“الحق” لكن “القانون”: قراءة في الخطاب الرئاسي حول قضية المهاجرين


2023-06-15    |   

“الحق” لكن “القانون”: قراءة في الخطاب الرئاسي حول قضية المهاجرين
من صفحة رئاسة الجمهورية التونسية

استقبَل الرّئيس التونسي قيس سعيّد يوم الثلاثاء 06 جوان 2023 بقصر قرطاج، جورجيا ميلوني، رئيسة الوزراء الإيطالية. وبعد ثلاثة أيام من تاريخ اللقاء، انتقَل الرئيس سعيد يوم 10 جوان 2023 إلى ولاية صفاقس طارحا بالأساس قضية المهاجرين غير النظاميين على الأراضي التونسية وتحديدا في هذه الولاية. وفي اليوم الموالي استقبَل رئيس الجمهورية التونسية مرّة أخرى جورجيا ميلوني مصحوبة برئيسة المفوضية الأوروبية “فون دير لاين” والوزير الأول الهولندي “مارك روته”.

وتَطرّق هذا اللقاء إلى مواضيع مختلفة أبرزها ملف الهجرة غير النظامية. وفي إطار تواتر الزيارات والضغط الأوروبي على تونس، كيف نقرأ موقف السلطة السياسية التونسية من قضية الهجرة؟

مِيلوني وسعيّد: تقاطع التوجهات السياسية بين ضفّتي المتوسط

“سَنُحارب أسلمة أوروبا، لأننا لا نعتزم أن نُصبح قارة مسلمة”، هكَذَا قالت جورجيا ميلوني في إحدى التجمعات العامة في العاصمة الإيطالية، روما، خلال شهر أكتوبر سنة 2019. وفي 21 فيفري 2023، ترأّس الرئيس سعيّد اجتماعا لمجلس الأمن القومي خُصّصَ “للإجراءات العاجلة التي يجب اتخاذها لمعالجة ظاهرة توافد أعداد كبيرة من المهاجرين غير النظاميين من إفريقيا جنوب الصحراء إلى تونس”. وأشار رئيس الجمهورية في ذلك الاجتماع إلى أنّ “هناك ترتيب إجرامي تمّ إعداده منذ مطلع القرن الحادي والعشرين لتغيير التركيبة الديموغرافية لتونس” مشيرا إلى أنّ الهدف من هذه الموجات الهجرية اعتبار تونس دولة افريقية فقط ولا انتماء لها للأمّتين العربية والإسلامية. كما صرّح الرئيس التونسي بأن “جَحافل المهاجرين غير النظاميين القادمين من إفريقيا جنوب الصحراء” تؤدي إلى ممارسات غير مقبولة مثل العنف والجريمة. واعتبر قيس سعيد أنّ “من يقف وراء هذه الظاهرة يُتاجر بالبشر ويدّعي في نفس الوقت أنّه يدافع عن حقوق الإنسان”. من دون أن يصرّح بهوية هذه الأطراف التي تُتاجر بالبشر وحقوق الإنسان.

يَعتبر كلّ من سعيّد وميلوني أنّ ظاهرة الهجرة مسألة أمنية عابرة للحدود، وتتعلّق بأحد القطاعات الحسّاسة التي طرَحها عالم السياسية الأمريكي باري بوزان، وهو قطاع الأمن المُجتَمعي المرادف للبقاء الهوياتي. ومن داخل هذا المنطق تؤسّس النخب الحاكمة إلى جدلية “نحن” و”هم”، مُشيعة الخوف من تداخل الثقافة والدين واللغة، وكذلك الخوف من الاغتراب الديموغرافي والمَشاكل الاقتصادية والصحية والبيئية، إلخ. مِيلوني وسعيّد، بوصفهما فاعلين شعبويّين، يتّبِعان “استراتيجية تلاعب تُخاطب العواطف بدلاً من العقول وتُقدّم صورة مُخيفة عن الأوضاع واحتمالات تطوّرها وتَكيل الاتهامات لمصدر الأذى والشرور، مع الحفاظ على غموض هذا المصدر: فالشّعبوي لا يحدّد خصومه أو أعداءه بوضوح ولا يَذكر أسماءهم، ويصفهم بنعوت مثل الخيانة مؤكّدا على دوره كحامٍ للوطن من المؤامرات.”[1]

من خلال هذا الخطاب نجَحت السلطات الإيطالية والتونسية في تحويل حريّة التنقل إلى مسألة أمنية يحللها ديدي بيغو بطريقة جيّدة، عندما يقول: “الهجرة مسألة أمن كبرى بالنسبة إلى أوروبا، ليست مجرد ملاحظة فقط، بل هي قوة صِيغة مضمون الكلام التي تُغيّر المدلول الاجتماعي لمفهوم الهجرة وتُحوّلها بقوة المفردات إلى مسألة أمن تُحَلّ بوسائل خاصّة”.[2]

ثِقل ميزان القانون على حساب الحقوق

بعد لقائه برئيسة الوزراء الإيطالية، أصدرت رئاسة الجمهورية التونسية بلاغًا، مساء 06 جوان 2023، لم تغِب عنه المصطلحات التي تُجرِّم حرية التنقل. فلئن حَمِل نصّ البلاغ مصطلح “الهجرة غير النظامية وغير الإنسانية”، فإنّه يحتوي أيضا على مصطلحات من قبيل: هجرة “غير قانونية” و”غير شرعية”. وتتناقض هذه التوصيفات مع ما جاء في المادة عدد 13 للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي تَنصّ على حرية التنقل. إن التأكيد على “لا قانونية” الهجرة يَفتح الباب واسعا أمام إدانة المهاجرين، ويُصبح تواجدهم في تونس أو إيطاليا مقترنًا بتهمة المساهمة في تفكيك المجتمعات الوافدين إليها. وضمن هذا السياق تتكوّن نظرة عنصرية ودونية ضد “غير الحاصلين” على وثائق إقامة.

 من جِهتها، لم تذكر ميلوني مُصطلح “حرية التنقل”. ولم تتحدّث أيضا عن احتمالية تواجد هجرة آمنة بين الدولتين في المستقبل القريب. ولم تتطرّق حتى إلى إشكالية التأشيرات التي يُعاني منها التونسيون والتونسيّات. بل تَمحوَرَ تصريحها حول الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التونسية وكيف يُمكن معالجتها من خلال علاقات تبَعية غير متكافئة مع دول الاتحاد الأوروبي. بمعانٍ أخرى، يمكن تلخيص مداخلة ميلوني في الجملة التالية: “حاولوا أن تعالجُوا مشاكلكم الداخلية دون الدخول والاستقرار في الأراضي الأوروبية”. 

في سياق تصاعد الضغوط الأوروبية على الدولة التونسية بخصوص ملف الهجرة، انتقل الرئيس سعيّد يوم السبت 10 جوان 2023 إلى ولاية صفاقس بوصفها “منطقة عبور” إلى الضفة الأخرى من المتوسط ويستقر فيها العديد من المهاجرين الأجانب. وبعد تِجوَاله في شوارع المدينة والتقاطه بعض الصور مع مواطنين من إفريقيا جنوب الصّحراء، ألقى الرئيس كلمَة بثّها التلفزيون الرسمي. في خِطابه المذكور استخدَم الرئيس سعيّد بشكل متكرّر أداة الاستدراك “لكن”، تقريبا في أكثر من ثلاث عشرة مناسبة. وعادة ما يأتي مصطلح “القانون” تاليا لأداة الاستدراك داخل كلمة الرئيس. وهنَا نُورد أبرز المقتطفات التي تُشير إلى هذه الاستراتيجيا الخَطَابية التي تُشيّد توصيفا حقوقيا وإنسانيا لظاهرة الهجرة، ولكنها تُلغيه في نهاية المطاف تحت حجّة “تطبيق القانون”:

-الحل لا يُمكن إلاّ أن يكون إنسانيا وجماعيا بناء على مقاييس إنسانية و”لكن” في ظل قانون الدولة.

-نحن أفارقة وهم أشقاؤنا ونحترمهم و”لكن” هذا الوضع الذي تعيشه تونس ولم تعشه من قبل هو وضع غير طبيعي ولا بدّ من أن نضع حدًّا لهذه الأوضاع غير الإنسانية.

-هم ضحايا الفقر والحروب الأهلية وغياب الدولة وهم يلجؤون إلى تونس كملاذ و”لكن”                      نحن أيضا دولة لها قوانينها وتحترم القانون والذوات البشرية و”لكن” لا بد للجميع أن يحترموا قوانين الدولة التونسية وسيادتها.

– الحل لا يجب أن يكون على حساب الدولة التونسية، هؤلاء بطبيعة الحال نحفظهم ونحميهم ولا نترك من يعتدي عليهم و”لكن” عليهم أيضا أن يمتثلوا للقوانين التونسية.

-لن نقبل بأي اعتداء عليهم ونحميهم و”لكن” لا بد أن يكونوا في أوضاع قانونية.

يستخدم الرئيس سعيّد عبارات فضفاضة وذات حمولة سياسية-رومانسية من خلال التأكيد على احترامه للمهاجرين غير النظامين، ولكن هذا التقدير سرعان ما تُلغيه قوة القوانين الهجرية الزجرية التونسية. فالقانون التونسي الصادر سنة 2004 لا يذكر مصطلح “مهاجر” أو “لاجئ”، بل يشير فقط إلى وثائق سفر، ويعاقب بالسجن وخطية مالية كل مواطن قام بمساعدة مهاجر غير نظامي على الأراضي التونسية سواء كان على البر، أو حتى مهاجرًا عالقا في البحر. أيضا يلوح التشريع التونسي في حالة خضوع دائمة إلى ترسانة التشريعات الأوروبية التي صادَرَت الحدود وجعلت من المتوسط مقبرة مائية. وهكذا من خلال المصطلحات والحجج التي يستخدمها الرئيس سعيد، يمكننا الكشف عن المواقف السياسية والإيديولجيا التي تتبنّاها الدولة التونسية في القضية الهجرية، والتي تتساوق دائما مع الضغوطات الأوروبية، وخاصة الضغط الإيطالي الذي أصبح مُلفتا للانتباه. 

الرئيس سعيد: تناقض الأقوال مع الأفعال

منذ تولّيه منصب رئيس الجمهورية في سنة 2019، وخاصة بعد 25 جويلية 2021، يُكرّر رئيس الجمهورية الموقف القائل: “لحل قضية الهجرة غير النظامية لا بد من معالجة شاملة وليست أمنية”. ولكن المعطيات والحقائق الميدانية تُثبت عكس هذا، فمنذ مطلع سنة 2023 إلى حدود موفّى شهر ماي تقريبا تمّ منع حوالي 22162 شخص حاولوا التنقل بطريقة غير نظامية عبر الشواطئ التونسية. كما تُقدّر حصيلة الضحايا والمفقودين في نفس الفترة بـ 498 ضحية ومفقود على الشواطئ التونسية. واستقبلت تونس أيضا في الفترة نفسها ثلاث رحلات ترحيل جماعي وقسري من ألمانيا نحو تونس، مقابل 12 رحلة في سنة 2022 من ألمانيا و27 رحلة ترحيل قسري جماعي من إيطاليا.

في تحليلنا للظاهرة الهجرية، نستخلص التناقض بين الأفعال والأقوال؛ أقوال تدعو إلى المعالجة الحقوقية والإنسانية وممارسات أمنية -دراماتيكية. وهكذا فمن خصائص الأيدولوجيا الشعبوية أنها “لا تقترح في الغالب برامج سياسية دقيقة ورؤية متكاملة خلافا لما يُسميه البعض بالأيديولوجيات الكثيفة، بحيث تستقي فعاليتها من تبسيطها وليس من ثرائها المضموني.”[3] فجميع أقوال الرئيس قيس سعيّد لا تختلف عن إصدار الأحكام. كما يَسعى من خلال خطبه إلى “تأمين التأثيرات الاجتماعية”[4] بعبارة الفيلسوف جون أستون.

لم تُبيّن القضية الهجرية عُنصرية الشعبوية التونسية ونظرتها الدونية للمهاجرين فقط، بل يتضّح أيضا من خلال البلاغات والخطابات التوجهات الدولية والاقتصادية للدولة التونسية. فقد أشار البيان المشترك بين تونس والاتحاد الأوروبي الصادر يوم 11 جوان 2023، إلى “تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية” و”بعث شراكة في مجال الطاقة المستدامة والتنافسية”. ولكن أثبتت تجربة التعاون إلى حد الآن أن هذه العلاقات “غير متكافئة”، لأن النظام الرأسمالي العالمي يقوم على “التبادل الاحتكاري الذي يؤمّن نقل الفائض الاقتصادي من المناطق الخاضعة (الأفلاك) إلى المراكز الإمبريالية (المتروبول). ويتحكّم هذا النظام في توزيع السلطة السياسية وفي أشكال تنظيم الإنتاج والبنى الطبقية للمناطق المختلفة. وبناء عليه فإن الآليات التي تُطلق التطور في المتروبول هي التي تسبّب التخلف في الأفلاك.”[5] وهكذا من خلال نص البلاغ المشترك يتضح رضوخ الدولة التونسية إلى التوجهات الرأسمالية العالمية والمتحكمة في اقتصاديات الدول المتخلّفة، وهو ما يجعل جعل تونس رهينة سياسات التبعية والتخلف وعدم فك الارتباط، رغم السردية السيادوية التي يُرّوج لها الرئيس سعيد.

لئن كان رئيس الجمهورية التونسية ووزير الخارجية نبيل عمار يؤكدان على أنّ تونس لن تلعب دور حارس الحدود الاوروبية، فإنّ رئيسة المفوضية الأوروبية “فون دير لاين” قد صرّحت يوم 11 جوان 2023 بأنّ الاتحاد الأوروبي سيخصّص لتونس مبلغا بقيمة 100 مليون يورو لإدارة الحدود التونسية الأوروبية. وفَرضَت هذه الزيارة الخضوع لضغوط أوروبية تونسية جديدة، حيث قبلت سلطة الرئيس سعيد إعادة قبول المهاجرين من الأراضي الأوروبية.

تكاثفت الزيارات الأوروبية إلى الأراضي التونسية، ولم تتمحور أهداف كل اللقاءات حول كيفية تقليص التكلفة الإنسانية على الشواطئ التونسية. فالرئيس التونسي الذي ظل يتأرجح بين مفردتي “لكن” و”القانون” انحاز إلى “سيادة القانون” التي يهندس لها الأقوياء ويذهب ضحيتها الضعفاء. وهكذا فإن “مسار 25 جويلية” يتّسم بأسلوب تعويذة الدلالات الفارغة ولا يمتلك رؤية تونسية داخلية سواء كان ذلك في القضية الهجرية أو في السياسات العمومية الاقتصادية والاجتماعية الوطنية، فالتحول السياسي بعد 25 جويلية 2021 لم يأت بإدارة سياسية يمكنها القطع مع الأزمة التي عصفت بالبلاد. وظل الرّئيس سعيد يستند إلى نصوص قانونية-زجرية تعكس موازين قوى اجتماعية غير متكافئة.


[1] – الهرماسي، (عبد اللطيف)، “تونس الثورة والمحنة: مقاربة من منظور علم الاجتماع السياسي”، منشورات سوتيميديا، تونس، 2023، ص 268.

[2] – حموته، (فاطمة)، ” أمننة الهجرة غير الشرعية في المنطقة المتوسطية: المفهوم والنظرية وقضية الراهن”، مجلة جيل الدراسات السياسية والعلاقات الدولية، عدد 22، 2019، ص

[3] – الهرماسي، (عبد اللطيف)، سبق ذكره، ص 267.

[4] – Klimova, (Sveta), Speech Act Theory and Protest Discourse : Normative Claims in the Communicative Repertoire of Three Russian Movements, Culture, Social Movements, and Protest, In Hank Johnston, Routledge, London and New york, 2016, pp 105- 134. P 107.

[5] – الخفاجي، (عصام)، ” سمير أمين: في نقد حلم انكسر”، عمران للعلوم الاجتماعية، العدد 27، المجلد السابع، شتاء 2019، ص 5- 24، ص 12.

انشر المقال

متوفر من خلال:

لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، مقالات ، تونس ، أوروبا



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني