الحكومة تواجه القضاء… والقانون: لا بديل عن “ليبان بوست”


2022-12-13    |   

الحكومة تواجه القضاء… والقانون: لا بديل عن “ليبان بوست”

منذ اعتبار الحكومة مستقيلة بعد الانتخابات النيابية، كان يُنتظر عقد مجلس الوزراء في إطار تصريف الأعمال. لكن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي فضّل سلوك طريق الموافقات الاستثنائية، بالتوافق مع رئيس الجمهورية، خلافاً لأي منطق دستوري، وخلافاً لكل الآراء التي أكّدت على أن تصريف الأعمال يُفترض أن يتمّ من خلال قرارات يتخذها مجلس الوزراء في القضايا المصنّفة ضرورية. بعد الفراغ الرئاسي، لم يعدْ ميقاتي نفسه يُمانع تطبيق الدستور طالما أنه بات يناسبه، فدعا مجلس الوزراء إلى الاجتماع للنظر في جدول أعمال صُنّف في خانة الضرورة. 

إبراء ذمة ليبان بوست من الضرورات

وبغض النظر عن الخلاف السياسي المرتبط بمبدأ انعقاد مجلس الوزراء أو في تفاصيل جدول الأعمال، كان لافتاً تهريب بند لم يكن على جدول الأعمال النهائي، ولا يمكن أن يُصنّف ضمن خانة الضرورة. فجأة، وجد مجلس الوزراء أنّ إبراء ذمّة شركة “ليبان بوست” هو من الضرورات، فوافق على طلب وزير الاتصالات جوني القرم تكليفه وتفويضه التوقيع على عقد المخالصة والإبراء مع الشركة، بعدما أجريت المخالصة حتى نهاية العام 2019، بإيداعها شيكين في الخزينة، الأول بقيمة 13.7 مليار ليرة والثاني بقيمة 1.5 مليار ليرة. وإذا كان مبلغ ال1.5 مليار ليرة هو الذي أشار إليه تقرير ديوان المحاسبة بوصفه الرقم الصحيح للمقاصة المفترضة (بدلاً من 3.2 مليار ليرة الذي كانت تطالب بها الشركة)، فقد بدا غامضاً دفع 13.7 مليار ليرة إضافية. لكن وزير الاتصالات، وخلافاً لما تضمنه قرار مجلس الوزراء، أوضح أن الشركة دفعت للدولة 1.5 مليار ليرة فقط. استدعى هذا اللغط توضيحاً من مصادر معنية أشارت فيه إلى أن المبلغ الآخر هو المبلغ الذي كان مستحقاً للشركة على الإدارات والمؤسسات العامة لقاء نقل بريدها، وقد دفعته وزارة المالية للشركة في شهر حزيران الماضي، قبل أن تعود الأخيرة وتردّه للخزينة، إضافة إلى 1.5 مليار ليرة في أيلول الماضي. أما الهدف فكان فقط تجنب إجراء مقاصة مباشرة، على اعتبار أن تلك الخطوة غير قانونية، ما يعني أن الدفع المتبادل للمبلغ نفسه كان لزوم ما لا يلزم. 

وزير الاتصالات برّر خطوته تلك بتنفيذ قرار سابق لمجلس الوزراء قضى بإجراء مخالصة مع “ليبان بوست” بناء على تقرير ديوان المحاسبة وإطلاق مزايدة لإدارة القطاع (القرار رقم 14 تاريخ 18/6/2020). ولأن المجلس لم يفوضه إبراء ذمة الشركة بعد إجراء المخالصة البالغة قيمتها 1.5 مليار ليرة، فقد طلب وزير الاتصالات الموافقة على تفويضه وهو ما حصل في الجلسة الأخيرة، مبرراً ذلك بعدم ضمان أن ينعقد مجلس الوزراء قبل موعد المزايدة في 24 كانون الثاني المقبل. وبشكل غير مفهوم، ربط القرم بين إبراء ذمة الشركة واستمرارية المرفق العام وإمكانية فضّ العروض، بما يوحي أن مشاركة “ليبان بوست” في المزايدة هي الضمانة الوحيدة لنجاحها (الوحيدة التي تقدمت إلى المزايدة)، وبالتالي استمرار القطاع العام. علماً أن هذا القرار لن يلغي الحاجة إلى قرار ثانٍ من مجلس الوزراء يقضي لاحقاً بالموافقة على توقيع وزير الاتصالات للعقد مع أيّ شركة فائزة بالمزايدة (تؤكد مصادر وزارية أن وزير الاتصالات طلب تفويضاً بالتوقيع عند فضّ العروض إلا أنّ المجلس لم يوافق). كذلك فإنّ عدم توقيع العقد مع أيّ شركة فائزة لن يؤدّيَ إلى توقّف عمل المرفق العامّ، فمجلس الوزراء سبق أن مدّد لـ “ليبان بوست” حتى نهاية 2023، أو إلى حين توقيع العقد مع الملتزم الجديد. 

الوزير يميّز حيث لم يميّز القانون تبريرا لمخالفته

الوزير عاد وأكد لمحطّة “أم تي في” أن إبراء الذمّة لا يشمل أي شيء سوى ما تضمنه تقرير الديوان، معتبراً أن لا علاقة لهذا الإبراء بأيّ دعاوى سابقة أو لاحقة بحقّ ليبان بوست. وفي التفاصيل، تبيّن أن الوزير لم يعطِ أهميّة للدعوى العالقة بين الدولة والشركة في مجلس شورى الدولة، مفترضاً أنه طالما لا وجود لحكم بحق الشركة أو لدعوى جزائية ضدها فإن لا مانع من إبراء ذمتها، على أن يسبق ذلك كتاب من الوزارة إلى ديوان المحاسبة يعلمه فيه بإنجاز المقاصة المشار إليها في تقرير الديوان، وبموافقة مجلس الوزراء على إبراء ذمة الشركة بناءً على ذلك (يتوقع إرسال الكتاب بين اليوم وغداً). 

لكن فات وزير الاتصالات أن المادة 20 من قانون تنظيم وزارة العدل لا تميز بين طبيعة الدعاوى إن كانت جزائية أو إدارية أو مدنية، إذ تنص بشكل واضح على أنه “لا يجوز للإدارات العامة التابعة للدولة إجراء المصالحات في الدعاوى العالقة أمام المحاكم والتي يكون للدولة علاقة بها إلا بعد موافقة رئيس هيئة القضايا ومدير عام وزارة العدل وتعتبر باطلة كل مصالحة تعقد خلافا لهذا النص”. وأكثر من ذلك، تشير المادة نفسها إلى أنه لا يمكن تجاوز موافقة هيئة القضايا إلا في حالة وحيدة هي عدم موافقة المدير العام على رأي رئيس هيئة القضايا حول المصالحة، بحيث يكون له عندها أن يطلب إعادة النظر بها. وفي حال الإصرار عليها، يكون له أن يُحيل القضية أمام الهيئة الاستشارية العليا (وهي هيئة أخرى داخل وزارة العدل) فتبتّ بها بشكل نهائي.

بالنتيجة، لم يكتف وزير الاتصالات بالتغاضي عن رأي هيئة القضايا الملزم له، بل تعمّد تسخيف تقرير الديوان من خلال انتقائه منه ما يناسب السير بإنجاز المقاصة وإبراء ذمة الشركة، فيما الديوان عمد إلى توثيق المخالفات وقدم التوصيات المطلوب تفاديها في العقد الجديد حفاظاًَ على المال العام، كما كشف ثغرات العقد وكيفية تفويت أرباح طائلة على الدولة. وهو بالتالي دقّق في الحسابات المُعدّة من قبل وزارة الاتصالات و”ليبان بوست” ولم يحقّق في حجم الهدر، تاركاً الأمر للوزارة نفسها وللجهات القضائية المعنية. وللتذكير، إضافة إلى كشف التقرير خطأ في احتساب المقاصة، بما يؤدي إلى أن تكون الشركة مدينة للدولة ب1.545 مليار ليرة بدلاً من أن تكون الدولة مدينة لها ب3.2 مليار ليرة كما كانت الشركة تُطالب (الفارق بين ما تطلبه من الدولة لقاء نقل بريد المؤسسات والإدارات الرسمية وحصة الدولة من إيرادات البريد)، فقد تطرق الديوان إلى عدد من الإشكالات، التي يعتبر أنها كافية لمساءلة مجلس النواب للوزراء المتعاقبين عن أسباب الهدر، والتي تؤكد، بالتالي، وجوب الاستمرار في الدعوى في مجلس شورى الدولة، ومنها: 

  • استفادت الشركة من أملاك الدولة من دون مقابل ولم تدفع أي بدلات تذكر على مركزيْ المطار ورياض الصلح.
  • حُمّلت الخزينة أمولاً طائلة تُقدّر ب 43 مليار ليرة، منذ العام 2001 وحتى العام 2019، بدلاً لنقل بريد المؤسسات والوزارات (لم يتمكّن الديوان من التحقّق منها)، متغاضية عن وجوب التحاسُب المباشر بينهما وبين الجهات المعنية، على ما ينص العقد، مع تغافلها أيضاً عن وجوب التوقّف عن نقل بريد الإدارات المتخلّفة عن الدفع، مقابل إلزام وزارة الاتصالات بدفع هذه المستحقات.
  • كان العقد ينص على أن تراقب “ليبان بوست” شركات نقل البريد الدولي، مقابل رسوم تدفعها هذه الشركات، على أن تحصل الدولة على حصة في حال فاقت هذه الرسوم 50 ألف دولار شهرياً، أي ما يعادل 900 مليون ليرة سنوياً. لكن بحسب البيانات المقدّمة من الشركة، لم يتم تخطي هذا المبلغ خلال 20 سنة، ما حرم الخزينة أموالاً طائلة، خاصة أن هذه الرقابة كانت من مهام المديرية العامة للبريد. 

وعليه، فإن إبراء ذمة الشركة لن يكون ممكناً، طالما أن الحكم لم يصدر وطالما أن إمكانية وجود أموال إضافية للدولة في ذمة الشركة لا تزال قائمة، إن لم يكن من خلال ما يصدر عن شورى الدولة فبسبب اقتصار براءة الذمة على الفترة التي تنتهي في نهاية 2019، ما يعني أن الفترة الي تلي وحتى توقف الشركة عن العمل لن تكون مشمولة، ومن الممكن أن تتضمن أموالاً إضافية لصالح الدولة. 

وحتى لو صدر قرار عن مجلس الوزراء، فالمجلس لا يمكنه أن يعوّض موافقة صريحة من رئيسة هيئة القضايا على إبراء الذمة أو سحب الدعوى، خاصة أن المادة 20 تشير أيضاً إلى أن كل مصالحة تعتبر باطلة إذا لم توافق عليها هيئة القضايا. وهذا الأمر سبق أن أكدت عليه قاضية الأمور المستعجلة في بيروت كارلا شوّاح في قرارها الصادر في 30/10/2020. وفي التفاصيل، تقدّم المساهم في شركة “تاتش” وسيم منصور بطلب أمر على عريضة أمام شوّاح يطلب فيه شطب بند منح براءة الذمة للشركة المشغلة (الشركة الكويتية) والذي كان مجلس إدارة شركة “تاتش” أدْرجه على جدول أعمال الجلسة الأخيرة قبل تسليم إدارتها للدولة، بسبب وجود دعوى جزائية ضد إدارة الشركة تتعلق بشبهة هدر عشرات ملايين الدولارات من الأموال العامة تتصل بصفقات تأجير مبنى للشركة وشرائه. وقد عزّز الطلب بلائحة صدرت عن هيئة القضايا تطالب القضاء المُستعجل بالشيء نفسه أي بشطب بند منح براءة الذمة، على اعتبار أنها تخفي مصالحة لا يمكن حصولها من دون موافقة هيئة القضايا سندا للمادة 20 من قانون تنظيم وزارة العدل. 

وعليه، أصدرت القاضية شواح قراراً بشطب منح براءة الذمة من جدول الأعمال، وقد جاء في قرارها ما حرفيته: “إن هيئة القضايا هي من يمثّل الصالح العام وتقوم بجميع الأعمال التي يتطلبها الدفاع عنه وليس وزير الاتصالات”. 

وبالتالي، فإن إسقاط هذه السابقة على قضية “ليبان بوست” يؤكد مجدداً أن هيئة القضايا هي التي تمثّل مصالح الدولة. وطالما أن هذه الهيئة تشكّ بوجود هدر للمال العام، وتصر على رفض سحب الدعوى المقدمة في الأصل من “ليبان بوست” أمام مجلس شورى الدولة لأسباب اعتبرها “الشورى” موضوعية، فإنه لا يمكن لوزير الاتصالات ولا لمجلس الوزراء تجاهل هذا الرأي وإعطاء براءة ذمة لشركة “ليبان بوست”، علماً أن الطريق الوحيدة لذلك تتمثل في صدور قرار مجلس شورى الدولة بما يثبت عدم وجود أي هدر للمال العام، وهو ما لم يحصل حتى اليوم.

انشر المقال

متوفر من خلال:

سلطات إدارية ، أحزاب سياسية ، قرارات إدارية ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني