السياحة في تونس: ليس كلّ ما يَلمع ذهب


2023-07-10    |   

السياحة في تونس: ليس كلّ ما يَلمع ذهب

موسم سياحي واعد، ملايين السيّاح يتوافدون على تونس، نسبة حجوزات عاليّة في الفنادق ستنعش احتياطي البلاد من العملة الصعبة؛ العديد من المؤشرات الإيجابية التي تتردّد بشكل شبه يومي في المواد التي تبثها وسائل الإعلام، وحتى في مداخلات المسؤولين عن قطاع السياحة. أخبار يُفترض أنها تبعث على الابتهاج، فالخير سيعمّ على الجميع، أليس كذلك؟ ليس بالضرورة، على الأقل في تونس.  كما أن هذا الجوّ من التفاؤل لا يمكنه أن يخفي الأزمة العميقة التي يعيشها القطاع منذ سنوات طويلة سابقة حتى لثورة 2011.

كلّما تمّ التطرق إلى موضوع السياحة في تونس نسمَع خطابًا منمّقا ومنمّطا يشبه المحفوظات: تونس بلد سياحي بامتياز، جوهرة المتوسط، هدفنا استقدام عشرة ملايين سائح، السياحة توفّر نصف مليون موطن شغل بشكل مباشر وغير مباشر وتساهم  بـ7 إلى 14 بالمائة من الناتج الخام، قطاع حيوي واستراتيجي، تطوير القطاع، تقصير الدّولة، المؤسّسات السياحية تُعاني. هذه  الجمل الدعائية تتكرّر على مسامعَنا منذ عقود إلى درجة أنها أصبحت مثل النصوص المقدّسة التي لا تقبل أيّ نقاش أو تشكيك. لكن القليل من طول البال والتثبّت في المعطيات وتحليل مدلولاتها سيمكّننا من اكتشاف أن أغلب عناصر “السردية” السياحية في تونس غير دقيقة أو غير محيّنة أو تمّ ليّ عنقها لتتناسب مع دعاية جماعات المصالح.

تاريخ السياحة في تونس

الملامح الجنينية للسياحة في تونس تختلف كثيرا عن الصورة الحالية للقطاع. يرى أستاذ التاريخ في الجامعة التونسية لسعد الدنداني[1]أن الأثر الأوّل للسياحة في تونس نجده في نصوص كُتبت منذ بدايات القرن 19 من قبل مثقفين أوروبيين -فرنسيين بالأساس- زاروا عاصمة البلاد وبعض المدن الأخرى، وتحدّثوا فيها عن عادات أهل البلاد في مختلف الأوساط الحضرية والريفيّة والبدويّة، والطقوس الدينية، والملابس، ومجريات الحياة اليومية، والمناخ، والمناظر الطبيعية، والمعالم، والآثار. عبر دراسة محتويات كتب الدليل السياحي الفرنسية التي خصّصت لتونس منذ سنة 1874، يخلص الباحث إلى “أهمية المنطلق الثقافي في رحلات السياح الأوائل، والذي سيشكل قاعدة لظهور سياحة ثقافية في تونس” أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. خلال تلك الفترة، كان الموسم السياحي في تونس ينطلق في أواخر سبتمبر (أي نهاية الموسم السياحي في تونس اليوم) عندما تخفّ وطأة حرارة فصل الصيف ويصبح الطقس أكثر اعتدالا، وينتهي في منتصف فصل الربيع قبل أن ترتفع درجات الحرارة من جديد. العاصمة تونس ومدينتها العتيقة وضواحيها الجنوبية والشمالية كانت تُشكّل محطّة أساسية في رحلات السيّاح الأوّل، ثم المدن القريبة منها (الوطن القبلي، بنزرت، باجة)، مع اهتمام كبير بالآثار والمعالم التاريخية القرطاجية والرومانية والعربية الإسلامية. أما السيّاح الأكثر فضولا كانوا يواصلون طريقهم إلى القيروان ومنطقة الوسط، وحتى نحو أقصى الجنوب لزيارة جزيرة جربة واستكشاف الصحراء.

طيلة فترة الاستعمار الفرنسي لتونس (1881 – 1956) ظلّت السياحة الثقافية الاستكشافية هي المهيمنة في تونس. وبالتوازي تشكّلت ما يمكن تسميته بالسياحة الاستشفائية، إذ أن عددا من الأوروبيين ممّن يعانون مشاكل صحية تتعلق بالبرد وأمراض المفاصل والأمراض التنفسية كانوا يقصدون تونس خلال فصلي الخريف والصيف للاستمتاع بالطقس الدافئ شبه الجاف وبجمال الطبيعة في عدة مناطق قريبة من العاصمة تونس. في سنة 1898 تمّ تأسيس “لجنة الاستجمام الشتوي في تونس” وبعدها بسنوات تمّ بعث “الديوان التونسي للاستجمام الشتوي” في باريس.[2]

ونظرا للرّهانات الاقتصادية والمالية للاستعمَار، كانتْ تونس وجهة أيضا للتجار والمستثمرين الأوروبيين يأتونها لفترات تطول أو تقصر، فتزايدت الحاجة إلى الفنادق وبقية مؤسسات الإيواء. ويمكن القول أن السّمات الغالبة على السياح خلال الفترة الاستعمارية أنهم: ذكور، أوروبيون، وميسورون. لم تكنْ السياحة الصيفية الشاطئية رائجة بالشكل التي هي عليه اليوم، وكذلك السياحة العائلية/الجماهيرية، إذ أن تطور وسائل النقل كان محدودا، والراحة السنوية مدفوعة الأجر لم تكن قد أدرِجت بعد ضمن حقوق العمال وقوانين الشغل.

عندما نالت تونس استقلالها سنة 1956 كان عدد المؤسسات الفندقية في البلاد يناهز الـ90 وحدة، نصفها يتركّز في العاصمة تونس، وطاقة إيوائها تقدّر بـ2489 سرير. بعد الاستقلال بسنوات قليلة بدأت الدولة تنظر للسياحة كإحدى الرافعات الممكنة للاقتصاد الوطني الناشئ. وضعت الدّولة أسُس هذا القطاع تصورا وتخطيطا وتمويلا وإدارة. وابتداء من سنوات 1970 جعلت منه عمودا أساسيا للاقتصاد التونسي ومصدرًا استراتيجيا للعملات الصعبة، قبل أن يصبح ابنها المدلل منذ بداية تسعينيات القرن الفائت بكل ما ينتجه الدلال المفرط من مشاكل وأعباء. 

بدأ المشوار مع إحداث “الشركة الفندقية والسياحية التونسية” سنة 1959، وهي مؤسسة عمومية بُعثت للإشراف على بناء نواة السياحة التونسية الحديثة بوصفها قطاعا قائما بذاته، وذلك عبر بناء النزل وتكوين الكوادر واليد العاملة الضرورية لسير العمل في الوحدات السياحية. كما حظيت السياحة بمكانة مميّزة في أول مخطط تنموي تبنته الدولة المستقلة (1962 – 1971). إلى حدود بداية سنوات 1970 ظلت “الشركة الفندقية والسياحية”، أي الدولة، المستثمر السياحي الرئيسي وكانت تمتلك قرابة 90 بالمائة من الوحدات السياحية الناشطة آنذاك.

وتأكيدا على تعاملها مع السياحة كقطاع استراتيجي أنشأت الدولة “الديوان الوطني للسياحة التونسية” سنة 1971، وكذلك “الوكالة العقارية السياحية” سنة 1973. وكان الهدف من هذه الجهود والاستثمارات العموميّة تكثيف العرض السياحيّ في أسرع وقت، بشكل يسمح بتطوير الطاقة التشغيلية للقطاع وقدرته على جلب السياح الأجانب ومعهم العملات الصعبة. اختارتْ تونس الطرق الأقصر والنماذج الأسهل: السياحة الصيفية الشاطئية كمنتج مهيمن، السياح الأوروبيون ك “هدف” رئيسي، والمناطق السياحية التي تتجمّع فيها عشرات الوحدات الفندقية والمطاعم ومحلات الهدايا والمنتجات الحرفية التقليدية كـ”نمط إنتاج” أساسي. نتيجة لهذه التوجّهات، تطورت طاقة الإيواء من حوالي 2500 سرير قبل الاستقلال إلى 41225 سرير سنة 1971. ابتداء من أواسط سنوات 1970 بدأ دور المستثمرين الخواص يزداد أهمية وتأثيرا، وأتى ذلك ضمن سياق من الانفتاح الليبرالي انطلق سنة 1970 بعد نهاية تجربة التعاضديات وتعيين الهادي نويرة وزيرا أوّلاً بصلاحيات موسّعة.

سعتْ حكومة نويرة إلى جلب الاستثمار الخاص المحلي والأجنبي بتقديم جملة من المحفزات التشريعية والجبائية شملت خاصة قطاع الصناعات التحويليّة والفلاحة الموجّهة للتصدير وكذلك السياحة. وجديرٌ بالذكر أن جزءًا من روّاد الاستثمار الخاص في القطاع السياحيّ موظفون عموميون سابقون عملوا سابقا في الإدارات العمومية المشرفة على السياحة، مثل صاحب الأعمال الراحل عزيز ميلاد الذي عمل في بداية مسيرته مديرا تجاريا في “الشركة الفندقية والسياحية التونسية” قبل أن يستثمر في قطاع السّياحة ويُكوّن امبراطورية تضمّ وحدات فندقية ووكالات أسفار وبنك وشركات نقل وشركة طيران، وكذلك صاحب الأعمال عادل بوصرصار الذي كان موظفا في “الديوان الوطني للسياحة التونسية” وممثّلا له في ألمانيا ثم فرنسا قبل أن يصبح أحد أهم وكلاء الأسفار في تونس، وهناك الكثير من الأمثلة المشابهة. جزء آخر من المستثمرين الخواص كانوا في الأصل باعة المنسوجات والتحف التقليدية الذين جمعوا ثروات وتمرّسوا في التعامل والتواصل مع السيّاح الأوروبيين بحكم عملهم في المناطق السياحية وبالقرب من المعالم الأثرية.

في سنة 1981، بلغت طاقة الإيواء السياحي في تونس 75847 سريرا موزعة على 336 مؤسسة سياحية. وفي  الفترة نفسها، استطاعت تونس ضمان وصول أكثر من مليون سائح سنويا أغلبهم من الفرنسيين والألمان والإيطاليين والبريطانيين. بالتوازي مع ذلك، بدأت سيطرة المستثمرين التونسيين الخواص تتعاظم على القطاع خاصة مع تولي عزيز ميلاد رئاسة “الجامعة التونسية للنزل” (منظمة مهنية تدافع عن مصالح ملاّك الفنادق السياحية) ما بين سنتي 1980 و1990. وحفز ازدهار السياحة وتموقع تونس كوجهة سياحية متوسطية معروفة مستثمرين خليجيين وأوروبيين على بعث مؤسسات سياحية في تونس. كما تكرّس تدريجيا ارتباط السياحة التونسية بشركات السياحة ووكالات الأسفار العالمية التي توفّر لتونس حصة جيدة من سياح الوجهات المتوسطية عبر تسويق البلاد كبلد ساحليّ مشمس يزخر بالشواطئ الرمليّة الجميلة، ويحتفي بزوّاره ويفضل لهم خدمات متوسطة الجودة بأسعار منخفضة.

نهاية الثمانينات كانت الخارطة السياحية التونسية قد اكتملت تقريبا مع تركّز القطاع في سبع مناطق ساحلية: شمال العاصمة تونس، نابل-الحمامات، سوسة، المنستير-سقانص، المهدية، جربة-جرجيس، طبرقة. بالإضافة إلى موانئ ترفيهية قريبة من هذه المناطق -ميناء سيدي بوسعيد (تونس)، ميناء القنطاوي (سوسة)، مارينا المنستير- وكذلك عدة مطارات مُرتبطة ارتباطا وثيقا بقطاع السياحة: تونس-قرطاج، المنستير-الحبيب بورقيبة، جربة-جرجيس، توزر-نفطة. سنة 1988 تجاوز عدد السياح المليونين، قضوا أكثر من 18 مليون ليلة في الفنادق التونسية، وفي 1991 بلغ عدد الوحدات الفندقية 532 توفر حوالي 123000 سريرا، أي أن طاقة الإيواء تضاعفت مرتين خلال 20 عاما (مقارنة بسنة 1971).   

هذه القفزة التي حقّقها قطاع السياحة في مدة قصيرة وأدت إلى تطوّر وارداته من العملة الصعبة جعلته يحظى بمكانة خاصة في “قلب” السلطة الحاكمة آنذاك في تونس. كما أسالت لعاب الكثيرين ممن اشتمّوا رائحة الإثراء السريع، وأغلبهم ممن ليس لديهم أي علاقة سابقة بالنشاط السياحي. تزامنت بداية سنوات 1990  مع دخول تونس في مسار “الإصلاحات الهيكلية” التي فرضها صندوق النقد الدولي على تونس في 1986 وأبرزها تخفيف قبضة الدولة وتقليص نفقاتها العمومية وقدرتها على التحكم في اقتصاد البلاد. لم يسلَم قطاع السياحة من هذه الإصلاحات، بحيث تخلّت الدولة عن أغلب المؤسسات السياحية التي كانت تملكها لصالح مستثمرين خواصّ سيصبحون المتحكّمين الحقيقيين في قطاع السياحة. خلال تلك الفترة تقاطعت مصالح السلطة السياسية مع مطامع البرجوازية التونسية: من جهة نظام قمعي يسعى إلى بناء شبكات زبائنية تضمن استقرار نظامه بعد أن استطاع تحييد المعارضة بمختلف تياراتها وإبراز إنجازاته للجهات الدولية المانحة وتحصيل أكثر ما يمكن من الموارد التي تمكّنه من “شراء السلم الاجتماعي”، ومن جهة أخرى أثرياء قدامى وجدد يبحثون عن استثمار فوائض راكمُوها في قطاعات أخرى واستغلال كلّ المحفّزات والامتيازات التي توفرها الدولة للمستثمرين في قطاع السياحة.

لم تعُدْ الدّولة تستثمر في إنشاء وحدات سياحية عمومية، لكنها سخّرت كلّ إمكانياتها لدعم المستثمرين الخواص بواسطة تمويلات من بنوك عمومية وتشجيعات للبنوك الخاصة لتمويل الاستثمارات السياحية، وتوفير الأراضي عبر الوكالة العقارية السياحية والإنفاق من أموال دافعي الضرائب لإنشاء وتطوير بنى تحتية في خدمة السياحة (مطار طبرقة، مطار النفيضة-الحمامات، المنطقة السياحية ياسمين الحمامات، إلخ)، إضافة إلى تجنّد هياكل وزارة السياحة والبعثات الديبلوماسية لتسويق الوجهة التونسية في الخارج. وفي المقابل، قدّم كبار الفاعلين في القطاع السياحي الدعم المالي للحزب الحاكم وبذلوا جهودا كبيرة في التطبيل لزين العابدين بن علي والدعاية لنظامه. أعطتْ التوجهات الجديدة أكلها بسرعة: في سنة 1999 تجاوز عدد الوافدين على البلاد عتبة الـ4 ملايين سائح قضّوا أكثر من 33 مليون ليلة في النزل التونسية ودرّوا على القطاع عائدات تجاوزت المليار دولار. وبعدها بسنتين، بلغ عدد الوحدات الفندقية 755 وحدة تجاوزت طاقتها الإيوائية 205000 سريرا. خلال العشرية الأخيرة من حكم بن علي، استمر ارتفاع نسق الاستثمار في السياحة حتى حقّق القطاع أرقاما قياسية سنة 2010: 836 مؤسسة سياحية، 240000 سريرا، 7  ملايين سائح.

بعد ثورة 2011 دَخلَ القطاع في مرحلة الشكوك والمخاوف: سنوات ركود وتراجع يعقبها موسم أو موسمين جيدين ثم مرحلة انحسار بسبب تأثيرات محلية ودولية: عدم استقرار سياسي، ضربات إرهابية، اغتيالات سياسية، جائحة كوفيد-19، الحرب الروسية-الأوكرانية، إلخ… لم يشهد القطاع استثمارات جديدة فارقة، بل أغلَقت عدة مؤسسات أبوابها مع تتالي السنوات العجاف. وباستثناء سنتي 2018 و2019 التي سجّلت فيهما السياحة أرقاما تاريخية (8 ثم 9 مليون سائح)، فإن بقية المواسم السياحية تراوحَت بين المتوسط والضعيف جدا.

تفاصيل مزعجة في جدارية السياحة

على مرّ العقود، استطاع الفاعلون في مجال السياحة أن يروّجوا صورة قطاع مزدهر يُمثل أحد الأعمدة الأساسية للاقتصاد التونسي ويساهم بحيوية في خلق الثروة ومواطن الشغل ويدعَم جهود الدولة التنموية بما يدرّه من مداخيل أغلبها بالعملات الصعبة. تبدو هذه الصورة واقعية ومُقنِعة لمن ينظر للوحة عن بعد، لكن عندما نقترب أكثر يمكننا أن نلاحظ بسهولة أن الأمور ليست بمثل هذا الاتساق والجمال.

ليست السياحة قاطرة للتنمية في تونس، بل هي إحدى روافع “نسب النمو”، التي تُمثل أحد مقدسات النظريات النيوليبرالية والتي  طالما تفاخر بها نظام بن علي. من جملة 22 محطة سياحية  تمتدّ مساحتها على أكثر من 3000 هكتار نجد أن 17 محطة تتركز في الولايات الساحلية على الجهة الشرقية للبلاد. كل المناطق السياحية الكبرى (وعددها 8) تتركز في السواحل الشرقية أيضا. نصف الولايات التونسية أو أكثر -جلّها في الجهة الداخلية الغربية للبلاد- مقصية بشكل شبه كامل من الخارطة السياحية على الرغم من احتواء أغلبها على مخزون أثري وثقافي وأيكولوجي مهمّ. يكفي أن نذكر هنا القصرين بإرثها الروماني-البيزنطي الكبير، والقيروان أقدم العواصم العربية-الإسلامية في شمال إفريقيا، وأغلب مناطق الشمال الغربي بمخزونها الطبيعي-الإيكولوجي الهائل. 

تركّز المحطات والمناطق السياحية في السواحل الشرقية لا يعني أن سكان هذه المناطق يرفلون في النعيم. أقلية فقط هي التي تستفيد فعليا من الحركة السياحية، في حين تجد الأغلبية نفسها خارج اقتصاد السياحة، بل تتضرّر منه في كثير من الأحيان: توافد السياح يخلق ضغطا كبيرا على طاقة الإيواء خارج الفنادق مما يتسبب في ارتفاع أسعار تأجير المساكن، ويرفع الطلب على سيارات التاكسي ويساهم في ارتفاع أسعار المعيشة والخدمات في الأحياء القريبة من المناطق السياحيّة. وبما أن تونس تُعاني من مشاكل متنامية في توفير الماء الصالح للشراب، ونظرا لأولوية السائح الأجنبي على “الأهالي” فإن تزويد النزل وباقي المؤسسات السياحية بالماء من دون أي اضطراب أو انقطاع يتمّ في كثير من الأحيان على حساب المواطن العادي. في هذا السياق، تشهد عدة مدن سياحية انقطاعا يوميا للماء الصالح للشراب لعدّة ساعات طيلة شهرين أو ثلاثة على الأقل.

تشكّل الطاقة التشغيلية الكبيرة للقطاع أحد أهمّ عناصر الخطاب الدعائي الذي تبثّه الهياكل المهنية لأصحاب المؤسسات السياحية وترتّله بعدها الخطابات الرسمية ووسائل الإعلام: نصف مليون موطن شغل مباشر وغير مباشر. هذا الرقم يُتداول كحقيقة علمية ثابتة منذ قرابة ربع القرن. في الواقع لا يتجاوز عدد الوظائف المباشرة في قطاع السياحة 92 ألف موطن شغل حسب الأرقام الرسمية لسنة 2021، وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار عدد السكان النشطين والذي يبلغ 4،188 مليون فرد سنجد أن نسبة التشغيل لا تتجاوز 2 بالمائة وكسور. وعندما نتحدّث عن وظائف مباشرة فلا يعني بالضرورة أنها ثابتة (عمال وموظفون “مرسمون”) فقد تكون تعاقدية لفترات قصيرة موسمية أو طويلة المدى. كما أنه لا تتوفر لدينا بيانات حول مستوى الأجور ومدى احترام قانون الشغل في المؤسسات السياحية، ولا معلومات حول المستوى التعليمي للعاملين في القطاع ونسبة المتخرّجين من شعب جامعية ومؤسسات تكوينية متخصصة في السياحة. تصبح الأمور أكثر ضبابية عندما يتعلق الأمر بالوظائف غير المباشرة المرتبطة بالقطاع، والتي اعتاد أغلب المتحدثين عن السياحة على تقديرها بمئات الآلاف من دون إحصائيات أو دراسات قطاعية توضح لنا من هؤلاء المرتبطون بقطاع السياحة، وما هو مدى ارتباطهم وماذا يفعلون في سنوات “القحط” السياحي وهي متواترة في السنوات الأخيرة. وهل يمكن وضع بائعي الياسمين والفل وصانعي الأوشام والتذكارات الرخيصة والمزوّدين باللحوم والخضروات وأصحاب شركات النقل في سلة واحدة؟

نسبة مساهمة السياحة في الناتج الداخلي الخام يجب التعامل معها بحذر هي الأخرى. فالخطاب السائد يقدر هذه النسبة بـ7 إلى 15 بالمائة بشكل مباشر وغير مباشر حسب المواسم السياحية، في حين أن هذه المساهمة تبدو في تراجع مستمرّ خلال العقدين الأخيرين. في سنة 1995 مثلا تجاوزت واردات السياحة حوالي 1،8 مليار دولار في حين بلغ الناتج الداخلي الخام 18،03 مليار دولار، أي أن مساهمة القطاع تجاوزت الـ10 بالمائة. أما في سنة 2009 فقد بلغت الواردات السياحية حوالي 2،6 مليار دولار في حين تجاوز الناتج الداخلي الخام 43 مليار دولار. وفي 2019 لم تتجاوز الواردات السياحية 1،9 مليار دولار مقابل ناتج داخلي خام يقدر بـ41،3 مليار دولار. بكل تأكيد يجب أن نعيد النظر في النسب القديمة.

هناك أرقام ومعطيات أخرى تحتاج إلى وضعها في سياقها وتنسيب مدى أهميتها. فعندما نتحدث مثلا عن توافد ملايين السيّاح إلى تونس، يجب أن نعرف أن الإحصاء التونسي يقوم على احتساب عدد الوافدين على تونس (من غير المقيمين بها) من كل المعابر البرية والبحرية، بمن فيهم التونسيون المقيمون بالخارج ومواطني الدول المغاربية والأوربيين وكل الجنسيات، بغضّ النظر عن أسباب قدومهم إلى تونس والمدة التي سيقضّونها وشكل الإيواء (فنادق، شقق، النزول عند الأقارب والأصدقاء، الخ). في سنة 1999 استقبلت تونس 4،8 مليون سائح منهم 3،4 مليون أوروبي (72 بالمائة) و1،2 مليون زائر من منطقة المغرب العربي (26 بالمائة). أما في سنة 2019 فقد بلغ عدد الوافدين 9،429 مليون زائر، منهم 1444533 تونسي مقيم بالخارج، و2788706 أوروبي، و4976826 مغاربي. عدد الزائرين وتوزع  عدد الزائرين حسب البلدان مهمّ في تحديد الجنسيات الأكثر إقبالا على العرض السياحي التونسي وحتى قدرتهم الشرائية. ويمكن القول أن تونس لا تستهدف إلا البلدان الأكثر قربا من البلاد (المغرب العربي وأوروبا) في حين تسجّل فشلا ذريعا في استقدام السياح من مناطق بعيدة قليلا أو كثيرا ويتمتع مواطنوها بمقدرة شرائية مرتفعة: الخليج والعراق، الولايات المتحدة وكندا واستراليا، واليابان والصين. في كل الأحوال تبقى هذه الأرقام نسبية ولا تمكّننا من تقييم مردودية القطاع السياحي بدقة. حتى عدد الليالي المقضّاة في النزل وعلى أهميته كمقياس لمدى حيوية القطاع وقوة الموسم السياحي فإنه لا يعطينا مؤشرات واضحة إلا عند احتساب متوسط إنفاق كل سائح أثناء فترة إقامته في تونس. هذا المتوسط بلغ 345 دولارا سنة 2019، ويعتبر منخفضا مقارنة ببلدان تعتبر هي الأخرى وجهات سياحية رخيصة: 640 دولار في تركيا، و713 دولار في المغرب، و1075 دولار في مصر.  

ليت الأمر يتوقف عند هذه الأرقام التي قد تتغير من موسم إلى آخر: المشكلة أن قطاع السياحة في تونس مأزوم بنيويا. بعد قرابة خمسين عاما من نشأة هذا القطاع، ما زالت ملامحه الأساسية ثابتة: سياحة شاطئية جماهيرية تسعى لإغراء سيّاح أوروبيين من ذوي الدخول الضعيفة والمتوسطة بأسعار متدنية في مناطق سياحية تشبه بعضها البعض وضمن مسالك سياحية جامدة تكاد لا تتغير أبدا. وعلى الرغم من بعض مساعي التجديد خلال سنوات 1990 و2000 (الترويج للصحراء والواحات والمعالم الأمازيغية في الجنوب التونسي، السياحة الغابية في الشمال الغربي، الرحلات البحرية السياحية croisières، الخ) والمبادرات الشبابية بعد ثورة 2011 (سياحة إيكولوجية وثقافية)، فإن المنتوج الرئيسي ما زال مهيمنا ويبدو أنه من الصعب التخلص من هيمنته.

تونس تدفع الآن ثمن اختياراتها القديمة: الترويج لنفسها كوجهة سياحية رخيصة جدا للراغبين في تمتيع أجسادهم بالشمس والملح على شواطئ رملية جميلة، والاعتماد على وسطاء عالميين لاستقطاب السياح الغربيين، ورعاية هوس الاستثمار في القطاع السياحي ما بين 1990 و2010. الاختيار الأول فقدَ الكثير من وجاهته، إذ أن سيّاح القرن الحادي والعشرين لا يشبهون كثيرا سيّاح سنوات 1960 و1970 وأصبحت توجهاتهم أكثر اختلافا ورغباتهم أكثر تعقيدا مما يوفره أغلب القائمين على السياحة في البلاد. أغلب منافسي تونس في حوض المتوسط فهموا هذه التغيّرات وحاولوا التأقلم معها عبر تنويع العرض السياحي وتحسين الخدمات واستهداف أكثر ما يمكن من فئات وبلدان. في سنة 2019 دخل تونس قرابة 9،5 مليون زائرا قضّوا أكثر من 30 مليون ليلة في النزل ووفروا عائدات قدرت ب1،9 مليار دولار. في نفس السنة، استقبل المغرب 13 مليون زائر قضوا 25 مليون ليلة وقدرت عائدات الموسم ب8،5 مليار دولار. أما مصر فقد كانت حصتها 13 مليون زائرا قضوا 136 مليون ليلة في الفنادق وبلغت نفقاتهم 13 مليار دولار. وزار تركيا 51 مليون سائحا قضوا أكثر من 200 مليون وأنفقوا 34،5 مليار دولار.

القبول بتحكّم وكالات الأسفار العالمية في “حنفية” تدفق السياح الأوروبيين على تونس بالتزامن مع تشجيع المستثمرين على بناء وحدات سياحية جديدة خلق معادلة بسيطة: لدينا قرابة ربع مليون سرير سياحي يجب أن تشغل أغلبها أكثر ما يمكن من الليالي في الموسم السياحي وبأيّ ثمن. وهكذا انفتحت شهية وكالات الأسفار العالمية لزيادة هامش ربحها، فصارت تفرض على أصحاب النزل في تونس أن يقدّموا تخفيضات وتنازلات لا يبدو أنّ لها حدود. وكلّما كان الموسم صعبا زاد الابتزاز، كما حدث في السنوات التي أعقبتْ ثورة 2011 بسبب عدم الاستقرار السياسي وتواتر العمليات الإرهابية ومظاهر العنف السياسي، وكذلك إبان الأزمة الصحية التي تسبب فيها وباء كوفيد-19. إزاء تناقص أرباحهم بسبب جشع الوسطاء، يلتجئ الكثير من مسيري المؤسسات السياحية إلى الخيار “الأسهل”: الضغط على التكلفة مع ما يعنيه ذلك من تقليص لمواطن الشّغل وتدني الأجور وتخفيض ميزانية الصيانة والتجديد، وبالتالي تدنّي جودة الخدمات المقدّمة للسائح وضرب قدرة البلاد على منافسة الوجهات السياحية الأخرى.

هناك متغيرات أخرى لا يبدو أن القائمين على قطاع السياحة في تونس استوعبوها كما يجب: بحكم التطور التكنولوجي ورواج الأنترنت وكثافة استعمال شبكات التواصل الاجتماعي تغيّرت الكيفية التي يختار بها السائح البلد الذي يذهب إليه والمكان الذي سيقيم به وبرنامجه خلال الرحلة والأماكن التي سيزورها. تناقصت الحاجة إلى وكالات الأسفار وصار من الممكن القيام بكل الحجوزات بواسطة هاتف ذكي وبيانات بنكية، والحصول على معلومات دقيقة وتقييمات مفصّلة حول كل وجهة سياحية وكل معلم وكل مطعم. كما دخل لاعبون جدد على خط الترويج والتسويق للوجهات والأماكن السياحية: المؤثرات والمؤثرون على إنستغرام وتيك توك وفيسبوك وغيرها من منصات “السوشيال ميديا”. وسط كل هذا ما زال ديوان السياحة ينفق جهدا ومالا للمشاركة في معارض السياحة ليوزّع مناشير وكتيبات بألوان فاقعة تستعيد نفس الخطاب المستعمل منذ ستينيات القرن الفائت لإقناع السيّاح للقدوم إلى تونس للاستمتاع بالشمس والتقاط صور مع جَملِ يشرب زجاجة كوكا كولا.

نتيجة لكل ما سبق أصبحت أغلب المؤسسات السياحية مديونة للبنوك التونسية بمبالغ ضخمة، فضلا عن تأخّرها في تسديد ضرائبها والمساهمات المتوجّب دفعها للصناديق الاجتماعية. المنطق يقول أن الأمر يتعلق باستثمارات خاصة يمكنها تحقيق أرباح كبيرة أو التعرض لخسارات أكبر وأن هذه “قواعد اللعبة”. لكن يجب أن نتذكر أن القطاع هو الابن المدلل للدولة التونسية وأن “سردية” الأهمية الحيوية للسياحة في الاقتصاد التونسي مازالت صامدة لا يمسّها ضرر ولا سوء.

أكثر من 300 مؤسسة سياحية لديها قروض بنكية لم تسدّد فضلا عن بقية الديون. في سنة 2017 بلَغت ديون الوحدات السياحية لدى بنك واحد “الشركة التونسية للبنك” 1،736 مليار دينار، وهو ما يمثل 40 بالمائة من مجمل المتخلد بذمة قطاع السياحة لدى البنوك في تونس. وحسب أرقام البنك المركزي نجد أن القطاع السياحي يستأثر بـ17 بالمائة من جملة التمويلات التي تخصصها البنوك لكل القطاعات.

حتى المصائب والكوارث والأوبئة التي تضرب جميع التونسيين يجب تخفيف آثارها على قطاع السياحة الحساس والهش. مثلا بعد الضربات الإرهابية في سنة 2015 اتخذت الدولة جملة من القرارات لدعم القطاع وتخفيف آثار الأزمة على المستثمرين: إعادة جدولة للديون الجبائية، منح قروض جديدة طويلة المدى، تخفيض الأداء على القيمة المضافة من 12 إلى 8 بالمائة، إعادة جدولة سداد فواتير الكهرباء والماء، التكفل بدفع المساهمات الاجتماعية للعاملين في المؤسسات السياحية، تمتيع التونسيين المقيمين بالخارج بتخفيض قدره 30 بالمائة من قيمة تذاكر الطائرات والبواخر لتشجيعهم على قضاء العطلة في تونس، الخ.

كما نتذكر كيف أهدرت الدولة التونسية في صائفة 2020 كل جهودها وتضحيات المواطنين خلال الموجة الأولى من وباء كوفيد 19 والحجر الصحي لتفتح البلاد على مصراعيها خضوعا لضغوط الفاعلين في قطاع السياحة. لم يأت السياح ولم تمتلئ الفنادق، بل قدم التونسيون المقيمون بالخارج خاصة في الدول الأوروبية والخليجية التي شهدت انتشارا كبيرا للكوفيد، فجاءت الموجة الثانية (خريف 2020) ضارية وكادت أن تقصم ظهر القطاع الصحي. ولإنقاذ القطاع السياحي أفردته الدولة بحزمة إجراءات خاصة زيادة عن الإجراءات التي أقرّتها لمختلف القطاعات الاقتصادية.

وهكذا نجد أن دولة تعاني من أزمة اقتصادية تنفق بكل كرم من المالية العمومية على قطاع يسيطر عليه المستثمرون الخواص المحليون والأجانب ولا تستفيد منه الأغلبية الساحقة من التونسيين، بل إنه يخلق ضغطا إضافيا على شواطئهم وسواحلهم المتآكلة.

من المؤكد أن السياحة درّت مداخيل كبيرة للبلاد خلال الستين عاما الفائتة، وما زال بإمكانها خلق الثروة. لكن أغلب هذا المال ذهب إلى القطاع الخاص وتركز في مناطق بعينها. النموذج السياحي التونسي استُنزِف تجاريا وبيئيا واجتماعيا وأصبح في مرحلة ما عبءًا على الدولة ودافعي الضرائب. البلاد تزخر بإمكانات سياحية متنوعة يجب استكشافها واستغلالها لكن وفق مقاربة تنموية اجتماعية تحترم البيئة ولا تستنزف الموارد الطبيعية.


[1] Dandani, Lassaad. Le tourisme culturel en Tunisie pendant la période coloniale : Genèse et évolution. Etudes Caribeennes, n°51 , avril 2022.

[2] نفس المصدر السابق

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، مقالات ، تونس ، اقتصاد وصناعة وزراعة ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني