهنّ من  قانون العمل هو نظام الكفالة الذي يسمح للكثير من أنواع الانتهاكات التي تتعلق بحقوق بالعمل، إلى جانب ممارسات يسهّلها نظام الكفالة من الاتجار بالبشر، والاعتداء الجسدي والجنسي، وحجز الحرية وعدم دفع الأجور، وبالتالي يتحوّل العمل المنزلي إلى شكل من أشكال العبودية. وتضيف أنّ “كل هذه الانتهاكات تحصل بينما المعنّف والمستغلّ مرتاح لأنّه يعلم مسبقًا بأنه يمتلك حصانة يمنحها له نظام الكفالة، وبالتالي لا يوجد محاسبة لأي اعتداء تتعرض له هؤلاء العاملات”.

عدد عاملات المنازل المهاجرات في انخفاض

وتلفت خوري إلى أنّ عدد العاملات المهاجرات في لبنان بدأ يتراجع منذ الأزمة، إذ وبحسب تقديرات وزارة العمل والأمن العام، تراجع  العدد من 250 ألفًا في العام 2022 إلى 60 ألف عاملة في لبنان. وتضيف: “إلّا أنه وعلى الرغم من ترحيل عدد كبير من العاملات إلى بلادهنّ، لا يزال هناك استقدام لهنّ، ولكن اختلفت الجنسيات، إذ بدأنا نلاحظ ازدياد عدد العاملات الوافدات من سيراليون وكينيا مؤخرًا”.

وتضيف خوري أنّ منظمة “كفى” تستقبل المعنّفات من خلال مركز إيواء وعبر خط ساخن للتبليغ عن حالات عنف وطلب المساعدة، لكنها في الوقت نفسه لا تستطيع تحديد نسبة ازدياد العنف لأن عملية التبليغ ليست عملية سهلة بكل الأوقات، وخصوصًا أنّ العاملات ممنوعات من التواصل الخارجي والخروج من المنزل. كذلك هناك مشكلة في توصيف موت العاملة إن كان انتحارًا أو قتلًا، فهناك كثير من الحالات التي يتم تصنيفها في سياق الانتحار وهي قتل أو دفع للانتحار بشكل ممنهج. وترى خوري أنّه في معظم الحالات لا يحاكم المعتدي، بسبب عدم وجود إثباتات وتحقيقات شفافة إذ تعتمد القوى الأمنية عادة على شهادات أصحاب العمل، ونادرًا ما تتوسّع دائرة التحقيق، وهذه إشكالية كبيرة وطالما لا تتم محاسبة المعتدين، فإنّ المبرّر الوحيد للعنف هو المعتدي المعنّف.

مرصد العنصرية الذي أطلقته حركة مناهضة العنصرية في لبنان، وثق وفاة 18 امرأة مهاجرة في لبنان منذ شهر نيسان 2020 حتى اليوم. وبحسب المرصد  توفيت 8 نساء مهاجرات عام 2021، ومعظمهنّ مجهولات الهوية. ولم تتم حتى اليوم محاسبة عائلة لبنانية واحدة على موت أي عاملة، الأمر الذي يشجع على العنف وتزايد معدلات الجريمة بحق العاملات المنزليات.

الصراع بين سالبي الحقوق وأصحاب الحق

وكان للعاملات عدد من الكلمات التي ألقيت بمختلف اللغات، وأكدت جميعها على أنّ الأزمات التي طالت البلد مؤخّرًا لم تكن هي سبب العنف الذي تتعرّض له العاملات، مؤكّدات أن هذه الأزمة قد ألقت بثقلها عليهن أيضًا. هذا وأكدت العاملات في نهاية الوقفة  بأنّ التوقيت ليس المشكلة، لأنّه لم يكن هناك وقت للنظر إلى مشاكلهن أو العمل على حلّها في أي وقتٍ سبق. وأنّه من الطبيعي أن يكون المعنّف مرتاحًا لارتكاب أفعاله لأنه يعلم مسبقًا بأنه يمتلك حصانة يمنحها له نظام الكفالة وتبريرات تمنحه إياها الأعراف والعقليات السائدة، هذا النظام الذي يعفي من يرتكب الجرائم بحق العاملات من أي عقاب. واعتبرنَ أنّ الصراع ليس بين لبنانيين وعمال مهاجرين، بل بين معنّفين وضحايا وبين سالبي الحقوق وأصحاب الحق وبين النظام وكراماتهنّ.
كذلك، أكّدن أنهنّ مستمرات في نضالهنّ ضد العنف والاستغلال، ضد العنصرية والذكورية وضد التعتيم والترحيل. حتى تتحقق العدالة لضحايا نظام الكفالة، وحتى يأتي اليوم الذي تُضم فيه عاملات المنازل إلى قانون العمل، ويكون العمل المنزلي فعلًا عملًا تحترم فيه حقوق العاملات أكانوا مهاجرات أم مقيمات.

قصصٌ على جدار المتحف

قصص بعض العاملات اللواتي توفين علّقتها “كفى” على مجسّمات على درج المتحف وكتبت بصيغة المتكلّم ولغة تتخيّل أنّ العاملات أنفسهنّ يروينها بعد موتهنّ بعضها تضمّن ردودًا على أمور أشيعت عن ملابسات وفاتهنّ.    

القصة الأولى هي قصة العاملات من سيراليون اللواتي قضين في حريق في سد البوشرية لم تعرف ملابساته وأسبابه حتى الآن، وهنّ إيمّا، هاوا، زينب، اساتور، راماتور وايشا، توفين في 11 آذار 2023.
تقول القصة المعلّقة على الدرج: “كانوا جيراننا منزعجين جدًا من صراخنا لفعل أي شيء حيال الاعتداء علينا، جارتنا المنزعجة قالت إن صراخنا كان غير محمول لكن يبدو أنّ أجسادنا التي أضرمت النيران فيها ورميت من المبنى لم تزعجها.
ورد في تقارير الأخبار أنّنا تشاجرنا مع شبان لبنانيين، لو كان شجارًا، أما كان متوقعًا أن يتأذّى هؤلاء الشبّان على الأقل؟ كيف يعقل أنّنا خمستنا متنا وهؤلاء الشبان لم يرهم أحد؟
لا يزال عناصر الأمن غير متأكدين من أسباب وفاتنا، لكنهم بدوا متأكدين من أننا منخرطات في الدعارة وذلك قبل أن تبدأ التحقيقات”.

القصة الثانية عن هنربالام وهي من أثيوبيا، تاريخ الوفاة 9 تشرين الأول 2021.
تقول القصة: “بالكاد وجدت أي شيء عن وفاتي في الأخبار باستثناء بيان مقتضب يذكر أنهم وجدوني مشنوقة، ويرجّح أنها أقدمت على الانتحار.. فيما فتحت دورية من مخفر الدرك في الدوير تحقيقات بملابسات الحادثة. هذا كل ما ستجدونه عني إذا دقّقتم البحث، لكن لا داعي لتتكبّدوا العناء، اسألوا صديقتي هي تعرف الحقيقة. كنت أراسلها للمساعدة. وفي آخر حديث لنا في شهر آب كنت تعيسة ومهددة ولم أمنح الطعام الكافي ولم أتقاض كامل أموري. هل تعتقدون أن الدرك قد أتعبوا أنفسهم في البحث عن أسباب وفاتي أو حاولوا فهم ظروف حياتي في ذلك المنزل؟”

القصة الثالثة عن عاملة مجهولة الهوية، تاريخ الوفاة 14 كانون الثاني 2020.
تقول القصة: “تسلقت نافذة المنزل في ذلك اليوم وقرّرت رمي نفسي، وهذا القرار كان أسهل عليّ من الحياة التي أعيشها في المنزل الذي أعمل به. كان هناك امرأة تصوّرني ولم يبدو عليها أي انزعاج أو أي اهتمام، بل واصلت تصويري حتى ارتطامي بالأرض”.

القصة الرابعة عن ميس سينا غورونغ من نيبال التي توفيت في 2011 من دون أن يكون هناك تاريخ دقيق.

تقول القصة: “تمّ نقلي إلى المستشفى بسبب إصابتي برصاصة في بطني. أفاد صاحب العمل أنّني أطلقت النار على نفسي. وختم التحقيق على هذا الأساس، بعد أن ترك صاحب عملي بسند إقامة.
لم يسأل أحد كيف يمكن أن أطلق النار على بطني؟ فليشر لي أحد لم قد يختار الشخص قتل نفسه بهذه الطريقة غير المريحة؟
كل ما فعله القاضي هو الحصول على تعهّد من صاحب العمل بدفع مصاريف المستشفى وإعادتي جثة إلى بلدي، مع العلم أنّ تقرير الطب الشرعي ذكر وجود كدمات فوق عيني وذقني ووجهي وذراعي وتمزّق في غشاء البكارة. وبالنسبة للقاضي إنّ كلّ هذا الأذى فعلته بنفسي لنفسي، تمامًا مثلما أطلقت النار على بطني”.

انشر المقال

متوفر من خلال:

لا مساواة وتمييز وتهميش ، مساواة ، جندر ، تحقيقات ، الحق في الحياة ، فئات مهمشة ، لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، لبنان ، مقالات ، جندر وحقوق المرأة والحقوق الجنسانية ، حراكات اجتماعية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني