الطلاب ضحايا منسيّون لقطاع النقل في لبنان


2023-10-18    |   

الطلاب ضحايا منسيّون لقطاع النقل في لبنان

في بداية العامّ الدراسي الجديد، يرى الطلاب أنفسهم أمام صعوبات كبيرة، ومنها كلفة النقل، تصل أحيانًا حدّ تهديد عامهم الدراسيّ ومستقبلهم التعليميّ والمهنيّ. يسعى هذا المقال إلى الإضاءة على هذه الأزمة وتجلّياتها لدى الطّلاب وما يترتب عليها من مضاعفات ومساوئ.

حول تنقّلات الطلاب

تنقسم تنقّلات الأفراد إلى نوعيْن: التنقلات غير الملزمة والتنقلات الملزمة. النّوع الأول هي التنقلات التي يمكن التحكّم بها أو الاستغناء عنها، وهي كما يدلّ اسمها غير ملزمة ذاتيًا. من الأمثلة على ذلك التنقل للتسوّق، للزيارات، للتسلية، … النوع الثاني هي التنقلات التي لا يمكن الاستغناء عنها والتي لا يحدّدها الفرد وحده بل تتأثر أيضًا بظروفه مثل التنقّلات للعمل أو الدراسة بشكل أساسيّ. هذا النوع من التنقّلات ثابت نوعًا ما مقارنة ببقيّة التنقلات، والأهم أنّ الحدّ منها يرتّب تكلفة كبيرة ذات أبعاد متعددة.

اليوم، ومع تفاقم الأزمة في لبنان، تأثّرت جميع تنقلات الأفراد، لكن تأثير هذه الأزمة وتفاعلها اختلفا بين فئة وأخرى. من ضمن الفئات الأكثر تضرّرًا هم الطلاب الذين يعانون من صعوبة التنقل وارتفاع تكلفته بشكل ملحوظ، مع اختلاف طفيف يكمن في أنّ هذه الفئة لا تلقى مستوى الاهتمام نفسه الذي يجده الباقون، حتى أصبحت من الفئات المهملة التي تعاني بصمت من تأثير أزمة النقل. وكما كلّ ما يخصّ تنقلات الأفراد في لبنان، تعاني تنقلات الطلاب من نقص مهول في المعلومات والأرقام والإحصاءات التي تسمح برسم رؤية واضحة حولها. وغالبًا ما تكون تنقّلات تلاميذ المدارس مرهونة بعادات ووسائل تنقّل الأهل أو النقل المدرسي الذي يخضع لشروط قانونية عدّة تبدو لا بأس بها من ناحية النصّ [1] ولكنها للأسف نادرًا ما تطبّق كما يجب. ناهيك عن تكلفة النقل المرتفعة على كاهل الأهل في حال كانوا هم من يوصلون الأولاد إلى المدرسة أو عبر النقل المدرسي التابع للمؤسسة التعليمية أو نقل مدرسي خاص.

فيما خصّ الطلاب الجامعيين، تُبيّن بعض الأبحاث أنه منذ ما قبل الأزمة لا يشكّل هؤلاء استثناء بما خصّ نسب الاستعمال المرتفعة للسيارة للذهاب إلى مكان الدراسة مقارنة بباقي وسائل النقل (2-6). مع التنبيه طبعًا بأنّ هذه الدراسات كانت معنية غالبًا إمّا بمنطقة محددة أو مؤسسات تعليمية معيّنة وبالتالي قد لا تكون الأرقام قابلة للتعميم على كلّ الطلاب حيث يمكن أن تختلف عادات التنقّل بحسب السياق الاجتماعي أو الاقتصادي أو الجغرافي لكلّ طالب ولأسرته. على الرغم من ذلك، نفترض أنّ السيارة تغلب على تنقلات الطلاب كما هي الحال في أغلب تنقلات المقيمين في لبنان. في المقابل، يتبيّن أنّ جزءًا مهمًّا من مستخدمي النقل المشترك هم من الطلاب.

استمرّ ذلك خلال الأزمة. في استبيان أجريتُه مطلع العام 2021 [7]، تبيّن أنّ أكثر من نصف مستخدمي  النقل المشترك الجماعي (باصات وفانات) هم من الطلاب فيما تنخفض هذه النسبة إلى الربع في حالة سيارات الأجرة. بالإضافة إلى ذلك، تبيّن أيضًا أنّ الطلاب الذين كانوا يعتمدون على النقل المشترك قبل الأزمة ظلّوا أوفياء لهذه الوسيلة خلال الأزمة. اللافت أنّه في كلتا الفترتين كان الطلاب الذي يعتمدون على النقل المشترك من سكّان الضّواحي أو الأطراف وجلّهم من أسر ذات دخل محدود أو أقلّه دون المتوسط.

ولكن هذه الأرقام تعني تنقّلات الطلاب المحقّقة، فيما تبقى نسبة التنقلات غير المحققة بسبب غلاء كلفة النقل أو صعوبته، غير معلومة فعلًا. من الأرقام النادرة حول الموضوع، بيّن استبيان أجرته “هيومن رايتس ووتش” بين أواخر 2021 وبداية 2022 أنّ 43% من الأسر المستطلعة عجزت عن تأمين كلفة تنقّل أفراد منها إلى العمل أو الدراسة خلال العام الذي سبق استطلاع آرائهم [8].

وجه آخر للامساواة في نظام النقل

بناء على ما سبق، يمكننا الإشارة إلى نوعين من اللامساواة التي تؤثر على هذه الفئة المهملة في المجتمع بما يتعلق بتنقّلاتها. نجد هذه اللامساواة بين الطلاب مقارنة بفئات مجتمعية وقطاعات أخرى كما نجدها بين الطلاب أنفسهم.

منذ بداية الأزمة، وأحيانًا قبلها، شهدنا العديد من الإضرابات العمالية والقطاعية التي كان دافعها الأساسي هو تكلفة التنقّل. وقد تمثلت مطالب تلك الإضرابات في زيادة بدل النقل أو توفير بدائل للوصول إلى مكان العمل، وتقليل عدد أيام الحضور بسبب ارتفاع تكلفة الوصول إلى العمل. ورغم الوعود الكثيرة التي قدّمت، إلّا أنّه لم يتحقّق منها إلّا ما يناسب السياسة المعتمدة للنقل وعلى رأسها بدل النقل الذي يعتبر من أسوأ الإجراءات التي يمكن اعتمادها لتقليل أزمة النقل. من ناحية الطلاب، كانت هذه التحرّكات قليلة نسبيًا من دون أثر فعليّ وكأنهم غير معنيّين بأزمة النقل. القاسم المشترك بين تنقّلات الموظفين والأجراء من جهة والطلاب من جهة أخرى هي إلزامية هذه التنقلات ولكن، بخلاف الفئة الأولى لا يحصل الطلاب على أية “مساعدة” أو “بدل نقل” أو “تقليل للدوامات” كما يحصل مع الباقين وبشكل خاص الأساتذة. ما الفرق بين إلزامية هذا التنقّل ووجهته وأهميته بين الأستاذ والطالب؟ لا شيء. بل وأكثر، في شباط 2023 تمّ اقتراح استبدال بدل النقل للأساتذة بليترات بنزين. هذا الاقتراح أتى بطريقة ارتجالية زبائنية غير مبنيّة على أيّ أساس علمي ولا هدف لها في حينه سوى ثنْي الأساتذة عن إضرابهم والاستمرار باستزلام جزء منهم. طبعًا هنا ليس الحديث عن الأساتذة أو باقي الفئات العاملة للقول إنّ مطالبها غير محقّة أو أنهم ليسوا مظلومين في أزمة النقل، إنّما للإضاءة على التفرقة والإهمال المتعمّد للطلاب الذين كانوا ولا يزالون مُلزمين بالاستمرار في تأمين تنقلاتهم وتحمّل أكلافها. ومن شأن ذلك أن يؤدّي إلى مضاعفة حالات التغيّب القسريّ عن الدّراسة لتوفير كلفة النقل أو حتى ترك أكثر الطلاب للتعليم كليًّا علمًا أنّ العديد من الأسر وجدت نفسها مرغمة على التمييز بين أبنائها لجهة ضمان حقهم بالتعليم. 

اللامساواة بين الطلاب أنفسهم قد تأخذ هي أيضًا أشكالًا عدّة:

أولًا، يختلف تأمين التنقلات وتكلفتها بحسب السياق الاجتماعي والاقتصادي للطلاب أي مستوى دخلهم أو دخل أسرهم، ومصدر هذا الدخل وقيمته وحجم الأسرة وتركيبتها العمرية…

ثانيًا، يؤدي العامل الجغرافي دورًا أساسيًا في تحديد مدى التنقّل والوصول بين المنزل ومكان الدراسة. فتختلف القدرة على التنقّل وكلفته بحسب المسافة بين النقطتين ولكن أيضًا في المنطقة التي يتواجد فيها المسكن أو مكان التعليم. من العوامل التي تؤدي هنا دورًا مثلًا هي مخدوميّة شبكة الطرق أو النقل المشترك أو وضع البنى التحتية… لا بدّ من التذكير بأنّ غياب خطة نقل، وبشكل خاص نقل مشترك تلحظ أماكن تواجد الجامعات وكيفية تنقّل روادها، يزيد الأمور تعقيدًا.

وبالحديث عن البعد الجغرافي، لا بدّ من الحديث عن التعدّد غير المبرّر للفروع والكليات والمجمّعات التعليمية على مساحة وطن بحجم لبنان والذي يعكس التصوّر المناطقي والطائفي لتوزيع الخدمات، ومنها التعليم. فمثلًا، لو كان لدينا فرع واحد أو اثنان على أقصى تقدير لكان من الأسهل تنظيم المناطق الذي تتواجد فيها المراكز التعليمية بوصفها مناطق طالبية وبالتالي يتمّ تركيز المساكن الطالبية فيها ودراسة خطة نقل مناسبة. من اللافت أيضًا، أنّ بعض الكليات والجامعات أنشأت فروعًا لها في مناطق غير مزدحمة أو بعيدة تستلزم بشكل شبه إجباري الوصول إليها بالسيارة. وحتى الجامعات التي أمّنت باصات لتنقّل الطلاب بين فروعها، فعلت ذلك مقابل بدل مادّي ممّا يعني تحمّل أعباء إضافية كان يمكن الاستغناء عنها.

ثالثًا، حتى الاحتجاجات الطالبية بشأن كلفة النقل وصعوباته، تبقى خافتة. ففي وقت يتمّ الحديث عن غلاء الأقساط والتسجيل ومستلزمات الطلاب، يبقى الحديث عن تكلفة النقل للوصول إلى مراكز التعليم خافتًا نسبيًا. مردّ ذلك إلى كون إشكاليات النقل وأزمته لم تكن يومًا من الأولويات السياسية أو الاجتماعية بعدما تمّ على مدى عقود تسطيحها عبر ربطها باستخدام السيارة واستهلاك المحروقات فقط.

بالحديث عن الشقّ السياسي، من اللافت تكتّم الوزيريْن المعنيين بتنقلات القطاع التعليمي عن التطرّق لهذه الأزمة. الحديث هنا عن وزيري التربية عباس الحلبي والنقل علي حميّة اللذيْن اقتصرت مساهمتُهما في هذا الخصوص على التصديق على الزيادات لبدل النقل في القطاعين العامّ والخاصّ. في جلسة مجلس الوزراء التي انعقدت في 11 أيلول، كان لافتًا أنّ حميّة طلب إعطاء الأولوية لقطاع النقل في الإنفاق الحكومي لدى إقرار موازنة العام 2024. في المقابل، لم نسمع يومًا رأيه بخصوص أزمة تنقلات الطلاب وليس في جعبته أصلًا أيّ حلول أو اقتراحات لهم ولا حتى تصوّر أو خطة ولو جزئيًا.

في مقابل سوداوية المشهد، يظهر بعض الأمل في هذا الخصوص على شكل تجمّعات مطلبية طالبية، ومنها “الاتحاد الطلابي العام” الذي نشأ مؤخرًا. في حديث أجريته مع أحد ممثّليه، أكّد على مدى تأثير أزمة النقل  على الحياة الطالبية وجودة التعليم وما تسبّبه من لامساواة بين الطلاب وأنّ من أوّل مطالب الاتحاد تأمين نقل مشترك، ليس فقط للطلاب إنّما لكافة فئات المجتمع. يختم الناشط الطلابي حديثه بالتأكيد على أنّ “لا تعليم جيّد في مجتمع مأزوم، والعكس صحيح” وأنّ لا مجال للفصل بين أزمة المجتمع وأزمة التعليم.

نشر هذا المقال في العدد 70 من مجلة المفكرة القانونية- لبنان


[1] صادق علوية، الأصول القانونية لوسائل نقل تلامذة المدارس.. سلامة الـ«أوتوكار» أوّلاً، جريدة الأخبار، ملحق القوس.

[2] Aoun, A., Abou-Zeid, M., Kaysi, I., & Myntti, C. (2013). Reducing parking demand and traffic congestion at the American University of Beirut. Transport Policy, 25, 52-60.

[3] Belgiawan, P. F., Schmöcker, J. D., Abou-Zeid, M., Walker, J., Lee, T. C., Ettema, D. F., & Fujii, S. (2014). Car ownership motivations among undergraduate students in China, Indonesia, Japan, Lebanon, Netherlands, Taiwan, and USA. Transportation, 41, 1227-1244.

[4] Abou Ali, I., Rouhana, F., Eddine, R. Z., & Al Zoer, S. (2019, July). Estimating travel mode choices of NDU students using multinomial logit model. In 2019 Fourth International Conference on Advances in Computational Tools for Engineering Applications (ACTEA) (pp. 1-6). IEEE.

[5] El Zein, A. (2020). La crise du système de déplacements au Liban: Une dépendance automobile systémique et coûteuse (Doctoral dissertation, Perpignan).

[6] Danaf, M., Abou-Zeid, M., & Kaysi, I. (2014). Modeling travel choices of students at a private, urban university: Insights and policy implications. Case studies on transport policy, 2(3), 142-152.

[7] El Zein, A., & Carrouet, G. (2022). Evolution of mobility practices in Lebanon in the context of a multidimensional crisis: first results of an exploratory survey Note 2: the private car. LAET & ART-DEV. Lyon & Perpignan.

[8] Human Rights Watch (2022). Lebanon: Rising Poverty, Hunger Amid Economic Crisis.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، نقل عام ، مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني