لو نُجري مسحًا لأكثر الكلمات والعبارات تكرارًا في محتوى وسائل الإعلام التقليدية وشبكات التواصل الاجتماعي في تونس خلال الأشهر الأخيرة، سنجد في المراتب الأولى: سيادة تونس، سيادة وطنية، الأمن القومي، الخونة والعملاء، أعداء الوطن، المرتزقة، مؤامرة، تآمر، يتآمرون على تونس، إنقاذ البلاد، حرب تحرير. لذلك يكاد المرء يعتقد أن البلاد تخوض حروبا على عدّة جبهات ساخنة لوقف جيوش الغزاة ودحرها.
ولو كان لدينا بارومتر أو أيّ أداة قياس يُمكنها رصد منسوب أدرار “هرمونات” الوطنية لكَشف لنا أن الفترة الممتدة من منتصف فيفري إلى منتصف مارس 2023 سجّلت أعلى المستويات. وذلك على خلفية حدثين دغدَغَا المشاعر الوطنية وألهَباها: يتمثل الأول في حملة اعتقالات واسعة لا تزال مستمرة إلى حدّ كتابة هذه الأسطر وشملت شخصيات سياسية وأصحاب أعمال ومسؤولين أمنيين ومدير إذاعة خاصة على خلفية ما وصفته الجهات الرسمية بأنها قضية تآمر على أمن الدولة بين تونسيين وجهات أجنبية يسعون إلى إسقاط الرئيس سعيّد. أما الحدث الثاني فيتمثل في “الهبة الشعبية” التي مزجت بين العنصرية ورهاب الأجانب واستهدفت المهاجرين الأفارقة القادمين من جنوب الصحراء إلى تونس، لفظيا ومعنويا وجسديا. هذه “الهَبَّة” بلغت ذروتها بعد أن تبنّاها رئيس الجمهورية وترجمها خطابا رسميا -خلال اجتماع طارئ لمجلس الأمن القومي في 21 فيفري 2023- تحدث فيه عن مؤامرات لتوطين المهاجرين الأفارقة في تونس وتغيير تركيبتها الديمغرافية بتخطيط أجنبي وتنفيذ محلي من قبل جهات تلقت أموالا طائلة. واصطفّت قطاعات واسعة من الشعب خلف الرئيس وأجهزته الأمنية في معركة تطهير البلاد من “الخونة” و”المتآمرين” و”الغزاة”.
ومن الصّدف الغريبة أن الحدثين تزامنا وتداخلاَ بشكل خلق حالة جماعية من “الفخر الوطني” و”الالتحام الشعبي” مع “زعيم الأمة” قائد البلاد في حرب “السيادة الوطنية”. ضدّ من؟ لا نعرف ضد من بالضبط لكن هذا ليس مهمّا.
الحقل الدلالي للسيادة الوطنية حاضر بقوة في خطاب الرئيس التونسي خاصة بعد أن كسَرَ عزلته السياسية وصلاحياته المحدودة مساء 25 جويلية 2021. ويمكن مراجعة تسجيلات خطاباته وحواراته وحتى ديباجة دستوره. طبعا لا لبس في خطاب رسمي يتبنى السيادة الوطنية كأحد أسسه، بل هذا محمود ومطلوب وضروري. المشكلة أن هذه “السيادة” ضبابية وانتقائية وقاصرة ومُوظّفة.
سيادة ضبابية وقاصِرة
مازال الاقتصاد التونسي بعد 50 عاما من “سياسة الانفتاح” التي دشّنها الوزير الأول الأسبق الهادي نويرة قائما على ثلاثة أعمدة هشة لا تخلق استقرارا ولا ثروة مستدامة وعادلة التوزيع ولا سيادة: السياحة “الرخيصة” والفلاحة الموجهة للتصدير (وأغلبها مستنزف للموارد المائية الوطنية) والصناعات التحويلية الخفيفة الموجهة أساسا للخارج. الاقتصاد التونسي في أغلب قطاعاته مرتبط بالخارج تصديرًا وتوريدًا واستدانة. طبعا ليست لكل الدول موارد طاقية تفي حاجاتها أو مساحة كافية من الأراضي الصالحة للزراعة، وليست المشكلة في الاستيراد الكلّي أو الجزئي لسلع حياتية وضرورية. المشكلة تكمن في عدم تثمين ما تنتجه وعدم التفكير في حلول بديلة للاستيراد ومقلّلة من التبعية. وتونس من الدول التي تستطيع موضوعيا -لو توفرت الإرادة السياسية- تقليل تبعيتها للخارج بشكل كبير: بلد فلاحي أساسا، بموارد مائية يروّج لفكرة أنها محدودة لكن الأصح أنها مستنزفة في غراسات وزراعات ليست ذات أولوية، وأغلب مساحته سهول، ويتمتع بإمكانيات كبيرة لكن غير مُستغلة في مجال الطاقات البديلة، وله عدد محترم من الموارد البشرية المتفوقة في عدة مجالات تقنية وعلمية تستنزفها هجرة الأدمغة كل يوم أكثر.
طبعا من الظلم تحميل قيس سعيّد مسؤولية تاريخ كامل من التبعية لازَم الدولة الوطنية منذ نشأتها إلى اليوم. ومن الشطط الاعتقاد أن سنتين من الحكم -حتى وإن كان مطلق السلطات- كافيتان لإحداث تغيير جذري في السياسات الاقتصادية والاجتماعية لأي بلد. المشكلة تكمن في أن الرئيس سعيّد ليست له نظرة سياسية-اقتصادية واضحة، أو حتى ضبابية. هو نفسه يقرّ بأنه لا يمتلك برنامجا ولا يقطع وعودًا، وإنما بُعثَ ليتمّم آليات السيادة الشعبية ويسمح للتونسيين بالتعبير عما يريدون ووضع برامج بأنفسهم.
لا يمكن الجزم بنوايا قيس سعيّد، هل تكرار ذكر “السيادة الوطنية” في خطابه نابع عن قناعة عميقة أم مجرّد لازمة كلامية بلا معنى حقيقي أو استراتيجية اتّصالية تقوي شعبيته؟ لكن ما يمكن الجزم به أن “السيادة الوطنية” مثلما يتمثلها أو يُسوّق لها الرئيس التونسي هي في أفضل الأحوال اختزالية ومبتورة.
عندما نتقصّى خطابات وتصريحات الرئيس سعيّد التي يأتي فيها على ذكر “السيادة”، نلاحظ أن أكثرها يتعلّق بعدم تدخّل دول أخرى في شؤون تونس بشكل علني، وعدم الرضوخ لشروط المؤسسات المالية المانحة خلال جولات التفاوض، وحماية حدود البلاد من “الاختراقات” و”المؤامرات”. أي السيادة السياسية والترابية. طبعا كل ما سَبِق يدخل في باب السيادة الوطنية لكنه على افتراض اقتناع الرئيس الكامل به وسعيه إلى تطبيقه كلّيا يبقى قمة جبل الجليد. قد تستطيع دفع الدول الصديقة والشقيقة إلى عدم التدخل علانية في شؤون بلدك، لكن هل بإمكانك فعلا منعها من التدخل الفعلي عندما تعول عليها بشكل شبه كلي في توفير السلع الغذائية الأساسية (قمح ليّن، زيوت نباتية، سكّر، إلخ) وشراء محاصيلك (زيت الزيتون والحمضيات والتمور وباكورات الخضر، إلخ)؟ هل هناك سيادة وطنية فعلية بلا سيادة غذائية (وهي أعمق وأبقى من الأمن الغذائي)؟ هل يمكن التصدّي لـ”مؤامرات” الخارج إذا كنت تحتاجه بشدّة لتوفير التمويل اللازم لخلاص أجور موظفيك وشراء أدوية وقطع غيار؟ هل يمكن تحقيق السيادة المالية ببلد مثقل بالديون الكريهة ولا يقدر حتى على ضبط البنوك الخاصة ولا التدخل في بنكه المركزي؟ هل يمكن تحقيق السيادة الاقتصادية عبر التعويل على موسم سياحي تتحكم فيه متانة العلاقات مع الدول الأوروبية ورضا وكالات الأسفار العالمية الكبرى ويمكن أن تنسفه عملية إرهابية؟ وماذا عن السيادة الطاقية، ألم يحن وقتها رغم الإمكانيات المتوفرة للبلاد؟ والسيادة الرقمية/السيبرانية في عالم أصبحت فيه شركات تجسس وتلاعب تتدخل في الانتخابات وصناعة المشهد السياسي وتخترق هواتف رؤساء دول؟
كل هذه السيادات تتكامل وتترابط لتحقيق السيادة الوطنية، وأغلبها غائب عن خطابات الرئيس وربما عن ذهنه.
فضلا عن كل هذا، قد تواجه “السيادة الوطنية” التونسية اختبارات هامة وقاسية في المدة القادمة نظرا للمتغيرات الجيوسياسية/الجيوستراتيجية في المحيط الإقليمي المباشر والبعيد وعلى مستوى العالم: توتر متنامٍ في العلاقات الجزائرية-المغربية، فشل أو إفشال كل مبادرات التسوية السياسية في ليبيا، “مصالحات” خليجية-سورية و”مصالحات” خليجية-تركية، عودة القنوات الديبلوماسية بين السعودية وإيران، والصراع بين القطبية الأحادية الغربية والدول الصاعدة مثل روسيا والصين بشكله “الساخن” في أوكرانيا و”البارد” في بحر الصين الجنوبي.
سيادة انتقائية وغير مُكلفة
بعيدا عن السيادة الخطابية فيما يلي جرد لأبرز المواقف “الفعلية” التي اتخذها الرئيس سعيّد منذ 25 جويلية 2021 إلى حدود مارس 2023:
- في 9 أكتوبر 2021 وجّه سعيّد، خلال اجتماع بالمكلّف بإدارة وزارة الداخلية آنذاك رضا غرسلاوي، انتقادات لاذعة لوكالات التصنيف الائتماني التي أصدرت تقييمات سلبية لواقع الاقتصاد التونسي وآفاقه ساخرا منها وناعتا إياها بـ”أمك صنافة”(وصفات المطبخ التونسي التقليدي) ومعبّرًا عن غضبه من تدخلها في شؤون البلاد ورفضه لضغوط المؤسسات المالية الدولية، قائلا: “سيادة الدولة ليست في مزاد أسواق الأسهم تتقاذفها [المؤسسات] التي يُقال إنها مانحة…نتعاون معها لكن لتحترم سيادتنا أوّلا”. طبعا مازالت تقييمات وكالات التصنيف تصدر دوريا وتزداد قتامة في توقعاتها لآفاق الاقتصاد التونسي وتُؤثر -مهما كانت خلفياتها وغاياتها- في قرارات المؤسسات المالية التي لازالت تونس تتمسّح على أعتابها أملا في قرض جديد يعمق المديونية القديمة.
- في 5 أفريل 2022، استدعتْ وزارة الخارجية التونسية السفير التركي في تونس لتبليغه الاحتجاج الرسمي على تدخل تركيا في الشؤون الداخلية، على خلفية تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان انتقد فيها قرار الرئيس سعيّد بحلّ البرلمان معتبرا أن ذلك يمثل ضربة قوية لإرادة الشعب التونسي. ولا يخفى على أحد أنّ تركيا تُعتبر من كبار الداعمين لحركة النهضة الإسلامية التي تعد الخصم الأكبر للرئيس سعيّد.
- في 30 ماي 2022 طلَبَ رئيس الجمهورية من وزير خارجيته آنذاك عثمان الجرندي إعلان انسحاب تونس من “اللجنة الأوروبية للديمقراطية عن طريق القانون” (لجنة البندقية) وطرد مبعوثيها على خلفية الآراء التي أبدوها بخصوص الاستفتاء على الدستور الجديد. وتجدر الإشارة هنا إلى أن لجنة البندقية استشارية ولا نفوذ حقيقي لها.
- في 29 جويلية، أي بعد أيام قليلة من الاستفتاء الشعبي على دستور جويلية 2022، أصدرت وزارة الخارجية التونسية بيانا تعلن فيه عن استدعاء القائمة بأعمال السفارة الأمريكية في تونس للاحتجاج على “البيان الصحفي الصادر عن وزير الخارجية الأمريكي بشأن المسار السياسي في تونس وأيضا التصريحات -غير المقبولة- التي أدلى بها السفير المعين ببلادنا أمام الكونغرس الأمريكي، خلال تقديمه “لبرنامج عمله”. وفي البيان التونسي نجد ثلاث فقرات للتعبير عن الاحتجاج، وفي الوقت نفسه هناك إشارة إلى تمسك السلطة في تونس بالديمقراطية واحترام الإرادة الشعبية. عموما مزيج من الغضب والخوف والمواجهة والمهادنة في بيان واحد.
- في 26 أوت 2022، استدعت تونس سفيرها في المغرب للتشاور -ردّا على خطوة مماثلة قامت بها الخارجية المغربية في نفس اليوم- إثر أزمة نشبت عند استقبال الرئيس التونسي لزعيم جبهة البوليساريو إبراهيم غالي باعتباره رئيس الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية ومُشاركا رسميا في قمة طوكيو للتنمية في أفريقيا “تيكاد 8”. برّرت تونس موقفها بأن الاتحاد الافريقي هو من يوجّه الدعوات الرسمية وليس البلد المضيف للقمة، وأن استقبال سعيّد لغالي بروتوكولي بحت وليس فيه استفزاز للمغرب أو إعلان موقف سياسي تجاه قضية الصحراء الغربية. المشكلة أن استقبال غالي في تونس جاء بعد أقل من سنة من امتناع تونس عن التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي تمديد عمل بعثة “المينورسو” لمدة سنة إضافية -أكتوبر 2021- وهو ما اعتبره المغرب آنذاك تخلّيا من تونس عن حيادها التقليدي في القضية وانحيازها للموقف الجزائري.
- في 18 فيفري 2023 وبأمر من رئيس الجمهورية، دعت السلطات التونسية المختصة “المدعوة Esther LYNCH” -حرفيا ما جاء في نص البيان- الأمينة العامة لاتحاد النقابات الأوروبية إلى مغادرة تونس وذلك في أجل لا يتجاوز 24 ساعة من تاريخ إعلامها بأنها شخص غير مرغوب فيه. وقد أثارت لينش غضب السلطة في مسيرة نظمها الاتحاد العام التونسي للشغل في صفاقس وإدلائها بتصريحات حول الوضع السياسي والاجتماعي في تونس اعتبرها سعيّد “تدخلا سافرا في الشأن الداخلي التونسي”.
- في 21 فيفري 2023، عقد الرئيس سعيّد اجتماعا طارئا بمجلس الأمن القومي لفضح “ترتيب إجرامي تمّ إعداده منذ مطلع هذا القرن لتغيير التركيبة الديمغرافية لتونس” و”جهات تلقت أموالاً طائلة بعد سنة 2011 من أجل توطين المهاجرين غير النظاميين من إفريقيا جنوب الصحراء في تونس”. خطاب الرئيس حفّزَ أعمال عنف وكراهية ضد فئة هشة وفقيرة وتسبّب في أزمة ديبلوماسية مع دول إفريقية ومؤسسات دولية مما أجبر الرئيس التونسي ووزارة الخارجية على القيام بعدّة تصريحات وخطوات “اعتذارية” بعضها مضحك وبعضها الآخر لا يقل عنصرية و”تآمرية” عمّا ورد في الاجتماع المتسبب في الأزمة.
- في 2 مارس 2023، منعت السلطات الأمنية في مطار قرطاج ماركو بيريز مولينا، مسؤول التعاون مع إفريقيا وآسيا بالنقابات الإسبانية من دخول تونس التي قدم إليها بهدف المشاركة في تجمع عمالي نظمه الاتحاد العام التونسي للشغل يوم 4 مارس 2023.
- في 10 مارس 2023، أعلن رئيس الجمهورية اعتزامه إعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة مع سوريا وإرسال سفير إلى دمشق بعد أن قُطِعت العلاقات في سنة 2012 بقرار من الرئيس الأسبق منصف المرزوقي وحلفائه في حكومة الترويكا. وقد جاء القرار في نفس اليوم الذي أعلِنَ فيه عن استئناف العلاقات بين السعودية وإيران وفي سياق إقليمي عربي يتجه نحو تطبيع العلاقات مع النظام السوري.
أغلب هذه “المواقف السيادية” جاءت كرد فعل على انتقادات بخصوص انحرافات “المسار الديمقراطي” وعدم احترام الحريات السياسية والمدنية. أغلبها أيضا استهدف أشخاص وجماعات لا نفوذ سياسي ومالي لديهم (مهاجرون غير نظاميون، نقابيون، حقوقيون) وبعضها لا تفسير له إلا إرضاء حلفاء أو التخندق في محاور إقليمية بشكل قد يضرب السيادة الوطنية الفعلية.
هذه السيادة المُفرطة تحضر وتغيب حسب موازين القوى. لم نسمع موقفا رسميا يحتج على مناقشة الرئيسين الجزائري والإيطالي (روما، ماي 2022) لشؤون تونسية بحتة، ولا عندما تحدث النائب الجزائري السابق عن حزب جبهة التحرير الوطني الحاكم، هواري تيغرسي، عن تونس باعتبارها “ولاية جزائرية”. نفس الصمت لاحظناه عندما ناقشت رئيسة الحكومة الإيطالية جورجا مالوني مع حاكم الإمارات العربية محمد بن زايد (أبو ظبي، مارس 2023) الوضع في تونس علنًا وبكل أريحية مقترحة دعمها ماديا حتى تستقر أوضاعها فيقل تدفق المهاجرين غير النظاميين. ولعل قضية الناشطة الجزائرية المعارضة أميرة بوراوي أبرز مثال على تخبّط الديبلوماسية التونسية وضبابية مفهوم “السيادة الوطنية” لدى السلطة الحاكمة. السلطات التونسية كانت مستعدة لتعريض سلامة وحرية بوراوي للخطر عبر ترحيلها إلى الجزائر إرضاءً للنظام الحاكم هناك والحليف للرئيس سعيّد، لكن دخول الفرنسيين على الخط وضغطهم على المسؤولين في تونس أفضى إلى تمتيع بوراوي -الحاملة للجنسية الفرنسية أيضا- بالحماية القنصلية ومن ثم اجلاؤها إلى فرنسا لتنشب أزمة دبلوماسية بين فرنسا والجزائر وتجد تونس نفسها في إحراج كبير. وربما كان قرار إقالة وزير الخارجية التونسية السابق عثمان الجرندي قربانا لتهدئة الجزائريين. دفع مواطنون تونسيون ثمن هذا التخبط والعجز السيادي عبر إذلالهم لمدة أيام لدى عبورهم الحدود الجزائرية: فركة أذن صغيرة من “الشقيقة الكبرى”. ويُمكن أن نسترجع هنا عشرات المرات التي سكت فيها الرئيس التونسي ووزراؤه على تصريحات أوروبيّة مستفزّة بخصوص قضية الهجرة غير النظامية، وتصريحات مسؤولين غربيين حول الوضع السياسي في البلاد، وتصريحات لمسيّري المؤسسات المالية الدولية الكبرى مهينة ومبتزة لتونس الباحثة بكل ثمن عن قروض تحلحل قليلا أزمتها المالية. ولا يفوتنا التذكير بأن السلطات التونسية لازالت تحرس بكل حماس حدود الاتحاد الأوروبي التي صدّرَها إلى دول الجنوب مقابل تحفيزات مالية وتجهيزات بعتاد متطور حتى تكون أكثر يقظة في اصطياد الفقراء الذين يريدون القفز فوق أسوار قلعة أوروبا وتهديد “تركيبتها الديمغرافية” و”هويتها”.
“ولنا فيها مآرب أخرى”
اللعب على وتر السيادة وإلهاب “المشاعر الوطنية” وصفة قديمة وفعّالة كثيرا ما لجأ إليها الحكام -خاصة في الأنظمة الشعبوية والكليانية- عندما يشتدّ عليها الضغط. ويبدو أن السلطة الحاكمة في تونس حاليا والتي لم تتميز يوما بإبداعها واجتهادها في اجتراح الحلول تفضّل الوصفات القديمة المجرّبة. وهي “مُحقة” في هذا التوجه الذي يضمن لها مكاسب في المدى القصير. أوّلا، هذا يمكّنها من ترسيخ مُسلّمة بسيطة وفعالة في زمن الأزمات: المشاكل التي تعيشها البلاد ليست ناجمة عن فشل السلطة الحاكمة في إدارة الشأن العام وإيجاد حلول لها بل هي نتاج مؤامرات خارجية ينفذها “عملاء” محليون حتى يجوّعوا الشعب ويحاصروا النظام الحاكم ويُؤلّبوا الناس ضده. ولا سبيل لمواجهة هذا الخارج المعتدي إلا بالالتفاف وراء القائد الوطني الشجاع والمدافع عن سيادة البلاد. ولكي يضمن النظام هذا الالتفاف الشعبي يجب أن يسعى جاهدا لازدهار خطاب المؤامرة وشيوع ألفاظ مثل “الخونة” و”أعداء الوطن” و”العمالة للخارج” و”المرتزقة”، وتواتر الأخبار والمحاكمات التي تستهدف “المتآمرين”.
ثانيا؛ إن تسويق نظام قيس سعيّد لنفسه كمدافع شرس عن السيادة الوطنية وخائض لمعركة “تحرير وطنية” يمكّنه من إرساء معادلة تجعل من كل صوت “نشاز” (سياسي، نقابي، صحافي، حقوقي…) بمثابة خيانة للوطن. وفي أقل تقدير يُعتبر من وجهة نظر الحكم إضعافا للـ”جبهة الداخلية”. وهذا يمنح الأجهزة الأمنية الموالية للسلطة -وربما المتحكمة في الوضع- إمكانية التضييق على المعارضة ومحاصرتها وسط ترحاب فئات واسعة من الشعب تتعطش إلى مزيد التنكيل بهؤلاء “المرتزقة” الذين “باعُوا ذممهم” للخارج ويريدون إسقاط القائد الوطني وعرقلته.
ثالثا؛ ربما يرَى قيس سعيد أن خطاب “السيادة الوطنية” وما قد يجلبه له من شعبية والتفاف “للجبهة الداخلية” حوله يمثّل نوعا مَا ضمانة تَحميه من مناورات قد تقوم بها محاور إقليمية أو قوى دولية لإسقاطه أو إجباره على عقد “صفقات” مع قوى سياسية أو جماعات مصالح محلية.
رابعا؛ الرئيس قيس سعيّد يتمثل نفسه منقذا للبلاد وزعيما وطنيا من طينة القادة التاريخيين الذين تحفَظهم ذاكرة الشعوب. ومن الواضح أن وَلَعهُ بالتاريخ و “العظماء” لم يعد خافيا على أحد. ديباجة دستور 2022 لوحدها يمكن أن تصوّر لنا بوضوح أن الرئيس التونسي يبحث عن موقع في التاريخ لا فقط بوصفه زعيما وطنيا فذا، بل كشخصية مؤثرة في العالم. والمراتب الرفيعة والمكانة العظيمة تستوجب أفعالا لا تقل رفعة وعظمة، مثل تحدّي رئيس دولة “صغيرة” لقوى إقليمية ودولية وصموده أمام “مؤامراتها”.
من بين المغالطات السائدة بقوة في تونس حاليا التعارض بين سيادة الوطن وسيادة المواطن وضرورة الاختيار بينهما. هل هناك أوطان حرة فعليا بمواطنين مكسورين مكمّمي الأفواه، يسلخ الفقر وغلاء المعيشة والبطالة جلودهم ولا يتمتعون بتعليم وصحة ونقل محترمين؟ هل هناك سيادة حقيقية عندما يكون اقتصاد البلاد أوهن من بيت العنكبوت؟ هل هناك تجربة حكم شعبوي أو شمولي خلقت سيادة وطنية فعلية ومستدامة؟ هل يمكن الحديث عن سيادة وطنية تتغير معاييرها وحدّتها حسب درجة قوة أو ضعف “الخصم”؟
علّمتنا أغلب الأنظمة العربية -وحتى تجارب في مناطق أخرى من العالم- أن نتحسس عقولنا كلّما تحدث الحاكم عن السيادة الوطنية وأطنب في ذلك. عادة ما تكون “موجات” الوطنية العاتية ساترا دخانيا يُراد به حجب الفشل الشديد أو تهيئة الرأي العام لموجات من التسلط السياسي وقمع الخارجين عن “الإجماع الوطني”.