20 عاماً من سيادة “ليبان بوست”: الدولة في خدمة شركة


2021-11-15    |   

20 عاماً من سيادة “ليبان بوست”:  الدولة في خدمة شركة
رسم رائد شرف

ارتبطت خدمات البريد في لبنان باسم “ليبان بوست” منذ أكثر من عشرين عاماً. كلّما انتهى عقدها، مُدّد. لطالما كانت الحجّة هي نفسها: لا يمكن إيقاف الخدمات البريدية. أما المزايدة العالمية المرتقبة، فتحوّلت إلى مُبرّر آخر لتكريس مبدأ التمديد، انطلاقاً من تعذّر إجراء المزايدة لأسباب تتعلّق بعدم وجود استقرار في الحكم (إما فترات طويلة من تصريف الأعمال أو خلافات سياسية). أما بديهية عودة إدارة القطاع إلى المديرية العامة للبريد، بعد انتهاء مدة العقد، أسوة بما حصل في قطاع الخلوي، فقد سبق أن رُفضت بشكل جذريّ بحجة أن طبيعة العقدين مختلفة.

تعود فترة تولّي “ليبان بوست” لخدمات البريد إلى 22 تموز 1998. منذ ذلك التاريخ، شاب العقد الكثير من الإشكالات والشكوك، التي فنّدتها لجنة الاتصالات النيابية بشكل رسمي في جلسة عقدتها في 1/4/2021، ثم ديوان المحاسبة، في تقرير أنجزه في 8/6/2021، بُني على إخبار مقدّم من رئيس اللجنة النائب حسين الحاج حسن. كما كان لافتاً أنه لم يتمّ، طيلة هذه المدة، إجراء أيّ مقاصّة بين وزارة المالية والشركة، بالرغم من صدور قرارات حكومية عديدة بهذا الصدد (2004، 2007، 2009، إضافة إلى 2018 و2020). فقط كانت وزارة المالية تضع الأموال في حساب ضمن لائحة حسابات محتسب المالية المركزي باسم “حساب مقاصّة مع شركة ليبان بوست” يتضمّن كافّة حوالات الصرف لصالح الشركة لقاء قيامها بالخدمات البريدية الخاصّة بالإدارات العامّة الرسمية، حيث بلغت قيمة هذا الحساب منذ العام 2007 ولغاية نهاية 2019 ما يُقارب 12.336 مليار ليرة.

الديوان يُصحّح المقاصّة و”ليبان بوست” تلتزم

في العام 2018، صدر قرار عن مجلس الوزراء (رقم 64 تاريخ 26\4\2018) قضى بتفويض وزير الاتصالات التفاوض مع شركة “ليبان بوست” بشأن احتساب الفارق بين مستحقّاتها من الوزارات والمؤسّسات العامّة والبلديات لقاء نقل بريدها، وبين مستحقات وزارة الاتصالات، وتنظيم مخالصة وإبراء بين الطرفين وعرضه على مجلس الوزراء. وبالفعل، أحال وزير الاتصالات تقرير المدقّق المالي إلى مجلس الوزراء، حيث بلغ الفارق من تاريخ مباشرة عمل الشركة وحتى نهاية 2015، 961 مليون ليرة لصالح وزارة الاتصالات. لكن بسبب استقالة الحكومة حينها، لم يبت بالموضوع. وبعد تشكيل حكومة جديدة وصدور قرار جديد بالتمديد للشركة حتى نهاية 2020، تضمن القرار تعديلاً للفترة المشمولة بالمقاصّة، فمُدّدت حتى نهاية 2019.

وقد تبيّن بنتيجة التقارير المُقدّمة من المدقّق المالي المعين من وزارة الاتصالات والموافق عليها من “ليبان بوست” أنّ حصة وزارة الاتصالات – المديرية العامة للبريد تبلغ 37.604 مليار ليرة. ولأنّ الشركة قدّمت تقارير تبيّن أنّ مستحقّاتها تبلغ  40.863 مليار ليرة، فقد أشارت الحسبة النهائية إلى أنّ صافي المستحقات لصالح شركة “ليبان بوست” هو 3.259 مليار ليرة. لكن المديرية تحفّظت على قيمة مستحقات الشركة واعتبرتها غير واضحة، مؤكّدة أنّها لا تتحمل أي مسؤولية قانونية عن الأرقام الواردة فيها. كما تحفّظت على مبالغ الضريبة على القيمة المضافة المسدّدة من حصّتها من قبل الشركة والبالغة قيمتها 1.4 مليار ليرة.

في ظلّ هذه المعطيات، وصل الملف إلى ديوان المحاسبة، الذي أشار في تقريره إلى وجود أخطاء باحتساب المقاصّة. وبدلاً من دفع الدولة للشركة مبلغ 3.259 مليار ليرة الذي تطالب به، أكد الديوان أنّ الشركة مدينة للدولة بمبلغ 1.545 مليار ليرة، بعدما تبيّن أنّ مجموع حقوق وزارة الاتصالات التي يجب إدراجها في المقاصّة هو 4 مليار و804 ملايين ليرة.

وفي التفاصيل، تبيّن أنّ المخالصة التي نفّذت بين وزارة الاتّصالات والشركة لم تتضمّن:

  • تسجيل قيمة زيادة بدلات الإيجار الخاصة بالمراكز التي استأجرتها بنسبة 10% كل ثلاث سنوات كما ينصّ العقد (765 مليون ليرة).
  • إعادة قيمة الضريبة على القيمة المضافة من العام 2001 ولغاية نهاية العام 2019 بسبب ورودها في المخالصة (مليار و887 مليون ليرة).
  • الفرق في أرصدة حسابات الوزارات بين عامي 2004 و2005 لمصلحة وزارة الاتصالات (341 مليون ليرة).
  • إلغاء البند الجزائي الذي تطالب فيه “ليبان بوست” مؤسسة أوجيرو (مليار و810 ملايين ليرة) بالرغم من أنه لا يزال موضع نزاع قانوني مع أوجيرو وهو لا يستحق بالتالي على مديرية البريد.

بحسب المعلومات التي أكّدها وزير الاتصالات جوني قرم ل”المفكرة القانونية”، فقد وافقت الشركة في الاجتماع الذي عُقد في الوزارة الأسبوع الماضي بمشاركة الديوان ووزارة المالية، على هذه الأرقام. علماً أنّ نائب المدير العام للشركة شادي مغامس، أشار لـ”المفكرة القانونية” إلى أنّ الأمور لا تزال قيد النقاش، والشركة تتعامل بإيجابية مع الملف، وهي مستعدّة للالتزام بتوصية الديوان. هذه الموافقة لم تفاجئ أياً من المعنيين، انطلاقاً من أن المبلغ المشار إليه يُشكل اليوم مبلغاً زهيداً، لا يستحق مخاصمة الدولة لأجله، بخاصّة إذا كانت الشركة تطمح للاستمرار في إدارة القطاع، إن كان تمديداً، أو عبر المشاركة في أي مزايدة عمومية قد تُطرح في وقت لاحق.

من يُحاسب مهدري المال العام؟

النتيجة التي توصّل إليها الديوان تثير أكثر من علامة استفهام، تتعلق بالبيانات التي تُقدّمها الشركة أوّلاً، والمعتمدة على تدقيق شركات عالمية، وكذلك تتعلق بموافقة وزارة الاتصالات على قيود غير دقيقة، كانت لتمر وتوقع الضرر بالمالية العامة، لو لم تكشفها لجنة الاتصالات النيابية، ثم ديوان المحاسبة.

والأهم أنّ ما سبق يفتح الباب أمام التشكيك بكلّ العقد الذي فُصّل، منذ عقدين من الزمن، على قياس مصالح الشركة ولا يزال. إذ حتى لو على السعر الرسمي للدولار، هل يُعقل أن يكون تلزيم خدمات البريد، قد أدّى إلى تحصيل الدولة خلال 20 عاماً أموالاً تقلّ عما حصّلته في العام 1997 وحده؟

فللتأكيد على فداحة الجريمة المرتكبة بحقّ القطاع، يكفي العودة إلى ما قبل مرحلة التلزيم، حيث يظهر أنّ القطاع كان يحقّق وفراً للخزينة، بالرغم من أن مديرية البريد لم تكن تتقاضى أي بدل عن نقل وتوصيل بريد الإدارات الرسمية بخلاف “ليبان بوست” التي ينصّ عقدها على تقاضي هذه البدلات. وعلى سبيل  المثال، ففي العام 1997 أدخل القطاع إلى الخزينة 7.8 مليار ليرة (أي ما يعادل آنذاك 5.5 مليون دولار)، في حين أنّ كلّ الواردات المودعة في الخزينة منذ بداية 1999 وحتى نهاية 2019 كانت 5.1 مليار ليرة فقط (يضاف إليها 1.5 مليار ليرة بنتيجة التدقيق المالي الذي أجراه الديوان).

من يتابع تاريخ العلاقة بين الشركة والدولة يدرك أنّها لطالما كانت مختلة لصالح الأولى. ولتأكيد الاختلال وتأمين مصالح الشركة، عُدّل العقد الأساسي ثلاث مرات خلال السنوات الأربع الأولى التي تلت توقيعه، وشمل التعديل الكثير من البنود، من بينها تعديل تاريخ مباشرة تنفيذ العقد وكذلك تعديل مدته، ما أدّى عملياً إلى تأمين استمرارية إلى العام 2018 بدلاً من العام 2010.

ثلاثة تعديلات تخدم مصلحة “ليبان بوست”

في العام 1995 كانت “ليبان بوست” بدأت تتحوّل إلى حقيقة، مع تكليف مجلس الإنماء والإعمار المؤسسة الألمانية للاستشارات البريدية وضع دفتر شروط لإجراء مناقصة لتنفيذ الخدمات البريدية. وبالنتيجة، فازت شركة CPSML/PROFAC الكندية (“كندا بوست”) بعقد يشمل  التمويل الكامل للمشروع على طريقة BOT، جرى توقيعه في 22 تموز 1998.

إشكالية العقد التي طرأت لاحقاً كانت تتعلق بطبيعته القانونية، رأي اعتبر أنه يستند إلى المرسوم الاشتراعي رقم 126 للعام 59 الذي يجيز للإدارة تلزيم نقل المراسلات البريدية. وهو بالتالي لا يدرج ضمن أحكام المادة 89 من الدستور التي تشير إلى عدم جواز تلزيم المصالح ذات المنفعة العامّة أو أي احتكار إلّا بموجب قانون. ورأي آخر يعتبر أنّ تفويض مجلس النوّاب للإدارة يقتصر على تلزيم عملية نقل البريد حصراً، وبالتالي فإنّ البريد، بوصفه مرفقاً عامّاً يبقى ملكية الدولة. ولمّا كان المستشار القانوني لوزارة الاتصالات والبريد يتبنّى هذا الرأي، فقد تقرّر إعادة التفاوض مع الشركة لإعادة النظر في تحديد مضمون العقد وتعديل بعض الأحكام الواردة فيه، ولاسيما ما يتعلّق بالحصرية. وهو ما حصل فعلاً من خلال قرار مجلس الوزراء الصادر في 9 حزيران 1999.

لم يتأخّر الوقت قبل “اكتشاف” إشكالية جديدة كانت سبباً للتعديل الثاني على العقد (أقرّ في 9 آب 2000 ووقّع في 24 آب). إذ اشتكت الشركة عدم منع الوزارة بعض الشركات الخاصّة من توزيع البريد محلّياً، خلافاً لمبدأ الحصرية كما اشتكت من عدم التزام دوائر الدولة بالاعتماد على خدمات “ليبان بوست”. وبناء عليه، مررت بنود مثل تخفيض بدلات الإيجار لمركزيْ بيروت للفرز في المطار وفي مركز رياض الصلح من مليون و200 ألف دولار إلى 600 ألف دولار فقط (564 ألف دولار لمركز المطار و36 ألف دولار لمركز رياض الصلح). علماً أنّ الإدارة وضعت في تصرّف الشركة 34 مركزاً في مختلف المناطق من دون أي بدل (مكاتب بريدية في الأبنية الحكومية أو مكاتب بريدية تملكها الإدارة في أبنية مشتركة). أمّا المكاتب المستأجرة من الإدارة وتستعملها “ليبان بوست” فلا يزيد إيجارها عن 58 ألف دولار، ليكون إجمالي ما تدفعه الشركة، بحسب بياناتها التفصيلية الموقوفة في 31/12/2018، هو 658 ألف دولار (992 مليون ليرة).

لأنّ كل ما سبق من تعديلات لم يرض الشركة التي ظلّت تشتكي من عدم التزام الدولة بمبدأ الحصرية، عدّل العقد للمرة الثالثة في 20 آب 2001 ودخل حيّز التنفيذ في  16 حزيران 2002. وقضى بقبول مساهمين جدد في شركة “ليبان بوست”، هما شركة “مساهمات” والشركة الفرنسية “فاكتور إنفست هولدينغ”. وقد وُقِّعَ في 15 أيلول 2001 “عقد مخالصة وإبراء” بين وزير الاتصالات وممثل شركة “ليبان بوست”، تمهيداً لانسحاب الشركة الكندية من القطاع، وبدء مرحلة ملكية آل ميقاتي للشركة. وبقي الوضع كما هو إلى حين أجري تبادل أسهم قبل نحو 7 سنوات، حصل آل ميقاتي بنتيجته على أسهم في بنك سرادار مقابل تملّك مجموعة “سرادار” التي تملك أسهماً في البنك، لشركة “ليبان بوست”.

لكن كان لافتاً أنّه بعد خروج الشركة الكندية من القطاع تميزت العلاقة بين الدولة والشركة بالاستقرار. وتخلّل تلك الفترة توقيع الإدارات اللبنانية اتفاقات مع الشركة تمنحها بموجبها حصرية نقل معاملاتها واستلامها وتوزيعها. كما حصلت الشركة على سلّة واسعة من الاتفاقات أدّت بموجبها دور الوسيط البريدي الحصري لتنفيذ عشرات المعاملات الرسمية لقاء بدل مالي للدولة حصة بسيطة منه (التصاريح الضريبية، إجازات العمل، إخراجات القيد، السجلات العدلية، جوازات السفر، الإفادات العقارية، معاملات التنظيم المدني، التصاريح المالية، تراخيص حفر الآبار وتجديدها، معاملات الأملاك المبنية، فواتير الهاتف الثابت والخلوي، ميكانيك السيارات، تسجيل السيارات، الجريدة الرسمية، معاملات وزارة التربية…).

كذلك، رُفعت، بموجب التعديل الثالث، فترة العقد من 12 إلى 15 سنة قابلة للتجديد 3 سنوات، لكن من دون تعديل شطور الدخل ورفع نسبة حصة الدولة. وكرّس هذا التعديل عدم استفادة الدولة من أي خدمات غير بريدية تقدمها الشركة. كما وُضع الطابق الأرضي من مكتب البريد في المطار بتصرّف الشركة من دون أي مقابل، مما أدى إلى حرمان الخزينة من عائدات بدلات الاشغال تقدر بمئات آلاف الدولارات.

كان العقد يشير إلى تطبيق زيادة تعويض الإشغال للمكاتب الموضوعة بتصرف الشركة كل ثلاث سنوات، لكن هذه الزيادة لم تطبق يوماً، وهو ما أدى إلى حرمان الخزينة من بدلات إيجار تقدّر بـ500 ألف دولار (أعاد الديوان احتسابها)

التمديد المتجدّد: مصالح الشركة لا تُمسّ

بعد انتهاء المدة الأساسية للعقد (وهي 15 سنة)، مدّد بموجب كتاب من وزير الاتصالات بطرس حرب بتاريخ 19/8/2015، لثلاث سنوات. ثم مدد للمرة الثانية لفترة ثمانية أشهر بموجب قرار مجلس الوزراء الصادر في 5/9/2019 (قدم حينها وزير الاتصالات محمد شقير اقتراحاً للتمديد للشركة لـ12 سنة جديدة مع تعديل في بنود العقد) تنتهي بتاريخ 15/5/2020، قبل أن يمدّد للمرة الثالثة بقرار من مجلس الوزراء (5/5/2020) حتى نهاية 2020. وبعدها جرى التمديد بموجب موافقة استثنائية موقّعة من رئيسي الجمهورية والحكومة، حتى نهاية شهر حزيران ثم حتى نهاية 2021.

وأمام هذا الواقع، دعا ديوان المحاسبة إلى إعادة التوازن المالي للعقد في ضوء الملاحظات التي تطرق لها، في حال قررت الحكومة تمديد العقد ريثما يصار إلى إطلاق مناقصة جديدة لقطاع البريد تأخذ بتلك الملاحظات كي لا تتكرّر الأخطاء التي ألحقت الضرر البالغ بالأموال العمومية.

لكن حتى اليوم، فإنّ الأمور تشي بتمديد جديد يثبّت سيادة الشركة على قطاع البريد. فخلال 20 عاماً، لم تقم الدولة سوى في تأكيد هذه السيادة من خلال تمديد العقد مراراً وتكراراً بالشروط المجحفة نفسها التي أقرّت في العام 2002 والتي أدت إلى حرمان الخزينة من مبالغ كبيرة، بالنظر إلى التغيّرات الاقتصادية والمالية وازدياد نوعية الخدمات وعددها بين العامين 2002 و2021.

انشر المقال

متوفر من خلال:

سياسات عامة ، قطاع خاص ، حقوق المستهلك ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني