الريع البنكي: انفصام بين الطفرة المالية والإنتاجية


2022-02-04    |   

الريع البنكي: انفصام بين الطفرة المالية والإنتاجية

“البنك يقرضك مطرية عندما يكون الطقس جميلاً، لكنّه يسحبها منك عندما تمطر”. 

جورج برنارد شو

يندرج القطاع البنكي في تونس في خانة الأنشطة الاقتصادية الريعية لأنّه مُقيّد من المنافسة بواسطة القواعد التي تنظّمه والتموقعات الاقتصادية-السياسية. بيد أنّه يكتسي طابعاً أكثر خطورة وتعقيداً من بقيّة القطاعات الريعية باعتباره مموّلها الرئيسي وعماد استدامتها على حساب دوره الأصلي في تمويل الاستثمار وخلق الثروة.

يمثّل القطاع البنكي الذي يضمّ ثلاثين بنكاً – من ضمنها سبعة بنوك غير مقيمة – حالة للدرس على صعيد القطاع المالي. إذ يُعتبَر الرقم نظرياً مرتفعاً مقارنة بعدد السكّان، ما يحيل إلى سوق عالية التنافسية تدفع هذه المؤسّسات إلى العمل على ابتكار مَيِّزات وحوافز للحصول على موقع بارز في السوق عن طريق تحسين الجودة وخلق تمايز على مستوى الخدمات والتخفيض في العمولات لجلب نسبة أكبر من الحرفاء. أمّا على أرض الواقع، فيختلف الأمر تماماً، لأنّ البنوك الـ 23 المقيمة أسّست في ما بينها كارتيلاً مبنيّاً على اتّفاق ضمني أُفُقي للتحكّم في السوق. وإذ تقوم الكارتيلات على اتّفاق بين شركات متنافسة تمارس النشاط نفسه للحدّ من المنافسة بهدف الترفيع في الأسعار والأرباح، فإنّ الكارتيل البنكي في تونس ذو وجهَيْن لأنّه يجمع كيانات اقتصادية قانونياً، مستقلّة متنافسة في ما بينها ظاهرياً، إلّا أنّ هذه الكيانات مملوكة من مجموعة ضيّقة من العائلات التي تتشارك ملكيّتها، ما مكّنها من الهيمنة على السوق المصرفية.

تُبيِّن خريطة ملكيّة البنوك المقيمة أنّها مملوكة من مجموعة ضيّقة من العائلات، التي تهيمن على الثروة في تونس، عبر المساهمة في رأس مال أكثر من بنك أو في البنك نفسه عبر الشخصيّات المعنوية (الشركات) والشخصيّات المادّية (الأشخاص). لا يقتصر ذلك على القطاع البنكي، بل ينسحب على قطاعَيْ التأمينات والإيجار المالي، الأمر الذي يجعلها تستحوذ على الحصّة الأكبر في السوق المالية وعلى آليّات التمويل.

هذه المؤسّسات الاقتصادية تملكها شبكة تربطها علاقات القرابة والمصاهرة، مُمثَّلة في مجالس الإدارة والتسيير في البنوك الأكثر ربحاً، ما يؤهّلها لتوجيه السياسة المصرفية لأنّ باقي المساهمات تتحوّز عليها الدولة و/أو الشركات الأجنبية. وضعٌ حوَّل النشاط البنكي إلى قطاع مُغلَق غير مفتوح على التنافس في السوق الداخلية، ما أدّى إلى تموقع البنوك في وضعيّة مضرّة بالاقتصاد «Oligopoly» متمثّلة في وجود عدد محدود من البائعين مقابل جمهور واسع من المستهلكين.

علاقة عكسية بين جودة الخدمات وتكلفتها

يؤدّي احتكار السوق في القطاع الخاصّ بالضرورة إلى تمركز سلطة تحديد الثمن بِيَد المحتكرين، وينتج عن ذلك ارتفاع متواصل في الأسعار، لعدم كفاية المنافسة. ويظهر ذلك جليّاً في ارتفاع معاليم الخدمات البنكية عموماً، بشكل غير مبرَّر اقتصادياً، على غرار فَوْتَرة بعض العمليّات البنكية التي يُفترَض أن تكون مجّانية، مثل عمليّات السحب الآلي من البنك نفسه التي لا تطلب جهداً إدارياً، ودفع معلوم غلق حساب جارٍ، ومعاليم جملة من العمليّات البنكية الإلكترونية، زيادة على توظيف رسوم على مسك حسابات الادّخار. وتتناقض بعض الرسوم والمعاليم مع المنطق، فعندما يقرّر حريف أحد البنوك في تونس تسديد دينه قبل آجال انتهائه، توظَّف عليه معاليم إضافية رغم أنّه سيوفّر للبنك سيولة نقدية بمفعول تضخُّم أقلّ من قاعدة الاحتساب.

في السياق ذاته، وفي مقارنة مع السوق البنكية الفرنسية – التي اعتمدناها في هذه المقالة بفعل التشابه لا كنموذج – التي تضمّ 28 بنكاً، نجد هوّة واسعة على مستوى أسعار العمليّات البنكية ومستوى الخدمات التي يُقدَّم بعضها بشكل مجّاني، على غرار العمليّات النقدية الإلكترونية وعمليّات السحب وفتح وغلق الحساب…، كما تقدّم تلك البنوك عروضاً ترحيبية نقدية وخدماتية للحرفاء الجدد قد تصل حدّ مجّانيّة الخدمات الأساسية لمدّة سنة.

يبيّن هذا الفرقَ بين سوق تنافسية وأخرى تنشط في إطار التكامل الأفقي أو الكارتيل، وهو ما يؤكّده مستوى جودة الخدمات البنكية في تونس. فهذه الأخيرة ما زالت قائمة على البيروقراطية في جزء كبير من عملها، في ظلّ ضعف الاندماج الرقمي، زيادة على ضعف خدمات الاستشارة والسرعة والقرب، ما أدّى إلى ارتفاع المردود المالي لخدمات دنيا، في تناقض مع قوانين السوق المفتوحة. 

في هذا الإطار، تغيب الشفافيّة على صعيد نشر ماهيّة الخدمات والمعاليم الموظَّفة عليها في الفروع البنكية أو على المواقع الإلكترونية للبنوك التونسية، ليتمكّن الحريف أوّلاً من فهم وثائقه وعمليّاته البنكية، وثانياً من القيام بعمليّة مقارنة بين مختلف الخدمات المقدَّمة ومعاليمها. تعتيم أدّى إلى غياب آليّة لمحاكاة الأسعار بين مجمل البنوك سواء في المواقع المختصّة أو على الموقع الإلكتروني للبنك المركزي، ليصل الأمر إلى الإخلال بالعلاقة التعاقدية عبر عدم إعلام الزبائن بحركيّة المعاليم.

تمثّل هذه الممارسات خرقاً للقواعد القانونية المنظِّمة للقطاع. فعلى سبيل المثال، يُجبر البنك المركزي الفرنسي جميع المصارف على إظهار لائحة تسعير الخدمات على مواقعها وفي فروعها في شكل ملصقات أو منشورات. كما يوفّر البنك الفرنسي للحرفاء على موقعه آليّة مقارنة تعريفات الخدمات المصرفية بين مختلف البنوك مصحوبة بقائمة تعرّف المصطلحات لتمكين الحريف من الاختيار العقلاني دفعاً للمنافسة. ولضمان سلامة العلاقة التعاقدية، تُلزم المصارف إعلام حرفائها بأيّ تغيير يمسّ لائحة المعاليم قبل شهرَيْن على الأقلّ من دخوله حيّز التنفيذ عبر سند إثباتي دائم (إرسال وثيقة عبر البريد أو نشرها في الحساب الشخصي للحريف على الموقع مُرفَقة برسالة إلكترونية).

الديون الداخلية مصدر لفوائض أرباح إضافية

ضخامة حجم مداخيل الكارتيل البنكي لا تعود فقط إلى ارتفاع المعاليم ونسب الفائدة، بل تتأتّى أيضاً من إقراض الدولة، الحريف المفضَّل للبنوك. إذ بلغ الدين العمومي الداخلي المصدَّر في شكل سندات خزينة في شهر جوان 2021، والمتأتّي أساساً من البنوك المقيمة 37280.3 مليون دينار بنسبة 30.61% من الناتج المحلّي الإجمالي. وقد تحصّلت الدولة سنة 2020 على قرض لدعم الميزانيّة من البنوك قُدِّر بـ 762 مليون دينار بنسبة فائدة في حدود 9.4%.

ضخامة حجم مداخيل الكارتيل البنكي تتأتّى بشكل خاصّ من إقراض الدولة، الحريف المفضَّل للبنوك.

ورغم أنّ القرض قصير المدى تُعَدّ الفائدة مرتفعة، وهذا مردّه إلى أنّ إعلان الدولة عن حاجتها للتداين الداخلي يصدر في شكل طلب عروض وهو ما يسمح لكارتيل المصارف بأن يحدّد حجم الإقراض وسعر الفائدة في غياب كلّي للمنافسة. وقد رفضت هذه البنوك مؤخَّراً شراء سندات خزينة طويلة الأمد لتمويل عجز الميزانيّة، لأنّها تفضّل القروض قصيرة الأمد باعتبارها استثماراً آمناً بمردوديّة مالية عالية. عمليّة لا يمكن تصنيفها سوى تحت عنوان المداخيل الريعية بامتياز، باعتبارها غير متأتّية من الإنتاج. كما تتعزّز هذه المردوديّة بقيام البنك المركزي بإعادة تمويل (شراء) السندات التي تتحصّل عليها البنوك مقابل إقراضها للدولة، بما يعني أنّ البنوك التجارية تقرض الدولة، فيضخّ البنك المركزي حجم الإقراض لهذه البنوك عبر الإصدار النقدي.

تعميم الخسائر وخوصصة المرابيح

يقوم النشاط البنكي أساساً على الوساطة بين مختلِف الفاعلين، أفراداً كانوا أم كيانات اقتصادية، عبر التصرُّف في وسائل الدفع وجمع الودائع التي تُوجَّه إلى منح القروض. بمعنى أنّه لا يخلق إنتاجاً مادّياً مباشِراً وإنّما يُساهم في خلقه بشكل غير مباشر عن طريق تمويل الاستثمار. لذلك يلعب البنك دوراً محورياً في خلق الثروة في الاقتصاد الرأسمالي.

بالعودة إلى البنية المصرفية في تونس، تُعتبَر هذه الوساطة مختلّة بالنظر إلى ما يحقّقه الكارتيل البنكي من فائض ربح عالٍ في مقابل تدهور مؤشّرات الاقتصاد الكلّي، وهو ما يطرح الأسئلة حول مدى حجم تدخّله في تمويل الاستثمار ومساهمته في النموّ.

في سنة 2019، حقّقت البنوك التونسية المقيمة ناتجاً بنكياً صافياً (PNB) بقيمة 5517 مليون دينار، وبنسبة تطوُّر عن سنة 2018 بلغت 13.3%. ويتكوّن الناتج البنكي الصافي بالأساس من الرسوم الموظَّفة على الخدمات البنكية وأسعار الفائدة الموظَّفة على القروض. في هذا السياق، بلغتْ نسبة الفائدة على القروض 55.2% من مجموع الناتج البنكي الصافي سنة 2019 مقابل 52.1% سنة 2018.

في المقابل، سجّلت أهمّ المؤشّرات الاقتصادية تراجعاً خلال الفترة نفسها. إذ تراجع نموّ الناتج المحلّي الإجمالي من 2.6% سنة 2018 إلى 1% سنة 2019، بينما حقّقت فرنسا على سبيل المثال نسبة نموّ مستقرّة للناتج المحلّي الإجمالي في السنتَيْن نفسهما، قُدِّرت بـ 1.8% إلّا أنّ نسبة الفائدة على القروض من مجموع الناتج البنكي الصافي الفرنسي مثّلت 46.8%، أي أقلّ بفارق ملحوظ (8.5 نقاط).

يتبيّن من خلال هذه الأرقام أنّ تطوّر الناتج البنكي الصافي للبنوك التونسية عائد إلى ارتفاع رسوم الخدمات، وبخاصّة إلى ارتفاع نسب الفائدة المُستخلَصة على مختلِف أشكال القروض. كما تعكس المعطيات المذكورة سابقاً، ارتفاع نسبة المديونية لتغطية العجز بالنسبة إلى الأسر والشركات والدولة، ما يجعلها قروضاً موجَّهة للاستهلاك لا لخلق الثروة. وهو ما يفسّر الأرباح البنكية الصافية. فعلى سبيل الذكر، حقّق 16 بنكاً – خصوصا تلك التي تتميّز بازدواجيّة المساهمات العائلية – سنة 2019 ارتفاعاً في المرابيح قُدِّر بـ 1478 مليون دينار مقابل 1227 مليون دينار حقّقها 18 بنكاً سنة 2018.

إذن، يؤكّد ما سلف ذكره أنّ البنوك تنشط في إطار ريعي أو «rent seeking» وتزدهر بإحكام قبضتها على القطاع واستغلال تموقعها السياسي والاقتصادي، لتتمكّن من تحقيق فائض ربح ريعي منتظم. كما تستحوذ العائلات المذكورة آنفاً، التي تضع يدها على القطاع المالي، في الوقت نفسه على الأقطاب الاقتصادية الريعية ذات المردوديّة المالية العالية لكون أنشطتها مُقيَّدة بالرخص التي تمثّل 50% من مجمل النشاط الاقتصادي. لتكون النتيجة بسط هيمنتها على الحصّة الأكبر من السيولة البنكية وتمويل نفسها بنفسها عبر الاقتراض بشكل آلي وبشروط تفاضلية، تضمن لها توسيع أنشطتها وديمومة أرباح غير مُستحَقَّة متأتّية من شبكة اقتصادية مُحكَمة التنظيم في إطار نادٍ عائلي يراكم الثروة باستغلال الادّخار الوطني.

شلل أدوات الدولة للرقابة على القطاع المالي

يُعتبَر الطابع الريعي للقطاع المالي أحد أسباب تدهور الاستثمار وارتفاع البطالة بالمعنى الماكرو-اقتصادي، وهو ما يتجسّد في تفاقم العجز والأزمة التي تجترّها البلاد منذ سنوات. يقع هذا القطاع تحت إشراف البنك المركزي باعتبار اختصاصاته الحصرية في صياغة السياسة النقدية والرقابة المصرفية وأنظمة ووسائل الدفع. في هذا السياق، يبدو البنك المركزي محايداً أو ربّما مُغيَّباً عن معالجة بنية اشتغال الكارتيل البنكي، فالتعرّض فقط لمسألة إقراض المجموعات القابضة “group holding” بشروط تفاضلية، كفيل بوضع مهمّته في مراقبة وسلامة العمليّات البنكية موضع شكّ.

من جانب آخر، تقوم السياسة النقدية للبنك المركزي على مكافحة التضخّم عبر آليّة الترفيع المتواصل في نسبة الفائدة المديرية لخفض كمّيّة النقد المتداوَلة، ممّا أفضى إلى ارتفاع ملحوظ في نسب الفائدة على الاقتراض (معدَّل نسبة الفائدة الموظّّفة على قروض الاستهلاك 12%). بيد أنّ هذه السياسة المقيِّدة لم تكبح البنوك، التي عملت على خلق قنوات مستجدّة «Revolving» تمكّن من التداين بتسهيلات عبر مجموعة من البطاقات البنكية بشكل متواصل وآلي، يمكّنها من مصدر ربح مضمون ويرتهن الحرفاء. ممارسات تتناقض وطبيعة السياسة النقدية المُعلَنة والقائمة على التقشُّف بدعوى مجابهة ارتفاع الأسعار ودفع الاستثمار لمكافحة البطالة.

يحيل ذلك إلى أنّ البنك المركزي يكتفي بأداء أدوار تتراوح بين الهيئة التقنية أو، أحياناً، سلطة تأديبية ناعمة. حكم تؤكّده نسبة التجاوزات التي تضمّنتها تقارير البنك المركزي نفسه. فعلى سبيل الذكر، لم تحترم 19 مؤسّسة مالية معايير الحذر على مستوى نسبة السيولة المسموح بها (11 مؤسّسة) ونسبة الإقراض الخاضعة لنسبة الودائع (9 مؤسّسات) سنة 2019.

تبدو مؤسّسات الدولة حارساً لحلف الريع، ما يمكّنه من تحصيل فوائض إضافية ريعية بشكل مجّاني على حساب الأفراد.

تُجابَه هذه التجاوزات بخطايا مالية لا تتلاءم مع حجم المداخيل التي تحقّقها المصارف في تونس. الأمر الذي يجرّدها من طابعها الردعي، وتالياً من نجاعتها الاقتصادية، بخاصّة في ظلّ تشابك خريطة المساهمات في 23 بنكاً مقيماً، لا يتجاوز عددها 8 بنوك مجموعة في أحسن الحالات. هذا الترابط، هو ما يجعلها تفرض شروطها على السلطة والحرفاء. أحد أبرز الأمثلة على ذلك، كان عندما أقرّ البنك المركزي سنة 2020 إجراءات تنصّ على أن تؤجِّل البنوك اقتطاع أقساط قروض الأفراد مدّة ثلاثة أشهر، كإجراء اجتماعي جرّاء الحجر الصحي بسبب كوفيد-19. إلّا أنّ المصارف، وفي إطار سياسة وفاقية، اقتطعت الأقساط المؤجَّلة بعد بضعة أشهر من انتهاء الحجر الشامل – أي في ذروة الأزمة الصحّية – بشكل متتالٍ باحتساب سعر الفائدة الجاري خلال فترة الاقتطاع، أي بتوظيف فوائض إضافية، وكأنّها تكتسي صبغة خطايا تأخير السداد بغطاء قانوني وبموافقة البنك المركزي. بهذه الممارسات، انتُزعت الصبغة الاجتماعية لقرار البنك المركزي، إضافة إلى التعتيم الذي شاب عمليّات الاقتطاع لاحقاً. مثال تبدو من خلاله مؤسسات الدولة حارساً لحلف الريع، ما يمكنّه من تحصيل فوائض إضافية ريعية بشكل مجّاني على حساب الأفراد، إلى جانب كونها مدخلاً للفساد وهو ما يُعرَف بـ «the phenomenon of regulator capture».

في سياق آخر، تتكوّن سلطات المنافسة من هياكل متداخلة ومتشعّبة متمثّلة في مجلس المنافسة والإدارة العامّة للمنافسة والأبحاث الاقتصادية، وهي إدارة عامّة تابعة لوزارة التجارة والصناعات التقليدية، تتكوّن بدورها من ثلاث إدارات فرعية متمثّلة في إدارة الأسعار والمنافسة وإدارة الأبحاث الاقتصادية والمرصد الوطني للتزويد والأسعار. تهدف هذه الهياكل إلى التصدّي للاحتكار والهيمنة وحماية المستهلك، وتنسحب رقابتها على القطاع المالي كاملاً. هذه الهياكل تتحرّك في إطار منظومة اقتصادية، نصفها قائم على التهريب والنصف المنظَّم، بدوره، نصفه ريعي. تراقب هذه الإدارات الاقتصاد المُهَيْكَل على مستوى سلامة المنافسة، وباعتبار أنّ المجال الريعي بطبيعته مغلق أمام التنافس بشكل مقنَّن، ينحصر هامش تدخُّلها بمراقبة الأسعار، التي هي بدورها غير تنافسية ما يؤدّي إلى رقابة بيروقراطية من دون أثر حقيقي على رؤوس الأموال الكبرى. أمّا باقي نشاطها، فينصبّ أساساً على رقابة القطاعات غير المقيّدة، التي يعمل في إطارها صغار التجّار والحرفيين والشركات الصغرى والمتوسّطة.

الريع يخلق سوراً بين الاقتصاد العيني والاقتصاد المالي

تفرض العيوب الهيكلية للقطاع المالي الوطني البحثَ في تأثيرات الاقتصاد المالي على الاقتصاد الحقيقي. فهذا الأخير يمثّل مجمل الاقتصاد العيني القائم على الاستثمار والإنتاج المادّي وخلق مَواطن الشغل والأجور والادّخار…، أمّا الاقتصاد المالي فدوره تمويل الاقتصاد الحقيقي. بقراءة الحصيلة الاقتصادية، نلاحظ خللاً وظيفياً يتمظهر في الفارق بين المداخيل التي يتضمّنها السجلّ المحاسباتي للمؤسّسات المالية والمؤشّرات السلبية للاقتصاد الحقيقي، الذي ينعكس بالخصوص في نسبتَيْ البطالة 18.4% والفقر 15.2%. تؤكّد هذه الأرقام الاختلالات التي تشوب جدوى ومردوديّة القروض المسداة وقنوات تصريفها التي تصبّ في اتّجاه خلق فائض الربح والمضاربة، لا بغرض الإنتاج.

كما يتجلّى هذا الخلل الوظيفي في طبيعة الصعوبات التي تمرّ بها الشركات الصغرى والمتوسّطة التي تمثّل نسبة 90% من النسيج الاقتصادي المحلّي في علاقة سببية بالتمويل. وقد تفاقمت هذه الصعوبات تحت وطأة أزمة الكوفيد وأدّت إلى إفلاس 88 ألف مؤسّسة وتهديد 54 ألف مؤسّسة بخطر الإفلاس. ويعود ذلك أساساً إلى امتناع جلّ البنوك عن هيكلة ديونها المتراكمة تجاه هذه المؤسّسات وخصّها بتسهيلات على مستوى السيولة، ممّا أدّى إلى تحميل وزر هذه الأزمة لدافعي الضرائب من خلال حزمة إجراءات جبائية تمتّعت بها الشركات المتضرّرة.

ويشير ذلك منهجياً إلى التباين بين السلوك البنكي المحلّي وطبيعة الهياكل المالية في السعي إلى إنقاذ الشركات ودفعها إلى التطوّر، من أجل استخلاص مستحقّاتها وتوسعة معاملاتها في إطار تنافسي. سلوك ينبع من القاعدة النظرية المؤسّسة عليها حول أنّ القروض تصنع الودائع، كسلسلة مولِّدة للربح «loans create deposits theory». إلّا أنّ السلوك البنكي المحلّي في تونس يتماهى مع طبيعة المنظومة المصرفية الريعية. ذلك، لأنّ الكارتيل البنكي يحقّق فائض ربح مضمون بطريقة طفيلية بدون مجازفة أو مجهود، وهو متأتٍّ من احتكاره السوق ومن تحكّمه في الطلب والعرض، ممّا يسمح له بالتملّص من دوره التنموي.

في إثر أزمة الرهن العقاري التي بدأت في الولايات المتّحدة الأميركية سنة 2008، والتي سبقتها أزمة تدهور أسواق الأسهم العالمية سنة 2001، اشتدّ النقاش حول النظام المالي العالمي كمولِّد بنيوي للأزمات، ما يجعله يمثّل خطراً مُحتمَلاً بشكل مستمرّ على استقرار النظام الرأسمالي المُعَوْلَم. فقد أدّى ازدهار سوق العقارات الأميركي إلى احتدام المنافسة بين مؤسّسات الإقراض للرفع من الأرباح، ما أدّى بها إلى إسداء قروض الاستثمار بدون ضمانات وبمخاطر عالية. رغم التناقضات الداخلية التي تميّز هذا النظام الخاضع لحوكمة الدول الرأسمالية، فإنّه يكتسي صبغة محورية في مراكمة الثروة في اقتصاداتها الصناعية الضخمة. وللحفاظ على صيرورة عمليّة التراكم، لا تجد هذه الدول حرجاً في مراجعة النظريّات الكلاسيكية الليبرالية للتكيّف مع تطوّر الأحداث، على غرار مقولة إنّ السوق تخضع لقانون التعديل الذاتي، ما دفعها إلى التدخّل المباشِر لإنقاذ اقتصاداتها الكلّيّة.

في تونس، ورغم أنّ مؤسّسات الإقراض الريعية هي أحد إفرازات النظام الرأسمالي، إنّها نتاج مشوِّه له وتتناقض معه على مستويات عدّة، باعتبارها لا تساهم في تطوير الإنتاج المادّي، إنّما تنتج طفرة مالية ناتجة عن تقييد السوق. هذا ما ينتج عنه خلق فئة محافظة من الأثرياء تعرقل مسار التطوّر وتربطها علاقات انتهازية مع الأجهزة البيروقراطية للدولة وسياسييها، ممّا يؤدّي إلى خلق شبه قطيعة بين الكفاءة والعمل، وإلى تهميش رأس المال الرمزي. وفي ظلّ تواصل هذه المنظومة، يصبح الحديث عن أيّ مشروع تنموي بلا معنى، نظراً إلى الدور الرجعي الذي تلعبه هذه الفئة في المجتمع، التي تتناقض تالياً، في الجوهر، مع طبيعة الطبقة البورجوازية التي لعبت أدواراً تقدّمية في مجتمعاتها. هنا يمكن أن نعتقد أنّ مَن يتبنّى مقولة رأس المال الوطني والبرجوازية الوطنية في بلادنا يعيش حالة انفصام مع الواقع.

نشرت هذا المقالة في العدد 24 من مجلة المفكرة القانونية – تونس: الريع المُخضرم


1. كارتيل (Cartel): كلمة أو مصطلح لاتيني مشتق من كلمة (Charta) اللاتينية والتي تعني الميثاقوهو اتّفاق، غالباً ما يكون مكتوباً، بين عدد من المشاريع تنتمي إلى فرع معيَّن من فروع الإنتاج لأجل تقسيم الأسواق أو تنظيم المنافسة، مع الإبقاء على شخصيّة كلّ مشروع من الناحيتَيْن القانونية والاقتصادية، بحيث لا تندمج ببعضها.
 2. احتكار القلّة: أحد أشكال احتكار السوق حين يكون محكوماً من قِبل عدد قليل من مقدِّمي بضاعة أو خدمة معيّنة.
 3. مواقع عدد من البنوك الفرنسية التي أشرنا إليها (BNP Paribas, Fortuneo banque Boursorama banque…).
 4. Site banque de France.
 وزارة الاقتصاد والمالية ودعم الاستثمار، نشريّة الدين العمومي جوان 5. 2021.
6. Banque centrale de Tunisie BCT, Rapport Annuel sur la Supervision Bancaire 2019.
7.  IBID.
8.  Banque mondiale.
 9. Banque France, Les chiffres du marché français de la banque et de l’assurance 2019.
10. Banque centrale de Tunisie, Rapport Annuel sur la Supervision Bancaire de 2019, date publication Mars 2021. 
11. Révolution inachevée.
12. Banque centrale de Tunisie, Rapport Annuel sur la Supervision Bancaire de 2019, date publication Mars 2021.
13. تختلف جذرياً عن عيوب القطاع المالي في الدول الرأسمالية الخاضع لمنافسة حادّة وأزمة الرهن العقاري لسنة 2008 التي تمخّضت عنه.
14.  المعهد الوطني للإحصاء، معدّل البطالة لسنة 2021، معدّل الفقر لسنة 2015 آخر إحصاء وطني. وقدّر البنك الدولي سنة 2020 ارتفاع نسبة الفقر بـ 3.7% وارتفاع نسبة المهدَّدين بالفقر بـ 20.1%، وثيقة بعنوان “الاقتصاد التونسي: عرض عامّ”، موقع البنك الدولي.
 15. كنفدرالية المؤسسات المواطنة التونسية (Conect).
16. المعهد الوطني للإحصاء.
انشر المقال

متوفر من خلال:

مصارف ، مقالات ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، اقتصاد وصناعة وزراعة ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني