«الذُهان السياسي»: السلطة الشعبوية منفصلةً عن واقعها


2023-08-29    |   

«الذُهان السياسي»: السلطة الشعبوية منفصلةً عن واقعها

في خطاب مكتوب، وليسَ مُرتجلا كعادته، قال الرئيس التونسي قيس سعيّد، في عام 2021، وعيناه تُراوحان بين النّظر في الكَاميرا وبين التّحديق في الورقة على المنبر الخشبي الأحمر في قصر قرطاج: «أشعر في بعض الأحيان بأنني من كوكب آخر». يمكن أن نُكيل لوماً طويلاً وعميقاً لسعيّد، لكن يجب أن نعترف له بأنه كان دائماً واضحاً ويقول ما يفكّر فيه بشكل مباشر، غير أنّنا كنّا دائماً لا ننتبه لما يقول في غمرة التعجب من شكل القول أو الاختزال الذي أصبح نهجاً عامّاً في التلقي. نعم نحن أيضاً نشعر-دائماً وليس أحياناً -أن الرئيس قادم من كوكب آخر، ليس بذلك المعنى الحرفي المجسّد لصورة سكان الكواكب الأخرى إن وُجدوا، ولكنه بالمعنى المَجازي الذي يتلخص في انقطاعه عن الواقع الذي نعيشه. وربّما كان ذلك الانقطاع يعبّر عنه بأنه قادم من زمن آخر على وجه الدقة. حيث يدُور خطابه وسياسته حول تشخيص وحلول لمشاكلنا لا تنتمي لواقع حالنا، بقدر ما تأتي من بقاع وأزمان ليست منا ولا نحن منها.

كيف يمكن أن نُشخّص هذه الحالة السياسية؟ بين علم النفس والتحليل النفسي من جهة والسياسة من جهة أخرى وشائج قوية؛ منذ منتصف القرن الماضي ظَهرَت المعالم الأولى لما أصبح يُعرف بعلم النفس السياسي، وقبلها دأبَ علماء مدرسة فرانكفورت النقدية على بناء نهج تحليلي متعدد التخصصات لمقاربة الفاشية، كان من بين أضلاعه الرئيسية تحليل الجوانب النفسية للأفراد والسّلطة، مثلما يَظهر ذلك بوضوح في «نظرية الشخصية الاستبدادية»[1] التي أشرفَ على صياغتها تيودور أدورنو ضمن فريق بحثي لاستخلاص السّمات الشخصية والقِيم والمواقف التي تجعل الشخصيات الاستبدادية تُظهر ميولاً وسلوكيات فاشية ومُعادية للديمقراطية وغير مُتسامحة. كما يمكن أن نجد الملامح الأولى للربط بين علم النفس والسياسة على نحو أكثر قِدماً في بحث أرسطو حول «الشهامة» بوصفها «فضيلة أساسية للحكام»[2]، والتي أعاد مونتسكيو صَوغها على نحو آخر في تعديد الخصال النفسية للحكم الرشيد. لذلك فضمن هذه المقاربة «البسيكو -سياسية» يمكن أن نُحلّل هذا التناقض الواضح، والمُثير للتعجب، في سلوك وخطاب السلطة الشعبوية في تونس.

التشوّه الإدراكي بوصفه نهجاً سياسياً

في مستوى سياسي ظاهر من التحليل يبدُو توظيف التفكير التآمري من طرف السلطة سلوكاً واعياً للهروب من استحقاقات الواقع الاجتماعية والاقتصادية أساساً. وربّما يكون هذا التوظيف متجاوزاً لطبيعة السلطة الشعبوية الحالية، حيث دأبت الأنظمة السابقة وأنظمة كثيرة حول العالم، سلطوية وديمقراطية، على توظيف المؤامرة لتحقيق مكاسب سياسية أو لضمان ولاء السكان. لكن في مستوى آخر، يبدو أن المؤامرة المُزمنة التي تلوّح بها السلطة في تونس اليوم، أصبحت سلوكاً لا واعياً، أي نوعاً من التشوّه الإدراكي للواقع. حيث لم تغادر هذا المربع منذ انقلاب 25 جويلية 2021، رغم أن المحكومين ومن بينهم قطاع واسع من أنصار الرئيس، قد ضاقوا ذرعاً بالذرائع التآمرية في تبرير الفشل المديد الذي يعيشونه مُجسّداً في موجات غلاء لا تتوقف وندرة غير مسبوقة في المواد الأساسية. ورغم ذلك يُصرّ الرئيس ومن ورائه عدد من رموز السلطة على السّير في النهج نفسه. ليس لأنهم غير قادرين على اجتراح ذرائع جديدة أو تغيير تكتيك المماطلة، بل يبدو لي أنّهم لا يستطيعون الفَكاك من فقاعة الانفصال الوهمي التي يعيشون داخلها، أو لنسمّيها على نحو أدق حالة «الذُهان السياسي».

الذهان هو مصطلح عام في الطب النفسي يشير إلى: «اضطراب أو حالة غير طبيعية للعقل، وغالبًا ما يُثير هوسًا واحدًا أو أكثر مما يؤدي إلى فقدان الاتصال بالواقع. يتكون الذهان من عدة مراحل ويتم ملاحظته بشكل عام من خلال الاضطرابات السلوكية والاضطرابات النفسية. قد يُعاني الأفراد المصابون بالذهان من أعراض مثل: الهَلوسة أو الأوهام أو الجمود أو اضطرابات في تدفّق الأفكار وغالباً ما يُنظر إليهم على أنّهم في حالة مزدوجة وأن أفعالهم خارجة عن إرادتهم. وقد يصاحب هذا الاضطراب أيضًا صعوبات في الاندماج الاجتماعي، وبالتالي فإن الاضطراب يُضعف الإدراك الحقيقي للأشياء، ولذلك يجد الفرد صعوبة في تمييز الصحيح من الكاذب، والحقيقي من الخيالي»[3].

مستعيناً بكتاب دانيال بول شريبر «مذكرات مريض عصبي»، صاغَ فرويد أول نظرية للذهان بين عامي 1909 و1911، من خلال مفهوم «تقسيم الأنا»، أي التّعارض بين الأنا والواقع، وتخلَّى عن فكرة الفصام لصالح فكرة «جنون العظمة» التي أصبحت «النموذج البنيوي للذهان بشكل عام». حيث عرّفه بأنه «الهلوسة التي يتّجه فيها الفرد نحو نفسه فقط، ويقطع الاتصال بالواقع والعلاقات مع الآخرين»[4]. من خلال تطبيق هذا التشخيص الضيّق في علم النفس على السلطة بشكل أوسع سنجد تطابقاً غريباً، حيث تعاني الشعبوية الحاكمة اليوم في تونس من انفصال واضح عن واقع مجالها المحكوم وعن قضايا المحكومين. وانقطاع أكثر وضوح في العلاقة مع الآخرين، أحزاباً ومنظمات وأفراداً ودولاً. كما يظهر الانفصال عن الواقع في تشخيص مشاكل ندرة الغذاء بوضوح، حيث تُعيد السلطة المشكل الأساسي لذلك إلى الاحتكار والمحتكرين، ورغم النهج الأمني في معالجة هذا المشكل فإن حالة الندرة في تصاعد، وقائمة المواد الأساسية المفقودة من الأسواق تتسع يوماً فآخر. وهنا تظهر السلطة كالمتخبّط الذي يضرب بسيفه البحر، مضطرباً ومتوهماً أعداءً غير موجودين إلا في خياله. وفي مثال آخر نجد هذا الوهم أكثر وضوحاً، في قضية المهاجرين القادمين من إفريقيا جنوب الصحراء.

هذا التشوه في إدراك الواقع ليس فقط مُضراً في مستوى غياب الحلول للمشاكل التي تتراكم دون أفق، والتي بلغَت حدّ تهديد الوجود الحيوي للسكان، بل يقود في نهج معاكس إلى تفاقم هذه المشاكل وإنتاج مشاكل أخرى تتعلق أساساً بزيادة وتيرة القمع والقبضة السلطوية للنظام الحاكم على المجال والسكان. ذلك أن فشل السلطة الشعبوية في تحقيق شعاراتها يزيد دائماً من الهلوسة والأوهام أو الجمود، وتالياً يعمّق صعوبات اندماجها مع الواقع الاجتماعي، فلا تجد من سبيل سوى مزيد من القبضة الأمنية، حيث لا تجد تحت يدها إلا البيروقراطية، ولاسيما البيروقراطية الأمنية لإدارة علاقات الولاء والطاعة بينها وبين المحكومين. ويظهر هذا بوضوح في الهبَّة السلطوية الأخيرة، ضد الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، والتي تجنّدت لها ثلاث وزارات سيادية، بعد أن عجزت عن إيقاف سيل السخرية والنقد ضد سياساتها في الفضاء الافتراضي، كما فعلت في المجال العام الواقعي.

«متلازمة الشهيد» أو في فوائد «حرب التحرير الوطني»

«تونس اليوم تخوض حرب تحرير وطني»، «نخوض اليوم حرب تحرير وطني»، «نحن في حرب تحرير وطني»؛ لا يكفّ الرئيس قيس سعيد عن تذكير التونسيين بأنهم في حالة حرب تحرير وطني، لكنه في الوقت نفسه يُحافظ على سرية هوية العدو، حيث يخوض الشعب من وراء قائده حرباً لا يعرف فيها هويّة عدوه على وجه التدقيق. ومع ذلك فقطاع واسع من هذا الشعب يخوض معركته الوهمية بشغف وصبر وحماس وأمل في الانتصار الحاسم والنهائي والقريب أيضاً. في مستوى سياسي من التحليل، تبدو فكرة حرب التحرير الوطني وسيلة دعائية للقائد الشعبوي كي يزيد من مساحة الولاء الشعبي أولاً، ويؤسس لمناخ شعّبوي ينقسم فيه المجال والسكان بين وطنيين يقودهم قائد وطني في مواجهة حفنة من الخونة والعملاء، دون النّظر في مستويات الانقسام الواقعية طبقياً وجهوياً، والتي منها تنبع أغلب مشاكل البلاد التي تفشل السلطة رغم درجة تركز السلطات في يدها في حلّها أو الحيلولة دون تفاقمها. تُوفّر هذه الفكرة الحماسية الحربيّة مساحة للنظام ورئيسه كي يُمعن في سياسات أمنية ضاغطة ويؤجّل أحلام أنصاره في السيادة والازدهار، تحت ذريعة تكالب الأعداء إلى أن تُلقي الحرب أوزارها ويعمّ الرخاء.

لكن في مستوى آخر من التحليل، أكثر نفوذاً في عقل السلطة، تبدو فكرة «حرب التحرير الوطني» التي لا تغادر خطاب الرئيس سعيّد تجلياً واضحاً لــ «متلازمة الشهيد»، التي يتمثّلها القائد الشعبوي دائماً، بوصفه البطل الذي يذهب إلى مأساته واثقاً. في علم النفس، يرغب الشخص الذي لديه «متلازمة الشهيد»، التي ترتبط أحيانًا بمصطلح «عقلية الضحية»، في الشعور بأنه شهيد من أجل نفسه ويسعى إلى المعاناة أو الاضطهاد لأنه إما يُغذّي حاجة جسدية أو رغبة في تجنّب المسؤولية. وفي بعض الحالات، يَنتج ذلك عن الاعتقاد بأن الفرد قد تمّ استهدافه بالاضطهاد بسبب قدرته الاستثنائية أو استقامته[5]. وقد عبرّ سعيد عن هذا النزوع الاضطهادي باكراً حيث قال في حوار قبل وصوله السلطة: «أترشح وأنا مكره على ذلك؛ قال تعالى كًتبَ عليكم القتال وهو كره لكم». لاحقاً وبعد عامٍ من السلطة يقول الرئيس متحمّساً: «إننا نقف اليوم مصرّين على مواصلة المعركة على كافة الجبهات وسننتصر لأننا لن نقبل أبدا بالهزيمة، إما النصر أو الشهادة». وبعد الانقلاب بأيامٍ يعيد مكرراً: «نحن لا نقبل إلا بالنصر أو الاستشهاد من أجل الوطن». يُعبّر هذا المعجم القَدَري عن أجواء نفسية متوترةٍ، تنعكس مباشرةً في تقاسيم الوجه وحدّة الكلام ومخارج الحروف القاسية وخاصة في سياسات عشوائية لا يقُودها العقل بقدر ما تقودها العاطفة تتجلّى بوضوح في حركة تعيين المسؤولين لأيام أو لشهور ثم عزلهم، دون أن تعلم جموع المحكومين، لماذا تم تعينهم أو لماذا تم عزلهم؟ ذلك أن السلطة الشعبوية تعتقد أنها مُستهدفة حتى من داخلها، من أقرب المقربين منها، فالمؤامرة التي تطالها كالتنين ذي الرؤوس الكثيرة، لذلك فهي تَخلق سردية بطولة وهمية بوصفها ملخّصةً في القائد الشعبوي، الوحيدة القادرة على هزم كل هؤلاء الأعداء. وفكرة الوحدة هنا تُحيل إلى سمة أخرى من سمات «متلازمة الشهيد»، حيث يعتقد القائد الشعبوي أنه وحده القادر على فعل ذلك، لأنه لا يثق في عمل الآخرين، بمن فيهم أعضاده في جهاز الدولة.


[1] Theodor W. Adorno, Études sur la personnalité autoritaire (traduit de l’anglais par Hélène Frappat), Allia, Paris, 2007 (1re éd. en anglais 1950), 435 p. (ISBN 978-2-84485-233-5)

[2] – Aristote – Morale à Eudème – Livre III : analyse des quelques vertus particulières – Chapitre V

                   https://remacle.org/bloodwolf/philosophes/Aristote/eudeme3-5.htm .

[3] – P. Fusar-Poli, G. Deste, R. Smieskova, S. Barlati et AR. Yung, « Cognitive functioning in prodromal psychosis: a meta-analysis », Arch Gen Psychiatry, vol. 69, no 6, ‎ juin 2012, p. 562–71 DOI https://dx.doi.org/10.1001/archgenpsychiatry.2011.1592

[4]   Elisabeth Roudinesco et Michel Plon، Dictionnaire de la psychanalyse، Paris، Fayard، coll. «La Pochothèque» , 2011 (1re éd. 1997) (ISBN 978-2-253-08854-7), p. 1256

[5] Davis, Sheldon E. (September 1945). “What Are Modern Martyrs Worth ?”. Peabody Journal of Education. 23 (2) : 67–68. DOI : https://doi.org/10.1080%2F01619564509535934

انشر المقال

متوفر من خلال:

أحزاب سياسية ، مقالات ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني